حسن حنفى
د. مصطفى النشار يكتب : حسن حنفى.. يختتم مشروعه الفلسفى بتفسير القرآن
السبت، 30 أكتوبر 2021 - 04:49 م
لا شك أن حسن حنفى الذى رحل عنا جسدا فى الحادى والعشرين من أكتوبر الحالى يعتبر من أهم الفلاسفة المسلمين فى عالم اليوم وربما فى كل العصور، فمؤلفاته ومترجماته تزين أرفف معظم مكتبات العالم شرقه وغربه، وهو الوحيد بين فلاسفة الإسلام اليوم الذى يذكرنا بتلك الموسوعية والشمول التى كان يتميز بهما فلاسفة الإسلام الأوائل كالفارابى وابن سينا، وإن كان هؤلاء الفلاسفة الأوائل قد عنوا بالتأويل العقلى للقرآن والتوفيق بين الفلسفة والدين، فإن حسن حنفى قد اتسعت رؤيته لتشتمل ليس فقط تثوير التراث وتجديد العقيدة، وإنما أيضا إعادة بناء علوم الأوائل كلها من الفقه وأصول الدين حتى علم الكلام والتصوف والتفسير العقلى الموضوعى للقرآن الكريم ذاته!.
لقد كان أبرز مايميز حسن حنفى بين أساتذة جيله هو تلك الروح الفلسفية النقدية التى غرسها فى تلاميذه لدرجة أنه كان يعرض عليهم ما يكتبه قبل وبعد نشره ليناقشوه فيه وكان يتقبل انتقاداتهم بعقلية منفتحة لا تحجر على رأى بل تشجع عليه وتستفيد منه، وكم تناول حسن حنفى نفسه هذه الانتقادات فعرض لها ورد على بعضها فى كثير من مؤلفاته فى طبعاتها التالية. إنه كا ن المحرض الأكبر على أن يكون تلاميذه أصحاب رأى وأصحاب موقف فلسفى. وكم تناولت أنا شخصيا بعض مؤلفاته وآرائه بالنقد حتى ونحن نكتب مؤلفا جماعيا لعرض فلسفته وتكريمه، فكان يستقبل مانكتب مبتسما ودون أن يضيق أو يسفه مانقول حتى ولو كان فيه تجنيا عليه أو عدم فهم لمنهجه ولغاياته.
وفى هذا المقال أعرض لموقفى النقدى من كتابه «التفسير الموضوعى للقرآن» وقد قرأه فى حياته شاكرا ومرحبا مما يعنى أننا فقدنا برحيله فيلسوفا حقيقيا واسع الأفق رحب الصدر.
لقد لخص د. حسن حنفى فى مطلع ذلك الكتاب وفى نصف صفحة فقط رؤيته الشاملة للتجديد، ذلك المشروع الذى بدأ ببيان نظرى تحت عنوان «التراث والتجديد» حمل خطة المشروع كلها؛ فهناك ثلاثة أضلاع لمشروعه التجديدى (والمشروع فى الفكر العربى المعاصر هو المقابل لما يسمى مذهب فى الفلسفة الغربية)؛ لكن بينما المذهب الفلسفى يقطع مع الماضى فيما يبدو من أجل بناء الحاضر، يُعيد المشروع الفكرى بناء الماضى طبقا لمتطلبات الحاضر وهذه الأضلاع هي:
(١) موقفنا من التراث القديم
(٢) الموقف من التراث الغربى.
(٣) الموقف من الواقع
ويتمثل الضلع الأول فى المؤلفات التالية:
- من العقيدة إلى الثورة (خمسة أجزاء)
- من النقل إلى الإبداع (تسعة أجزاء)
- من النقل إلى الواقع (جزآن)
- من النقل إلى العقل (خمسة أجزاء)
أما الضلع الثانى فقد تمثل فى بعض مؤلفاته الأخرى
وخاصة كتاب «مقدمة فى علم الاستغراب» وهى كلها مؤلفات ضخمه احتوت على آلاف الصفحات واستغرفت من صاحبها عشرات السنين.
أما الضلع الثالث فيتمثل فى كتابه الأضخم «التفسير الموضوعى للقرآن الكريم»، وهو الذى يمثل الموقف من الواقع وإن جاء فى أكثر من ألف صفحة موزعة على ثمانية أبواب، وكان الأحرى به أن ينشر عبر ثلاثة أجزاء. على كل حال فقد فضل فيلسوفنا أن يظهر هكذا فى جزء واحد.
أما الباب الأول فقد جاء بعنوان نشأة الوعى ويشتمل على فصلين أولهما اشتمل على دراسة موسعة للجسم الإنسانى؛ لأجزائه مثل الرأس والشعر واللحية، الوجه واللسان والحلقوم والعنق، الذراع واليد والإصبع، الظهر والصدر والبطن والامعاء والأرحام، الرجل والساق والقدم، كما تناولها القرآن الكريم ومايتعلق بهذا الجسم من متطلبات وحاجات من خلال التمييز بين الذكر والأنثى ومايرتبط بحياتهما مثل الطعام والشراب، الجوع والمرض والثانى عن الإدراك الحسى متضمنا تعريفه وأدواته من سمع وبصر وذوق ولمس وشم وميز فيه بين النظر والرؤية ثم أوضح دور القلب والفؤاد واللب وأحوالهم المحايدة كالطبع والختم والربط والأكنة والأقفال، وأحوالهم السلبية كالفزع والرعب والوجل والغفلة واللهو، وأحوالهم الايجابية كالشهادة والوحى والفهم والضمير والطهارة والسكينة والطاعة والطمأنينة.. الخ.
أما الباب الثانى فقد جاء بعنوان الوعى الذاتى ويشتمل على فصلين؛ خصص الفصل الأول للحديث عن المعرفة العقلية، وتحدث فيه بداية عن معنى لفظى الوعى والذات ثم عن النوم واليقظة والظن والاحتمال والشك والريبة واليقين والعقل والفكر والفقه والعلم والمعلوم والعليم والعلام والعالم والمرئى واللامرئى والوحى والتنزيل والكتاب والتفسير والشرح والمراء والجدل والحوار والسؤال.. الخ.أما الفصل الثانى فقد خصصه للحديث عن الإحساس بالزمان، وتناول فيه الوصف القرآنى لألفاظ الزمان والزمان الوجودى الخاص بالدنيا والآخرة والحياة والموت فضلا عن الزمان الطبيعى بكل صوره والزمان النفسى بكل صوره ثم توقف عند الوعى بالزمان القبلى والبعدى..الخ.
أما الباب الثالث فقد عرض فيه العواطف والانفعالات ويشتمل على فصلين؛ تحدث فى الأول عن العواطف مميزا كما ميز القرآن بين الود واللطف والرأفة والشفقة والابرام والتكليف والذمة والعفة والظهارة والتحصين والتوبة والعفو والعذر والقبول والصفاء والزهد والوصاية والرعاية والوعظ والوفاء والاستئمان والمنفعة والرحمة والحكم والقضاء والوقار والطيبة.. الخ..، وتحدث فى الفصل الثانى عن الانفعالات مميزا كما ميز القرآن بين الخوف والخشية والفزع والرعب والخشوع والقشعريرة والرهبة والذهول والتعجب والخبل والحيرة والتيه والتخبط فضلا عن التمييز بين النكد والكرب والغم والحزن والتعاسة وبين الاستكانة والوهن والكبد والارهاق و وكذلك بين الضحك والتمتع والسعادة والفرح والازدراء والاشمئزاز والاستهزاء والعبوس والنفور والاستنكاف..الخ..
وقد جاء الباب الرابع تحت عنوان الخيال والوعى الخلقى ويشتمل على فصلين؛ خصص الفصل الأول للحديث عن الخيال ورصد فيه حديث القرآن عن الخيال الاعتقادى والخيال الافتراضى الظنى والخيال التشبيهى والخيال المغترب والخيال الوهمى وأوضح من خلال هذا التصنيف لأنواع الخيال حديث القرآن عن الحق والرب،الإيمان والكفر، الهدى والضلال، الانزال والإملاء، النفع والنفاذ، الوضوء والتيمم، الحج والعمرة والطواف، الصلاة والعبادة والدعاء، الاستغفار والإنابة والشفاعة، السنة والشرع، الويل والعذاب، العقاب والقصاص.. الخ. وقد خصص الفصل الثانى للحديث عن الوعى الخلقى. وبدأ ببيان ألفاظ الوعى كالنفس والارادة والمشيئة والشعور ثم تحدث عن القيم السلبية مثل اللمز واللعن والحيد والميل والتحيز والجور والخضوع والهون والذل والقهر والجنف والاصغارواللغو والاغتياب والافك والفتنه والنميمة والوسوسة والزعم والبطلان والنفاق والخداع والتزيين والسرقة والمكر والطمع والشهوة والخيانة والغواية والإغراء والاستدراج واللواط والزنى والفحش والبغى والكبر والخيلاء والغرور والجحود والخصام.. الخ. ثم عن القيم المتضادة كالصدق والكذب، الطاعة والعصيان، الإحسان والإساءة، البر والأذى، الخير والشر، الحلال والحرام، الصبر والجزع،الإذاعة والتجسس، الحرية والاضطرار.. الخ.
أما الباب الخامس فقد خصص للحديث عن المقاصد والأفعال ويشتمل على فصلين؛ عرض فى الفصل الأول للمقاصد مثل الاعتياد والدأب والبخع، العمد والاستغناء، الاقتداء والاتباع والتآسى ، الركن والتوكل، الفوز والفلاح والتوفيق، العمل والسعى والعجز والكسل، الخمود والوضع والمكوث والاعتكاف، الستر والخفاء، التربص والرصد..الخ. ثم عرض فى الفصل الثانى للأفعال. أولا أفعال الجسم كالدخول والخروج، الزود والصد والدرء، الوقوف والقيام، الركوع والسجود، الفرار والتولى والادبار، المنع والكف، الافساح والترك، الصدع واللعب والرتع، ثانيا أفعال اليد كالمسك والقبض والضم، المسح والمس، الخرق والخراب والتحطيم، الجرح والقد والتفريق، الرجم والوخز، النحت والصناعة والطباعة، الردم والنقب، ثالثا أفعال القدم كالوطئ والخطوة والتوكأ، السير والمشى والذهاب والمضى والروغ، السباحة والمرور، العثو والركض.. الخ.
أما الباب السادس فقد خصص للحديث عن الأنا والآخر فى القرآن الكريم ويشتمل على فصلين؛ تحدث فى الفصل الأول عن تطابق الآنا والآخر، عرض فيه لألفاظ الأنا مثل نفس،انسان، فرد، ذكر، أنثى،أحد، عبد، حر. ثم تحدث عن تجليات الأنا فى البراءة، العقل والتجربة، العزيمة والحرية، الرشد، الوصل. ثم عن الأنا والآخر – الفرد : الأب –الأم- الابن – الأخ والأخت – الصاحب والظهير- الخدن والخليل – المغيث والمعين، ثم عن الأنا والآخر- الجمع : الثلة – الأهل – القوم – الملة – الحزب – المدينة – الشعب - الأمة – الناس – البشر- النسل.. الخ. وفى الفصل الثانى تحدث عن جدل الأنا والآخر؛ حيث تحدث أولا عن الآخر الاجتماعى ومايتعلق به من العدل والظلم والميزان والعزلة والسلم والهدية والتحية والزواج والطلاق ثم ثانيا عن الآخر السياسى ومايرتبط به من السلطان والملك والطغيان والبغى والعدوان والاخراج ثم ثالثا عن الآخر الاقتصادى ومايرتبط به من المال والملكية والانفاق والكرم والبخل والفساد والتجارة والهجرة والكسب والخسران والفشل والفقد والانقاص والميراث والدية واليتم والقوامة ثم رابعا عن الآخر الجهادى ومايتعلق به مثل المشاكسة والنهر والعقاب والحرب والسلام والأنفال والنصر والهزيمة. والسفاح والرباط والجهاد والقتال والاثخان والعهود والمواثيق.. الخ.
وقد جاء الباب السابع تحت عنوان الوعى بالطبيعةويشتمل على فصلين؛ الفصل الأول بعنوان الطبيعة الواعية تناول فيه أولا الآية بين النص المكتوب والظاهرة الطبيعية وثانيا الطبيعة الحية والطبيعة الميته وثالثا الماء والمطر والمزن والوابل والطوفان ورابعا النبات من بقول وفاكهة ونخل وشجر وحدائق وخامسا الحيوان مثل الغنم والخنازير والعجول والأبقار والنوق والأنعام والدابة والفيل والخيل والحمار والذئب وسادسا الحشرات مثل الذباب والنحل والعناكب وسابعا الطيور كالهدهد وثامنا الزواحف كالحية.والفصل الثانى عن الوعى الطبيعى واشتمل على أولا قوانين الطبيعة وثانيا الخلق والبعث وثالثا السماء والأرض ورابعا الشمس والقمر وخامسا النور والنار وسادسا الجبال والرياح وسابعا البحار والأنهار وثامنا الاتجاهات الأربعة وتاسعا الطبيعة والعمران وعاشرا الانسان والطبيعة.
وقد جاء الباب الثامن والأخير تحت عنوان الوعى والتاريخ ويشتمل على فصلين؛ الفصل الأول عن تاريخ الوعى ويتحدث فيه عن مصادر تاريخ الوعى وقصص الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام ثم عن نهاية التاريخ وبداية الوعى التاريخى. أما الفصل الثانى فعنوانه الوعى التاريخى وتحدث فيه عن معنى الوعى ومصطلحات الوعى التاريخى مثل السبق والتراجع – التقدم والتأخر- الناسخ والمنسوخ – السلف والخلف – التقليد والاتباع والاجتهاد ثم عن الأثر والتأثر وتاريخ الأولين وعن الهدف من التاريخ ونهوض التاريخ والمستقبل التاريخى والرسول والرسالة وأخيرا عن سقوط التاريخ وانهياره وجدل التاريخ..
ولعلنا بعد هذا العرض لمحتوى « التفسير الموضوعى للقرآن الكريم » يتكشف لنا مدى شمولية الرؤية ومدى الدقة فى الدخول إلى تفاصيلها التى ربما لم تترك شاردة ولا واردة إلا وتعرض لها د. حسن من خلال آيات القرآن التى حرص فيها حرصاً شديداً على حصر كل الآيات التى ورد فيها أى لفظ من الألفاظ الواردة فى متن الكتاب وحسب الموضوع الذى يتحدث عنه. أقول لعلنا بعد هذا العرض يمكننا التوقف لنؤكد على بعض الملاحظات التى ربما التقط معظمها حسن حنفى ذاته.
أولا: إن أهم ما يلفت انتباهى فى فلسفة حسن حنفى ومشروعه هو وعيه الدائم بما يعتور المشروع من نقائص وما يمكن أن يوجه إليه من انتقادات وحرصه على اثباتها قبل أن يقدمهاغيره. ولنأخذ كتابنا هذا نموذجًا، خُذ مثلًا قوله فى (ص15) من الكتاب:« إن مشروع التراث والتجديد قد وقع أسير النص كما حدث للقدماء ولم يستطيع أن يتحرر منه، فما زال أسير الموقف من الحديث عن التجديد دون التراث فيخرج المشروع مجتث الجذور، وازداد هذا الموقف حتى طغى التراث على التجديد والجذور على الأوراق والثمار»
وهو يختتم نفس الكتاب بخاتمة تحت عنوان: محاولة فى النقد الذاتى يقول فيها هذا عن المنهج الذى اتبعه فيه بأنه:
١- «يصيب الباحث بالملل لأنه يبنى قواعد البيت دون أن يسكن فى البيت نفسه» ص(١٠٣٩).
٢- « تكرار النص بتكرار اللفظ وقد لا يضيف النص المكرر جديدا» ص(١٠٤٠)
٣- «يخشى أن يعتبر هذا التفسير تفسيرا لغويا للقرآن» ص (١٠٤٠)
٤- "يغيب فيه لفظ الله « ويبرر ذلك بأنه قد تم تحليله فى "من العقيدة الى الثورة».
ثم يوضح أن «التفسير الحديث المركز حول الإنسان غير التفسير القديم المركز على الله وكلاهما استجابة لمطالب العصر» ص (١٠٤١)
وبينما يتساءل فى هذه الخاتمة: هل أستطاع مشروعه التجديدى أن يطور الإصلاح إلى ثورة أو على الأقل إلى نهضة؟ يقول بنبرة أسى وحزن:
"تزداد السلفية ويرتد الإصلاح «مازال التراث هو السائد، الجانب المحافظ منه، والتجديد محاصر بين النظام السياسى والتيارات المحافظة، اليسار منعزل بنفسه على نفسه لا اليمين الدينى يقبله ولا اليسار العلمانى يقبل صاحبه، عند اليمين شيوعى متخلف، وعند اليسار إخوانى متخلف، وعند أجهزة الأمن إخوانى شيوعي، والناس لا تقرأ، والنخبة طويل عليها، فلم يبق إلا التاريخ وصاحب المشروع راضى»"ص (١٠٤٣- ١٠٤٤).
ثانيا : وبعيدًا عن نقده لنفسه وتحسره على ما يواجهه من عنت وجمود، أود أن أتساءل: هل هذا الذى قدمه فى هذا الكتاب تفسيرًا موضوعيًا حقيقيًا للقرآن؟! يقول حسن حنفى نفسه: "أن نظرية التفسير تعتمد على منهج تحليل المضمون وهو تطوير للتحليل اللغوى القديم ودلالة التكرار والإضافة والتعريف والاعتماد على تكرار الألفاظ بين الكثرة والقلة وحتى لو كان الإحصاء غير دقيق تكفى الدلالة الكلية ثم تفصيل العدد الكلى إلى أعداد أصغر بالنسبة للاضافة والضمائر وغيرها من التحليلات اللغوية القديمة. وتتكرر بعض الألفاظ أو الآيات فى سياقات مختلفة نظرا لأهميتها ومما يسمح باستعمال منهج تحليل المضمون "(ص٨).
إذن فنحن أمام تفسير لغوى لفظى للقرآن وإن كان يتطور هنا لتحليل المضمون! لكن الحقيقة فى اعتقادى أنه كان ينبغى أن يركز التفسير الموضوعى على تحليل المضمون مع مراعاة البُعد الواقعى والقضايا المهمة للواقع المعاصر. وهذا ما كنت أتوقعه من حسن حنفي؛ فأين موضوع الأرض، العدالة، الحرية، أين قضايا الحياة السياسية والاجتماعية للإنسان، أين قضايا العمل والمساواة والحقوق!! وكيف يراها القرآن الكريم. وكيف يمكن أن نفعلالآيات القرآنية فى حياتنا المعاصرة؟! فلا يتصرف الإنسان إلا بروح العدالة والاخاء والمساواة، إلا بروح التقوى والإخلاص فى العمل والجدية والإتقان فيه، أين نحن من الفهم القرآنى لقضايا البيئة والتعامل مع مقدراتها بوعى وشفافية ومراعاة حقوق الأجيال المستقبلية!
إن ذلك وغيره من قضايا، هو ما كان ينبغى أن يكون مثار اهتمام هذا التفسير الموضوعى للقرآن، ذلك التفسير الذى اقتصر على رصد وحصر الآيات التى تتعلق بالجسد الإنسان وأعضائه ووظائف هذه الأعضاء، وحصر الآيات التى تتحدث عن وسائله المعرفية،وانفعالاته وأفعاله ووعيهالخلقى ومقاصده! لقد اقتصر التفسير على حصر الآيات التى تتحدث عن كل ذلك وعرضها عبر تفسيرها اللغوى دونما تعليق، ودونما السؤال عن الهدف والغاية من هذا التفسير اللغوى الظاهراتى لهذه الآيات! أين تجاوز هذا الرصد الظاهراتى للآيات ومعانيها اللفظية إلى ماوراء ذلك من أهداف قرآنية ربانية يدعونا فيها الله إلى الانتباه إلى الأسس والقواعد التى تتشكل بمقتضاها الحياة الانسانية بصورة مثالية فى كل جوانب الحياة اقتصادية كانت أو سياسية أو اجتماعية ؟! أين ثورية التفسير وأين تعبيره الواعى عن معاناة الانسان وعن آلامه وآماله وطموحاته المشروعة فى حياة حرة آمنة وفى مجتمع سياسى يحقق له دفء الحياة وجودتها ؟! أين ثورية التفسير ومواجهته لكل أشكال التطرف فى الفهم وقصور النظر مما ترتب عليه كل هذه الظواهر السلبية التى يعانى منه العالم الاسلامى ؟! أين ثورية التفسير التى تحض مسلمى العصر على الاتحاد والتوحد تحت رايته لنشر الاسلام المعتدل الداعى إلى السلام والمحبة بين كل البشر ؟! أين رؤية الاسلام لمستقبل البشرية وكيف يمكن أن يكون بسماحته وعدله وشموله وعقلانيته هو قائد الدورة الحضارية القادمة أو حتى بعد القادمة ؟! أين قضية عالمية الاسلام فى مواجهة عصر العولمة التى يسعى من خلالها الغرب إلى قولبة البشر فى قالب مادى استهلاكى لذى لايعى من الانسان سوى شهوات جسده وتلبية أطماعه ؟!
لقد قال حسن حنفى إن نظرية التفسير «قد تجمع بين المستويات الثلاث العلمى والثقافى والسياسي» وأن المصدر الرئيسى ربما لهذه المحاولة هو "المعجم الفهرس لألفاظ القرآن الكريم «وربما يكون مصدرها الثانى هو "القاموس المحيط» وهو قاموس لغوى، أما مصدرها الثانى فهو « الأمثال والأغانى الشعبية التى تعبر عن حكمة الشعوب كما تعبر قصص الأنبياء عن العبرة فى التاريخ» (صـ ٢٤-٢٦).
ولعل استناده إلى هذه المصادر هو ماأثر فيه وجعله يقف فى الغالب عند حدود التفسيرًالظاهريً اللغويً ولا يعبر عن الموضوعات الرئيسية والقضايا المهمة للواقع المعاش ولا يعير القضايا الكبرى للانسانية أى اهتمام حقيقي!
إذن فنحن لسنا أمام تفسير موضوعى حقيقى للقرآن، ثم أننا لسنا أمام تعبير حقيقى عن الجبهة الثالثة (جبهة الموقف من الواقع)، إن الواقع والموقف من قضاياه لم يشغل حسن حنفى بقدر ما شغله إيراد "نظرية التفسير« وهى ذات طابع فلسفى ظاهرى رغم أنه قال من البداية؛ إن «التفسير وسيلة وليس غاية، أداه وليس هدفا، الغاية منها هو تطبيق العمل»(صـ ١٩).
إن الجبهة الثالثة من مشروعه الفكرى = كما قال هو - هى «الموقف من الواقع» والغاية منها كما يقول هو "إدخال الوحى فى العالم عن طريق الفعل" (صـ ١٩). إنها فى رأيه" «أقرب إلى التفسير التطبيقى منها إلى نظرية أو منهج فى التفسير كما يوحى بذلك العنوان الفرعى وقد يمحى الفرق بين النظرية والتطبيق، فالنظرية تبدو من خلال التطبيق والتطبيق يعطى نماذج من النظرية» (صـ ١٩).
والسؤال هو: هل حققت النظريةالتى عمل عليها حسن حنفى هنا ما أراد ؟! هل حققت هذا الديالكتيك بين النظرية والتطبيق، بين النظر والعمل، بين العقل والواقع؟!
الحقيقة لا؛ فقد جاء تصنيف الكتاب فى صورته العامة فلسفيًا نظرياً يشتمل على الحديث عن الجسم والوعى الذاتى، الوعى بالزمان، الوعى الاجتماعى، الوعى الكونى، الوعى التاريخى. ومن المعروف أن هذه قسمة فلسفية تستند على مصطلح «الوعى»، والوعى بالمعنى الظاهراتى فقط بدليل أن مضمون الكتاب جاء بعد ذلك شرحا وتفسيرًا لغويًا للآيات دون أن يوضع فى الاعتبار - كما قلت فيما سبق- أى اهتمام بموضوعات الواقع الفعلى وقضايا الإنسان المرتبطة بواقعه المعاش، لقد اقتصر التفسير على رصد الآيات التى تتحدث عن ما أطلق عليه موضوعات "الوعي" وظل الأمر مقتصرا على أن نعى هذه الآيات ونبرزها أمام أعيننا، تلك الآيات التى تتحدث عن الجسد وأعضائه، عن دور كل عضو فيه، عن أفعال الأنسان وانفعالاته... الخ. دون أن تعالج قضايا بعينها من قضايا الواقع: مثل قضية الفقر، قضية التمكن السياسي، قضايا احتلال الأرض، قضايا العدالة و الحريات والمساواة...الخ.
لقد خاب ظنى فى أن أرى قضايا الواقع وموقف القرآن منها فى هذا التفسير الموضوعى الذى كان يستهدف فى الأساس " الموقف من الواقع". ورأيت رصدًا للآيات التى تتحدث عن لفظ معين من ألفاظ القرآن ومعنى هذا اللفظ أو ذاك (الجسد- الفرج- الدبر- النوم- اليقظة- الحس -الشك- الريبه - الدنيا- الآخرة- الحياة- الموت- النسيان- التذكر- الطهارة- العفة- التوبة- العفو- الصفاء- الزهد- الضحك- الفرح- العبوس)...الخ من ألفاظ تنتمى لموضوع كل باب وكل فصل عن فصول الكتاب، لقد غابت القضايا الكبرى للواقع عن نظرية التفسير «المنطقية» وتطبيقها ولازلنا فى انتظار التفسير الموضوعى للقرآن الكريم الذى ربما كان موجودا فى كتابات حسن حنفى الأخرى أكثر من وجودها فى هذا التفسير الذى توقف عند حدود رصد وحصر الآيات ووضعها حسب ورود هذا اللفظ أو ذاك فيها!
والحقيقة أن د. حسن حنفى لم يتوقف عند هذا التفسير الموضوعى للقرآن بل كان قد بدأ ونحن لانزال نقرأ ونعرض وننقد هذا التفسير فى كتابة مجلدا جديدا بعنوان " التفسير الشعورى للقرآن " وهو يتخذ فيه فيما يبدو منحى صوفيا وجدانيا لكن للأسف رحل وهو يستكمل الصفحات الأخيرة منه. وربما يكون فيه مالم نقرأه فى التفسير الموضوعى ومالم يكن يتوقعه قراء حسن حنفى الذين اعتادوا على منهجه الظاهراتى فى العرض والتفسير حيث أتوقع تغليب القراءة الروحية الباطنية الجوانية للقرآن على التوقف عند معانى الألفاظ وظاهر الآيات. وسواء اتفقنا مع حسن حنفى أو اختلفنا معه خاصة فى موضوع تفسيره للقرآن فهو قد لحق بالرفيق الأعلى وهو بصحبة القرآن وكم فى ذلك من دلالات على حسن الخاتمة التى تمنيناها له كما نتمناها لأنفسنا بعده.