د. محمد حسين هيكل
د. محمد حسين هيكل


الشك وسر الوجود

الأخبار

الأربعاء، 28 أبريل 2021 - 06:05 م

كل فرد وكل جيل يجب أن يعيش فى خير ظروف هيَّأ له القدرُ العيشَ فيها، وهذه الظروف لا شأن للفرد ولا للجيل فى اختيارها، هى أثر هذا الميراث الذى يخلفه الماضى الطويل لكل جيل من الأجيال، وكل جيل يضع آراء الأجيال التى سبقته موضع الشك، ومن كل جيل يقوم مَن يهدم آراء كانت موضع إيمان أجيال سابقة، وفى كل جيل يكشف العلم ويكشف النظر عن أوجه من الحق كانت مستورة، وأوجه من الباطل كانت لامعة، لكن كل جيل يَطْمَئِنُّ آخِر الأمر إلى أنه وقف على حقيقة الحياة وأزاح الستارعن كل مواضع الشك، وعندئذٍ تصبح هذه الحقيقة عنده شهوة الفكرة التى تحرِّك الحياة، وتدفع الوجود فى سبيل التوازن والتقدم.
وما نظننا بحاجة إلى ضرب الأمثال لهذا التطور الدائم فى حياة الأفكار ما بين جيل وجيل، وأمة وأخرى ؛ فقد تعاقبت الأديان وكلٌّ منها يقر الدين الذى سبقه، وتعاقبت المذاهب الاجتماعية والاقتصادية، وكل مذهب يرى فيما سبقه سببَ آلام الناس ومصائبهم، ثم لا تحقق الحياة من أمر المذهب الجديد إلا أن تحور المذهب القديم بالمقدار الذى يسمح بعيش الجماعة فى خير ظروف هيَّأ لها القدر العيش فيها، وكم من آراء كانت موضع إيمان الناس زمنًا ثم شَكَّ الناس فيها، ثم ألقوها جانبًا أن رأوها ظاهرةَ الخطأ، بل السخف والسقم، وهذه نظرية روسو عن العقد الاجتماعى، حسبها أهل زمانه وحسبها من بعده من أهل الثورة الفرنساوية آية الآيات، فآمنوا بها إيمان كل ساذج بفكرته البسيطة عن الحياة، وها هى اليوم معتبرة من السخافات، يعجب الناس اليوم كيف ساغ لعقلٍ أن يأخذ بها، وكيف ساغ لجيل أن يقيم عليها كل إيمانه.
هَبْ رجلًا من الناس أوتى سر الخلود، فرأى بعينيه هذه الأجيال التى تتعاقب فيهدم كل جيل شيئًا من آراء الجيل الذى سبقه، ورأى أنه لا تكاد تمر فترة قصيرة من فترات حياة الوجود، كألف سنة أو ألفين، حتى تصبح فكرة الوجود شيئًا جديدًا غير الذى كانت، وحتى يكشف الناس من أسرار الوجود عن كثير أو عن قليل غير الذى كشف عنه مَن قبلهم، وحتى يختفى شيء من الأسرار التى كانت قد كُشِفت. أفتظن أن هذا الذى أوتى سر الخلود فاطَّلَعَ على تنازع الأجيال وعلى الأفكار وقيامها وانهيارها، وعلى أسرار الوجود وظهورها وخفائها؛ مطمئنا إلى حقيقة أيٍّ من هذه الأسرار أو تلك الأفكار، أم تراه يتولاه الشك فيها جميعًا، وينظر إليها آخِر الأمر على أنها حقائق لازمة لقيام حياة الناس، عاجزة تمام العجز عن تفسير سر الوجود.
والفكر فى أسمى درجات تفكيره يطمع فى الكشف عن سر الوجود، والإنسان المفكر وإن كان قصير مدى العمر فى عدد السنين، إلا أنه باستيعاب ميراث تفكير الماضى يظن أنه قد استعرض حياة الوجود الفكرى مما قبل التاريخ، ويزعم أنه كذلك الذى أوتى سر الخلود، قد رأى بعينيه تعاقُبَ الأجيال واقتتال الأفكار وانهيارها، وهو لذلك يخرج من استيعابه واستعراضه بذلك الشك الفكرى أو الشك الفلسفى الذى لا يؤمن بفكرة ولا ينقض كل فكرة، والذى يضطر غاية الرأى وبحكم الحياة التى تسيرها الشهوة إلى الميل بفطرته، لتفضيل نوع معينٍ من العيش، وإن رأى بفكره أن هذا النوع المعين ليس لذاته خيرًا من سواه.. هذا الشك الفكرى هو السبيل الوحيد لبلوغ الحقيقة الكامنة عند سر الوجود، إنْ كان ثمة حقيقة كامنة عند سر الوجود، أو كان للوجود سر غير ما يُدرَك بالفطرة، وهذا الشك الفكرى لا يصل إليه إنسان إلا بعد استعراض كليات تفكير الوجود، وبحثها بحثًا دقيقًا.
فأما الشك الذى يصل إليه كثير من الناس لسرعة ملالهم من البحث، والشك الذى يحتمى به كثيرون ممَّن لا يريدون التقيد بفضائل نوعٍ معين من الإيمان، فذلك شك لا يصلح سبيلًا لشيء فى الحياة، ولا يصلح نظامًا فكريًّا لأحد، إنما هو نوع من اليأس أو الشلل الفكرى يقف بصاحبه عن أن يشارك المؤمنين فى إيمانهم والباحثين فى بحثهم.
والشك الفكرى الصحيح الذى يعمل أبدًا لكشف ما هو مستور من ضياء الحق، والذى لا ينخدع أبدًا بضياء يحجب عنه أستار الريب، هو من الإيمان بمثابة العالَم الواسع من القَصْر الأنيق، فهو لا يفتر يقلب هذا العالَم يريد أن يقف منه على جديد. أما المؤمن فهو متى أقام قَصْره احتمى فيه، وقصر همه على زخرفه، وهو قد يكون بذلك أكثر سعادة، وأبعد عن تيهاء الضلال، لكنه يظل حياته حبيس إيمانه بينا يجد الآخَر فى شكه سبيلًا لإيمانٍ يتجدد كلما برق شعاع جديد من حقٍّ كان مستورًا، ثم ينهار كلما غشت الظلم شيئًا من الضياء، فإذا كان للمؤمن طمأنينة بإيمانه وسعادة بطمأنينته، فللشاكِّ سعادة كبرى بالحقائق المتناقضة التى تبدو أمامه ثم تخفى، لكنه مع ذلك لا غنى له عن إيمان يسلِّط عليه شهوات فكره، كما أن المؤمن لا غنى له عن مواضع شك يستريح عندها إلى أنه ما زال يفكر.
«الهلال» - نوفمبر 1925

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

مشاركة