يعقوب:رواية مراوغة بين الشرق و الغرب
يعقوب.. رواية مراوغة بين الشرق والغرب
الإثنين، 09 أغسطس 2021 - 01:13 م
د. فكرى حسن
صدرت عن دار الشروق حديثا رواية يعقوب لأستاذ التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور محمد عفيفي، وهي عمل يستخدم تقنيات الرواية الحديثة لتتبع رحلة المؤرخ القاص للكشف عن أبعاد شخصية المعلم يعقوبس المثيرة للجدل الذى ولد فى ملوى عام 1754 وعمل مع المماليك فى جباية الأموال حتى مجيء الحملة الفرنسية (١٧٩٨ -١٨٠١)، عندما كانت مصر فى آخر فترات الحكم العثماني، فعمل مع الجنرال ديسيه فى حملته التى قام بها لإخضاع الصعيد ومطاردة جيش مراد بك، كما نظم يعقوب كتيبة من شباب الأقباط عُرِفت بمسمى زالفيلق القبطيس للمساهمة فى إخماد ثورات القاهرة ضد المحتلين.
نتعرف من خلال الرواية على ما يحيط بالمعلم يعقوب الذى نصبه الفرنسيون جنرالاً فى 1801 مكافأة على خدماته والذى نظر إليه بعض المؤرخين والكتُاب كخائن لوطنه بينما ينظر إليه الآخرون كبطل قومى يسعى للتخلص من الحكم الظالم المتخلف للمماليك والعثمانيين بالانضمام إلى صفوف فرنسا لكى تنال مصر استقلالها.
يلجأ عفيفى إلى الرواية ليعطى لعمله بعداً تصويرياً يتلامس مع الخيال من خلال ما يراه الراوى من أحلام مع مشاهد واقعية من الحياة مما يتيح له حرية التحرك على مستويات ومحاور متعددة. لذلك رواية مراوغة، فهى ليست رواية تاريخية عن المعلم يعقوب، وإنما هى فى صميمها رواية تفجر إشكالية علاقة الأحداث والأشخاص التاريخية بالتاريخ الذى يحرره المتخصصون الذين يتيح لهم المجتمع الحديث الُحكم الأول والأخير فى مجال ما حدث فى الماضي، بدون اعتبار لما تقدمه الأساطير والتاريخ الشفاهى الشعبى والحكايات التاريخية، ولكل منها، كما للتاريخ الأكاديمي، أهدافه وغاياته المُعلنة والمستترة، ومناهجه وجمهوره ووسائطه.
يقدم عفيفى أبعاد التاريخ المتعددة فى مزيج لطيف سلس، مع التأكيد على موقف الراوى فى شخص زالتلميذس من مؤسسة التاريخ الأكاديمى وانحيازه للرؤية النقدية المغايرةتومدارس التاريخ الحديثة، وولعه بالتاريخ كمجال للغوص فى استجلاء التكوين الاجتماعى والفكرى والنفسى للأشخاص الذين يقفون وراء الأحداث التاريخية. كما يمكننا أن نستشف لماذا ينتقى المؤرخ شخصا ما أو أحداثا معينة لما لشخصية يعقوب من أبعاد طائفية. ولكن هل تستهدف زيعقوبس، اللجوء إلى الماضى لاستجلاء الحاضر؟
لن يعوقنا الجدل عن أهداف الرواية التاريخية ومصداقيتها وأهميتها، لنستجلى كيف تختلف يعقوب عن الروايات التاريخية المصرية منذ روج لها جورجى زيدان (١٨٦١ - ١٩١٤) التى لم تخل من تمجيد التاريخ الإسلامى والعربى وأبطاله لتأكيد أواصر العروبة المستحدثة.
وربما كان الأقرب لعفيفى ما قدمه عميد الأدب العربى طه حسين ومعاصروه توفيق الحكيم وحسين فوزى ، وهم ذوو ثقافة فرنسية رفيعة، كان لها أبلغ الأثر فى تكوين جيل 1919، ونجم عن ذلك اتساع الرؤية و تعدد المرايا والمصادر والتوجهات، ولكن ذلك لم يخل من الحاجة للتوفيق بين نشأتهم وثقافتهم الرحبة التى حملتها رياح الغرب، كما أنهم كانوا أيضا فى حاجة للتوفيق بين احتفائهم بالثقافة الأوروبية بما تحمله من قيم المساواة والإخاء والحرية وما قامت به الدول الأوروبية من احتلال للبلدان العربية والإسلامية وما نجم عن ذلك من حركات وطنية وقومية تنادى بالاستقلال. ومن هذا يمكن بوضوح أن ندرك أهمية المعلم الجنرال يعقوب المصرى الذى تناوله بالدراسة العديد من المؤرخين لعلاقته الملتبسة مع قوات الاحتلال الفرنسية.
ولنا أن نتساءل عن الباعث وراء اهتمام عفيفى بيعقوب وهل هناك علاقة بينها وسعصفور من الشرقس لتوفيق الحكيم وسمن الشرق والغرب ز لأحمد أمين وسمن حديث الشرق والغربس لمحمد عوض محمد ومستقبل الثقافة فى مصر و صوت باريس لطه حسين وسندباد إلى الغرب وسندباد عصرى لحسين فوزي. وهل يمثل عفيفى وريثا للظاهرة الأدبية الفكرية التى تنبع ربما من الصراع النفسى بين محاسن الثقافة الغربية الأوروبية ومفاسد الاحتلال الأوروبي؟ أو أنها تنبع من الصراع بين الهوية المصرية الوطنية والجاذبية الآسرة للفكر والأدب الأوروبى الحديث؟ وهل يعبر عفيفى فى يعقوب عن نوستالجيا للمجتمع المصرى الفريد الذى عاصره فى طفولته فى شبرا بما تميز به الحى من تسامح وكوزموبوليتانية وحسرته على ما سببته الطائفية منذ عهد قريب من تخريب وتدمير للمفهوم الاجتماعى والسياسى للمواطنة؟ تتشعب الأسئلة وتتشابك لأن يعقوب فى بؤرة العلاقة التاريخية بين المصريين من الديانتين اللتين عرفتهما مصر بعد أفول الحضارة المصرية القديمة على الصعيد الرسمى وتحول المصريون أولا إلى المسيحية ثم الإسلام فيما بعد، كما أنه يقف بين ما تمثله مصر من موطن وما تقدمه فرنسا من ثقافة منفتحة. ربما يكشف عن ذلك لقاء الراوى أثناء دراسته فى باريس، بالفتاة اللبنانية اُمنية بعد ولعه بأخرى دلفين فرنسية شقراء لم يرحب والداها باستضافتها له فى منزلهم فى مرسيليا من جراء العنصرية التى توارثها الأوربيون من ثقافة الاحتلال. أحب الراوى اُمنية التى لم تختر أن تعود معه إلى مصر لأنها قررت ألا تعود إلى منطقة الشرق الأوسط (التوصيف الجغرافى المخططات الاستعمارية) لتهاجر إلى كندا أو أمريكا حتى لا يشب أولادها فى بلدان مضطربة لن تدخل بسهولة فى القرن القادم - القرن الأمريكي.
عاد عفيفى من فرنسا، برسالتها الحضارية الحديثة، إلى العالم العربى المضطرب ليواجه ضيق الأفق الأكاديمى المتجمد وظلامية التطرف الجهول، ولكنه عاد بلا إعلان للطاعة أو للخضوع للأساتذة المخضرمين، ليجد خلاصه فى تلاميذه الذين يحملهم معه إلى التساؤل والبحث فيما تقدمه الرواية والسينما من رؤية مغايرة للتاريخ الحديث والمعاصر بعيدا عن زالصم والحفظس والانكفاء على التواريخ المصادر التاريخية المعتادة.
يعقوب رواية مراوغة ظاهرها البحث التاريخى وباطنها العلاقة المثيرة للجدل بين الرواية والتاريخ، وبين التاريخ وذاتية المؤلف أو المؤرخ، بين التاريخ الاجتماعى والتاريخ القومي، بين التاريخ الوضعى والتاريخ الذى يلجأ إلى البعد النفسى للشخصية، بين التاريخ الذى يتناقله المؤرخون والتاريخ العائلى الذى يتناقله أفراد العائلة أو القبيلة والتاريخ الشعبى الذى يتولد من داخل قناعات العامة. كما أنها تطرح تساؤلات هامة آنية عن الانتماء الدينى والمواطنة، وحتى عن مفهوم الوطن والعروبة، وعن مصطلحات التقسيم الجغرافى للبلدان والأقاليم وما تبطنه من أغراض سياسية.
تكشف الروايات عن الأبعاد النفسية التى تخلو منها الحكايات الرسمية للتاريخ، ومنها المعاناة التى يمر بها المثقفون فى تعاملهم مع الإشكاليات الملغمة التى تتخلق من التضاد بين مفاتن الثقافة الأوروبية والرفض القاطع لسلطة وهيمنة الاحتلال. فهل كانت الإشارة الى حب التلميذ لمحة كاشفة عن عمق الصراع النفسى وعن اُمنية (لم تتحقق) وعلامة على الصراع الكامن بين ما يتردد عن التضاد بين الشرق والغرب!
ليس الكتاب سيرة ذاتية، أو رواية تاريخية ولكنه بحث عن الذات وتنقيب فى معنى التاريخ ومبتغاه.
المصدر : جريدة أخبار الادب .
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة