عبد العزيز الجندى
زيارة لمعرض عبد العزيز الجندي : براح الروح والأمكنة
السبت، 18 سبتمبر 2021 - 04:37 م
منى عبد الكريم
للأماكن بعبقها وتفاصيلها مساحة كبيرة فى أعمال الفنان عبد العزيز الجندى، تراه يتجول من شارع لآخر ومن حارة لأخرى، يقضى أياما متأملا الطبيعة ومتغزلا بالأشجار فى حديقة الأورمان، يشد الترحال أحيانا من القاهرة إلى الإسكندرية أو غيرها من المدن ليسجل أثر مروره بتلك الأماكن أو مرورها به، ويحكى بروح المنغمس حتى النخاع فى مذاق الحياة المصرية عما تقع عليه عيناه ويمس وجدانه .
فى معارضه الفردية ثمة تأكيد على ارتباطه بتفاصيل تلك الحياة اليومية، نراه جليا فى أعماله وفى اختياراته لأسماء معارضه ومن بينها «مشاهد مصرية» و«مائيات مصرية» وعن الأحياء الشعبية وعربات ومراكب ويوم الجمعة، ومن هنا، بل إن بعضها يذكرنا بالإنسان المصرى ومن بينها «وجوه ومصرى» و«شخوص محفورة»، و«ملامح مبعثرة» وغيرها.
فى معرضه الأخير الذى استضافته قاعة الباب سليم مؤخرا تحت عنوان «براح»، لم يتخل الفنان عن عشقه للأماكن وحكايات البشر قاطنيها، ولكنه اختار أن يعبر عن موضوعاته الأثيرة من خلال الاحتفاء بالبراح، إذ تعمد أن يترك فراغات كبيرة فى مسطح كثير من الأعمال معبرا عن مفهوم البراح الذى يترك متنفسا لباقى العناصر ويؤكدها.. قائلا أنا مهتم بالفراغ فى العمل الفنى بشكل عام.. وأعنى هنا الفراغ المفيد الذى يترك حالة من البراح .. والبراح ليس مجرد فراغ، ولكنه إحساس نفسى بالراحة والسكينة.
تلك الحالة من السكينة انتقلت إلىّ بينما أشاهد الأعمال والتى عبر عنها الفنان ليس فقط من خلال أعماله الفنية بل كذلك من خلال كلمته عن المعرض التى تفيض بالعذوبة يقول فيها: يمتلئ القلب «بالبراح» حين يتسرب إليه من الفراغات الكونية المحيطة به.. والتى تلتقطها العين مستمتعة بما تشاهد فتحدث حالة من الاتساق الوجدانى يتم التعبير عنها مباشرة، الفراغ هو سيد الموقف..فى المشهد، أو فى تكوين يتم ترتيب عناصره بحذر للحفاظ على هذا المتنفس الذى يعطى جرعة من الراحة والسكينة، نصحو مبكرين فنجد «براحا» وسلاما فى النفس يتواصل مع «البراح» الكائن فى الطرقات الخالية..وكأنها تستقبل فى رضا من يزيح النعاس عن عينيها ووجهها... فترتقى الحالة وتسمو بالنفس، وتزيد مع نسمات حائرة تُنعش الأبدان بارتعاشة تهز الخلجات فى نشوة وهيام وهناك عند حافة الشاطئ..حيث التقاء ماء النهر باليابسة.. ينشأ الإحساس «بالبراح»..والذى يزداد مع تعانق الأشرعة بفضاء السماء، تتم مخاطبة المكان فيبوح بسره.. ويكمن السر فى بعض المرئيات المستخلصة من تفاصيل كثيرة.. تلك المرئيات التى هى جوهر الروح.. يتم التقاطها وصياغتها بأقل خطوط وبمساحات خفيضة الوقع متعايشة فى سلام دون صخب، ونفاجأ بفراغات شاسعة قد تركت خالية للتعبير عن هذا «البراح» الكامن فيها والمميز لها فتزداد تحليقا فى عالم رحب يشبه الخيال، يسيطر «البراح» على الأمكنة..والشخوص..وعلاقات بين عناصر تهيم فيؤكد على تكاثفها.. ويستمر الحوار بين «براح» النفس.. و«البراح» الكائن فى المشهد..ويمتد التأثير والتأثر بينهما فتتم الحالة «البراحية» كصياغة للعمل..وللروح.
للوهلة الأولى ومع جولتى بالمعرض كانت البطولة فى كثير من الأعمال للمكان أو بمعنى آخر للبراح مع غياب الشخوص، لكن بنظرة متفحصة، شاهدت الكثير من الأبطال الذين يختفون ببراعة داخل اللوحات، كأنهم يراقبون العالم من زاوية أخرى، أو ربما يتخلصون من عبء الزحام فى مساحة رحبة بحثا عن أنفسهم، أو بحثا عن تجليات تخلصهم من قيود العالم المادى كما فى رقصة الصوفى الهائم، فى لوحة أخرى ربما تجد عين خفية تتبعك أو ربما تدعوك للتوقف لبضع دقائق لتستمع إلى نفسك، بساطة هى عين كاشفة.
ولم يكتف عبد العزيز الجندى بأولئك الأبطال الخفيين، إذ نراه يحكى قصصا لأشخاص قابلهم بالفعل مثل حكاية العم مدبولى التى رواها لاحقا على صفحته على الفيس بوك مصاحبة للوحته إذ يقول فى مقتطف من الحكاية «أمام الجذع تخيلته بكتلته الرابضة.. كتلة من الود والعطاء لكل من حوله..ومشاعر متلاطمة ومتلاحقة كونت هذا الكيان الثرى.. بأحداثه التى مرت.. منذ سنين طويلة.. فقد عبرت على جسده الأيام بحلوها ومرها..حتى أنهكته.. وبدت علامات محفورة على تضاريس الوجه الصامد فى حيرة وشوق لتعويض الساعات العصيبة وذكريات اللهيب. وضعت كتلته بقصاصة سمراء استقرت بثقلها أمام الجذع العتيق.. ليتحاورا ويشكو كل منهما للآخر.. ويقص ما حدث.. والذكريات».. لكل عمل حكاية، فى عمل آخر يحتفى الفنان عبد العزيز الجندى بمجموعة من خطاطى كسوة الكعبة، وفى آخر بعرائس شهاب الدين.
وعلى الرغم من أن المعرض كله خرج بروح واحدة يغلب على اللوحات الحس التعبيرى باللمسات اللونية الصريحة والمختزلة، ويجنح هذا الحس أحيانا إلى ما يشبه التجريد.. إلا أن كل عمل حمل بصمة فريدة سواء فى معالجة الموضوع أو استخدام الخامة أو التقنية، إذ وظف الفنان فى أغلب أعماله تقنية ورق الذهب الملصق على السطح فيما يشكل أرضية العمل التى وضع عليها مفرداته بألوان الأكريليك والجواش والأحبار فى بعض الأحيان، لكن ذلك لم يبعده عن توظيف عناصر أخرى من الورق المطبوع بزخارف نباتية وهندسية، وكذلك بإضافة أوراق النباتات والشجر لإثراء السطح وخلق علاقة تشكيلية بين هذه الخامات المختلفة. أو حتى استخدام قطع خشبية كما هى من الطبيعة لتصبح هى مسطحه، ليضيف إليها إبداعاته كما فى لوحة عرائس شهاب الدين وخطاطى كسوة الكعبة، لتحتفظ الخامة ببكريتها وروحها وملامسها لتضيف كثيرا إلى اللوحة الفنية متمردة على الأطر التقليدية.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة