«شقى وسعيد»..التهجير وتقويض السرديات الكبرى
«شقي وسعيد»..التهجير وتقويض السرديات الكبرى
الإثنين، 09 أغسطس 2021 - 01:26 م
كتبت - دينا نبيل
لا يمكن لمصرى فضلًا عن عربى أن ينسى ما حدث فى نكسة 1967 وما أعقبها من انتكاسات أخرى وانكشافات كثيرة؛ فتلك الفترة المأزومة من تاريخ مصر لم يُحتل فيها جزءٌ عزيز من أرض الوطن فحسب، وإنما كانت فترة مكاشفة نفسية واجتماعية فضلًا عن السياسية، دفعت بكل مصرى إلى مراجعة حساباته وتعديل سيره ومساره. ولا يمكن إغفال دور أدب النكسة فى مضمار تلك المكاشفة وعلى رأسها رواية اثرثرة فوق النيلب التى أشارت إلى أصابع الفساد التى تسببت فى الهزيمة، أو استخدام الإسقاطات والإحالات الرمزية كما هو الحال فى رواية اشيء من الخوفب.
وقد تعرّضت كثير من الأعمال الإبداعية إلى قضايا موازية باعثة للأمل وبث روح التكاتف بين أفراد المجتمع المصري. ففيما يخصّ قضايا التهجير التى تعرضت لها امدن القنال:
بورسعيد والإسماعيلية والسويس، جُسدت نماذج من القصص لأفراد عاديين قدّموا العون وفتحوا بيوتهم لاستقبال المهجرين، ولم يكن هذا بدافع التأريخ بقدر الرغبة فى الخلاص من الجو الإحباطي
ورغم اقتراب تلك القصص من المثالية التى لا تنافى الواقع، إلّا أن بُعدًا آخر لم تجسر كثير من الروايات على الاقتراب منه، ألا وهو الأثر السلبى للتهجير على المهجرين أنفسهم. ورواية اشقى وسعيدب للكاتب حسين عبد الرحيم الصادرة عن دار ظلال وخطوط (2021) تخرج علينا بعد مضى ما يزيد عن نصف قرن من الزمن، لتُعلن عن هذا الجانب المسكوت عنه وتكشف ظلال التغريب والاستلاب التى تعرض إليها أهل القنال ولاسيما بورسعيد.
تأخذ الرواية شكل البينة الدائرية فى بنيتها السردية، فتبدأ أحداثها وتنتهى بمشهد مؤلم فى ثلاجة الموتى، حيث يودّع (الحسين) ذ الشخصية الرئيسة بالرواية وراويها الأوحد ذ أمّه قبل لَحْدها. وما بين البداية والنهاية، يسترجع (الحسين) أحداث التهجير بمدينة بورسعيد بعد النكسة مباشرة وهو ابن ثلاثة عشر يومًا، والمعاناة التى يواجهها المهجرون فى المعسكرات حتى وصولهم إلى البصراط ثم مستقرهم فى طلخا وتمضية عدة سنوات بها حتى قرار العودة إلى بورسعيد. وخلال تلك الأحداث، يظل الراوى صريعًا لكثير من الاسترجاعات التى تأخذه فى كل اتجاه ويتخللها تيار الوعى وكثير من الأحلام والهلاوس. وهنا يتبدّى السؤال الآتي، هل حقًا مجرد الانتقال من بورسعيد إلى أية قرية مجاورة ذ داخل حدود الوطن - يُعدّ تهجيرًا قاسيًا يضع صاحبه تحت رحمة مشاعر الاستلاب والاغتراب كما هو مُبيّنٌ فى الرواية؟ وهل يُدرك رضيع ابن ثلاثة عشر يومًا مثل تلك المعانى وهو يشهد طفولته وصباه تتفتح وتزهر فى مدينة أخرى قبل العودة إلى بورسعيد؟ إن الإجابة على مثل هذه التساؤلات من الأهمية بمكان؛ إذ تضع المتلقى فى مواجهة مع كثير من تقنيات السرد فى الرواية ومقصدية الكاتب التى قد تتبدّى له من قراءة عمل يتناول النكسة بعد مُضى أكثر من نصف قرن.
إن الأعمال التى تتناول نكسة 67 كمرتكز حدثى تعمد فى مجملها إلى فعل المكاشفة وتجريد المجتمع من أوهامه وسلطاته المزيفة أو بمعنى أصح تهدف إلى تقويض السرديات الكبرى. يبدأ هذا التقويض بطرح موضوعة التهجير من زاوية مغايرة خاصة بالكاتب كونه عايش تجربة التهجير بنفسه؛ وهى زاوية مغايرة للسردية الكبرى التى طالما ركزّت على مركزية البطولة وتغافلت عن هامشية المعاناة. فليست الرواية هنا بصدد سرد بطولات شعبية وإن كان يحدث هذا بين الفينة والأخرى، ولكن تُركز بؤرة الأحداث على الأبعاد النفسية السلبية المسكوت عنها لعملية التهجير. ولا يرجع هذا لذمٍ فى عملية التهجير نفسها ولكن هذا شأن الحرب وتلك ثيمةٌ كثيرة التمظهر فى أدب الحروب بشكل عام؛ ولكن إلقاء الضوء على هذه القضية من وجهة مسكوت عنها يمنح التجربة ظلالًا أكثر واقعية وإن كانت سلبية. فهذا الجيل هو جيل الصدمة الكبرى الآذنة بانهيار النظام القديم؛ يقول الراوى فى بداية الرواية عندما سقط رضيعًا من حضن أمه فى البحيرة وقت عملية التهجير، اوكانت صرختى الأولى التى هزّت الكون، سقطت الصّدّيقة
تحوطنى وتعدد محاولات يائسة للقبض على الباقى من جسدى النحيل، مذعورًا كنت، ينتفخ قماطى ممتلئًا بهواء البحيرة والغبار.
فيرى المتلقى هنا أحد المهجّرين الحقيقين من لحم ودم وليس كبطل ذى هالة أسطورية، يشار إليه دومًا فى ا18 حارة سعيدب حيث يقطن هو وأسرته باسم احسين ابن المهجرين، ويعانى من الوحدة وفقدان الأمان والاغتراب كونه يعرف ذ محض يعرف ذ أن المكان الذى نشأ به ليس أرضه أو مدينته الحقيقية وأنّ رحيله عنها شيء مؤكد مرهون بانتهاء الحرب. وهو ما يجيب عن التساؤل الأول الذى طرحناه سلفًا، ألا تقع بورسعيد والبصراط وطلخا داخل حدود وطن واحد؟ إن قضية الانتماء لا تتعلق بحدود وطن بقدر الشعور بالتجذر فى أرض بعينها، وهنا تنتفى تلك الصفة عن (الحسين) فى كل مكان تحط فيه قدماه؛ لذا لا يفتر يرى نفسه فى أحلامه داخل شوارع غريبة، يقول: افى شارعى الطويل الممتد لآخر الزمان فاقدًا مكانى والعنوانب، وتعقيباته فى صدره على تلاوة الشيخ محمد رفعت عندما يقرأ
اوالتين والزيتون* وطور سينين* وهذا البلد.
فيقول اأى بلد!ب. ومن ثمّ، يتبدى التشظى النفسى للشخصية الرئيسة كونه فاقدًا لبوصلة المكان وعليه، تضل منه أيضًا بوصلة الزمان فيرى نفسه رضيعًا تارة وبالغًا تارة أخرى، يتكلم بلسان الصبى المراهق ثم يعود إلى لسان الرضيع مجددًا. فيسيطر الزمن النفسى المشتت على الزمن السردى خالقًا نوع من التوتر والارتباك المقصود لدى المتلقى للوقوف على مدى التصدع النفسى الذى يعانيه مهجّرو الحرب.
ويمتد هذا التصدع النفسى إلى تقويض سردية كبرى أخرى وهى الذات الإنسانية نفسها؛ فالشخصية الرئيسة بالرواية ليست ذاتًا واحدة ذ كما هو المعهود - وإنما مشطورة إلى خمس ذوات. يقول الراوي: اأنظر فى دهشة، أستطلع وجوه خمسة من الأشقياء، كانوا وحدهم يسيرون بخفة بلا صوت... يشبهوننى وقت الخطو والركض واستشعار الخطرب. يرى (الحسين) خمسة أشخاص يشبهونه يظهرون له من حين لآخر يخلقون لديه ولدى المتلقى نوعًا من المخاتلة تزداد حدتها كلما استشعر الوحدة والاغتراب. ففى المشهد الذى يسبق دخول (الحسين) ذ فى السيارة وحيدًا - إلى حدود مدينة بورسعيد، وفى أحد هلاوسه، تحدث معركة بين ذاته وظلالها الأخرى، يستجوبهم فيردّون عليه اأنا ظلّك
.. أنا عملك.. أنا الطفل المغولي... أنا الطفل القابع فى روحك ويحمل بلطة ويهمّ بتقطيعهم لولا ضربه بكفه بكل قوة على خلفية كابينة السائق. ومن ثمّ، يقف المتلقى على توصيف لنفسية أحد المهجّرين فانفصاله ليس عن الزمان والمكان فحسب وإنما عن الذات أيضًا. إلا أن هذا الانفصال يحمل داخل طيّاته تدميرًا للذات فى لحظاتها الماضية بآلامها وأتراحها ويُعيد بناء الذات بشكل أكثر اتساقًا مع الحاضر بعد التخلص من تلك المخاتلة. لذا تنماز شخصية (الحسين) بتطور ديناميكى رغم صخب وتوتر الشخصية إلا أنّه يُصاغ على مهل وعلى مر الأحداث. لذا بدأت الرواية بمشهد موت الأم وبتسمّرب (الحسين) دون أن يدرى أى رد فعل عليه أن يسلك، بل أخذ يفكر فى كل لحظاتهما سويًا. لتأتى سلسلة طويلة من الاسترجاعات على مدى ثمانية عشر فصلًا إلا أنّه وعند انتهاء الرواية وبعد الوصول إلى لحظة الكشف، ينفجر (الحسين) فى البكاء ويناديها اخذينى معكِب ذ وهو الرد الطبيعى من الابن فى تلك اللحظة.
وتستمر سياسات التقويض بتوظيف الكاتب لوجهة نظر سردية فريدة من نوعها؛ فالراوى رجل فى الخمسين من عمره منغمس فى ذاكرة الطفولة إلى الحد الذى يُنسى فيه أمر ذلك الراوى البالغ برمته ويسيطر الصوت السردى للطفل على الأحداث بتذبذبه، وملاحظته لدقائق الأحداث دون فهم المغزى من ورائها، ومراقبته السلبية دون تدخّل فعّال من جهته إلى جانب سطوة الحلم على أفكاره وواقعه، يقول مثلًا: اأجول ببصرى فى الفضاءات الخلفية عند الرفاس، أستطلع الطفل الأسمر وقد بدأ يرمى بطيارة ورقية تحمل ألوانًا زاهية
... كنت أدقق النظر، أرقب الآفاق العاليةب. ولا شك فإن لوجهة نظر الطفل الأثر البالغ فى خلق مشهدية عالية ترصد صورًا مختلفة عبر جمل سردية قصيرة متلاحقة دون إسهاب، ودون تدخّل فى رؤية المتلقى نفسه؛ فيترك تأويل ما يرى وقراءة المشهد للمتلقى فى حيادٍ تام.
ويؤثر هذا الصوت السردى الفريد من نوعه فى بنية الرواية بأكملها؛ فيتشظى الخط السردى بين كثير من الأحلام والهلاوس إلى حد قد يفقد فيه المتلقى أحيانًا إمساكه بزمام الخط السردي. يسعى هذا الصوت إلى تفكيك سطوة البالغين ولاسيما الأب الذى يغيب عن المشهد الحدثى إلى قرابة منتصف الرواية؛ لذا يتكرر سؤال (الحسين) دومًا اأين أبي؟ب، ثم سؤاله اأين أمي؟ب فى النصف الآخر من الرواية. ولعل لغياب البالغين مدلولًا واضحًا لا يخفى عن المتلقى ألّا وهو انهيار السلطة الأبوية لمجتمع الآباء بعد النكسة. فــ(الحسين) وأقرانه هم جيل ما بعد النكسة، هم الجيل الذى عليه تشييد البنيان الذى هدمه جيل الكبار بسبب تعنتهم وعنجهيتهم وقسوتهم أحيانًا كما هو واضح فى معاملة والد (الحسين) القاسية لأولاده. وعليه، تحتّم على الكاتب جعل راوى روايته طفلًا أو بالغًا بذاكرة طفل، يُعطّل صوت الكبار ويصير هو مركزًا للقوة السردية والمتحكّم فيها رغم صمته الدائم.
وعلى الرغم من موقف المشاحنة الذى يتجلى بين جيل الكبار وجيل الصغار، إلا أنّه لا يمكن إغفال توظيف الكاتب لبعضٍ من الإحالات الرمزية ولاسيما فى أسماء بعض الشخوص. فبدت والدة (الحسين) - (الصّدّيقة) ذ شخصية تحمل كثيرًا من التناقضات، وفى أحيانٍ أخرى يخلق الكاتب تماسًا بينها وبين (فؤادة) ذ شادية، بعينيها النجلاوتين ذ فى فيلم اشيء من الخوفب، فيقول بعد مشهد محاولة اغتصاب أمه من أحد المهجرين فى حمام معسكر البصراط، اأستعيد طلتها، ملامحها، جبروتها وقوة شكيمتها صلابتها عندما تكشّر عن أنيابها. دارت بى خيالاتى والفيلم لم يزل ينطق بالحوار فى أرضية مغبّرة داهل شاشة سوداء: اباطل، باااااطلب. فى ذلك المشهد الذى يرتبط فيه الوعى الجمعى بشخصية (فؤادة) التى ترمز لمصر نفسها، يبدأ المتلقى فى رسم حدود تماس بين (الصّدّيقة) ومصر؛ إلا أنّ الراوى لا يلبث أن يقوّض ما رسمه المتلقى عبر إبراز علاقة (الحسين) المضطربة بأمه ونظراته الـــ (أوديبية) ذ نسبةً إلى اأوديب الملكب ذ لأمه، التى يمتزج فيها الوصف العاطفى بالحسى لجسدها.
ويتبدّى هذا التقويض الأشد إيلامًا فى اسم شخصية (أم هاشم)، تلك الفتاة التى أحبها (الحسين) فى صباه. لا يخفى على المتلقى مدلول اسم (أم هاشم) فى الوعى الجمعي، وارتباطه بالسيدة زينب أم المساكين التى يلجأ إليها كل مكروب. وفى الرواية تظهر تلك الفتاة التى تمثّل النبراس الوحيد للأملٍ لدى (الحسين)، يلجأ إليها كلما شعر بالوحدة أو الحزن، وتأتيه فى هواجسه، وتقول اتمسّك بالأمل يا حسين، غدًا ستعود لبلدك.. بورسعيد.. مكان الميلادب. كما اتسمت تلك الفتاة بحبّها للمسجد وحفاظها على الصلاة؛ وعليه يبنى المتلقى علاقات متشابكة بين دلالات اسم (أم هاشم) والطُّهر ومساعدة المكروب ودلالة اسم (الحسين) فى هذا السياق، ثم يقوّض الكاتب تلك العلاقات جميعًا عندما تُغتصب (أم هاشم) فتشعل النار فى جسدها وتموت. وتتحول إلى شبح يظل يلاحق (الحسين) فى صحوه ومنامه وتأتيه فى صور مرعبة عبر النافذة: اافتح، جئت إليك لتطفئني.. أنا أم هاشم.. أنا بموووت يا حسين. ومن ثمّ، يوظّف الكاتب عددًا من الأسماء ذات دلالات فى الوعى الجمعى ثمّ يقوّضها لبناء أجواء مصاحبة للتشتت والتصدع النفسي.
وأخيرًا، فإن رواية اشقى وسعيدب للكاتب حسين عبد الرحيم تتناول أحداث ما بعد نكسة 1967، وقد تناول الكاتب عددًا من السرديات الكبرى عبر إلقاء الضوء على قضية التهجير، ثم شرع فى هدم الواحدة تلو الأخرى، وبناء سرديات أخرى جديدة. ولكن يبقى السؤال ما الجدوى من تقديم المزيد من أدب النكسة فى العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين؟ قد لا يكون الأمر بهدف التأريخ الاجتماعى بقدر تمثيل التشوهات النفسية والاجتماعية التى تنتج عن النكسة أيًا كان نوعها وزمنها ولفت نظر الأجيال الجديدة التى تفتقد الصلة بتاريخها وأصالتها إلى الأمانة الثقيلة على كاهلهم ألا وهى حفظ الأرض والوطن.
المصدر : جريدة أخبار الادب
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة