محمود الوردانى
محمود الوردانى


كتابة

بالقرب من مساكن الأمريكان

أخبار الأدب

الأحد، 21 نوفمبر 2021 - 03:27 م

محمود الوردانى

هذه مدينة أخرى. ليست الأسكندرية التى نعرفها. ربما لايعرفها السكندريون أنفسهم، لكنها حاضرة بقوة ساحقة وجارحة فى رواية جديدة انتهيتُ منها لتوى، لكاتبة أقرأ اسمها للمرة الأولى، على الرغم من أنه سبق لها أن أصدرت مجموعتين قصصيتين. الكاتبة هى هبة خميس والرواية هى «مساكن الأمريكان» - دار الشروق.
أبادر إلى القول أن عالم المهمشين المسحوقين فى مدن الصفيح وعشش سيدى بشر ومساكن الأمريكان التى «بنيت بمنحة أمريكية للرئيس المؤمن لمن وقعت بيوتهم فى الأجزاء القديمة من المدينة، بلوكات فارغة من الروح تخنق سكانها فيعيشون فى خوف من أشباح وضلالات» بنص الرواية... هذا العالم ليس حلية للرواية، وليس مقصودا به جذب القارئ أو إطلاعه على عالم غريب وفظ وقاس، وليست نوعا من جماليات القبح، لكنها رواية جارحة عارية، تحتفظ بمسافة كافية بينها وبين شخوص هذا العالم مما يحميها من التورط العاطفى، والكتابة نفسها، أى اللغة والتعبير الفنى والجمالى ليس دخيلا على العالم، وهناك درجة مثلى من التوافق والهارمونية.
أنا منحاز لهذه الرواية التى اعتمدت على حيل فنية وبنائية بالغة البساطة. وقعت - ولا أقول اختارت - على أسرة عشوائية فى حزام الصفيح، تشبه غيرها من الأسر، ويخيم عليها شبح «على» المثلى المهان المسحوق، والذى تبدأ الرواية وتنتهى به، حاملا«سيفا طويلا مدببا، يرفعه فيعانق هواء البحر ويدليه ليصطدم بالسيارات المركونة على جانبى الطريق». وسوف نرى «على» يفتتح الجزء الثانى، وقد ارتدى ملابس نسائية يتجول على الكورنيش وهو يقطّع لحمه بالأمواس.
تكتفى الكاتبة بكتابة اسم الشخصية فى بداية كل فصل، على مدى الجزءين، ثم تضرب فرشاتها فى اتجاهات عديدة، لتنسج جانبا من المشهد، ومن مجموع المشاهد تنهض لوحة بالغة القسوة. وإلى جانب شبح «على» قبل وبعد تحوله إلى شبح هناك «سيد» الأخ غير الشقيق و«زهرة شقيقته، و«سعاد» أمهم، و«هناء» زوجة سيد...كل شخصية تسرد جانبا عشوائيا من اللوحة. هناك شخصيات تتحدث أكثر من مرة، هناك شخصيات تتحدث أكثر من شخصيات أخرى، باستثناء «عماد» صديق على الذى يتحدث مرة واحدة.
وإذا كانت المشاهد المتتابعة اللاهثة تبدو عشوائية، فأظن أن الكاتبة كانت أكثر مكرا، هى تبدو عشوائية، أى ادّعت وزعمت أنها عشوائية، لكنها ليست كذلك، واشتغلت على حيلتها باقتدار. ليست هناك حكاية فى الرواية، والظلم والمهانة والجوع والسعى على الرزق هى ملامح للجحيم الذى يصطلى بناره نازحون من الأرياف القريبة وأبناء مدن الصفيح.
ليست هناك حكاية تُحكى. هناك دائرة تبدأ وتنتهى بـ «على»، والكاتبة تقف على الحافة، ولاتتورط فى الانحياز العاطفى تجاه أزمته، ولاتتماهى مع جروحه.. 
وعلى مدى صفحات الرواية ليست هناك ضرورة لأن نعرف تاريخ وقوع المشاهد، والإشارات إلى الزمن قليلة جدا، مثل صورة «لزعيم» المعلقة على جدار متداع أو تعيين المحجوب محافظا أو منحة الأمريكان للرئيس المؤمن، وحدها المذبحة التى نفّذها الإرهابيون القتلة فى معبد الدير البحرى بالأقصر هى المذكورة بوضوح، فيمكن أن نعرف أن زمن الرواية هو نوفمبر ١٩٩٧ .
لن أستفيض فى الكلام حول دلالة هذه الواقعة التى شاهد «على» أحداثها على شاشة التليفزيون أثناء القبض عليه فى قسم الشرطة. وأكتفى بتهنئة الكاتبة وشكرها على «الكتابة الحلوة» المقتصدة القائمة على الاستبعاد والمزيد من الاستبعاد.كتّر خيرك .

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة