دوستويفسكى
دوستويفسكى .. المؤمن بوحدانية المصير البشرى
200 عـــام ميلاده دوستويفسكى .. مفتــــاح فهم الحياة
الأحد، 21 نوفمبر 2021 - 03:46 م
د. أشرف الصباغ
فى 11 نوفمبر الجارى حلت الذكرى الـ 200 لميلاد الكاتب الروسى فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكى( 1821 – ( 1881 وسط احتفاء غير مسبوق.
فالذكرى المئوية الأولى كانت أثناء وجود البلاشفة فى السلطة، بينما تحل الذكرى المئوية الثانية فى ظل تصدر التيارات القومية . من الممكن أن نستشف أجواء احتفالات المئوية الأولى إذا استرجعنا رأى زعيم الثورة البلشفية فلاديمير لينين فى دوستويفسكى وأعماله. وفى الحقيقة، فقد كان لينين لا يحب دوستويفسكي، حيث وصفه بالكاتب «بالغ الرداءة» هو وأعماله، وبالذات رواية «الشياطين» قال لينين عن هذه الرواية: من الواضح أنها رجعية مقززة (...) ليس لدى أى رغبة على الإطلاق فى إهدار الوقت
ولم يكن موقف جوزيف ستالين يختلف كثيرا عن موقف الرفيق لينين زعيم الثورة، إذ قال إنه «كاتب عظيم ورجعى عظيم. ونحن لا نروج له، لأن تأثيره فى الشباب بالغ السوء. لكنه كاتب عظيم» جاء كلام ستالين ضمن ذكريات السياسى الشيوعى اليوغوسلافى الراحل ميلوفان ديلاس الذى سأل ستالين خلال إحدى زياراته لموسكو عن دوستويفسكى وتلقى منه هذه الإجابة.
أما الذكرى الـ 200 فهى على النقيض تماماً وبزاوية 180 درجة، حيث جرت خلال عام 2021 عمليات احتفاء غير مسبوقة فى تاريخ الثقافة الروسية، ومن المقرر أن تستمر الفاعليات خلال عام 2022 أيضا. وعَرَضَ مسرح «نوفوسيبيرسك» الروسي، بصفته أقدم مسرح درامى فى سيبيريا، مسرحية عن سيرة حياة الكاتب. ووضعوا فى أساس المسرحية رواية «المعجزة المستحيلة» التى كتبها أليكسى كوراليخ، وكذلك مذكرات زوجة دوستويفسكى آنا سنيتكينا، التى نُشِرت بعد وفاته فى 9 فبراير عام 1881 فى بطرسبورج. كما تم أيضا افتتاح متحف جديد للكاتب فى العاصمة موسكو، وانطلقت سلسلة محاضرات حول منظومة القيم عند الكاتب ضمن «مشروع المعرفة الروسية»، ناقشت محاور متنوعة، من بينها قيمة الحياة فى أعمال دوستويفسكي، وتشكل القيم العائلية على أساس المبادئ الأرثوذكسية المسيحية السلافية.
وكان الهدف من هذه المحاضرات تغيير الصورة النمطية عن الكاتب والتى تتمحور حول التشاؤم وعلاقته المتأزمة بالمجتمع وجنوحه نحو التطرف الدينى والعقائدي.
وظل معرض «فيودور دوستويفسكي، الانطباعات القوية» مفتوحا من فبراير إلى سبتمبر بـ «المتحف الحكومى لتاريخ الأدب الروسي» فى موسكو، ثم بدأ جولة انطلقت من العاصمة الإيطالية روما إلى عدد من المدن الأوروبية الأخرى. وتضمّن المعرض 15 قسماً، توزّعت عليها مقتنيات تم استعارتها من العديد من المتاحف الروسية مثل مكتبة الدولة الروسية، والأرشيف العسكرى التاريخي، و «متحف تريتياكوف»، و «متحف الدولة التاريخي»، و «متحف دوستويفسكى الأدبي» كما احتوى كل قسم على مواد تاريخية وأدبية وثقافية ودينية ووثائق ومخطوطات ومذكرات ولوحات فن تشكيلي، إضافة إلى ألبوم مصور بعنوان «دوستويفسكي، الإنسان والخلود».
وكانت منظمة اليونسكو قد أعلنت عن برنامج ضخم ضمن الاحتفالات بالذكرى المئوية الثانية لميلاد دوستويفسكي، ليس فقط فى روسيا، بل وفى مختلف دول العالم. وهو ما توقف عنده الرئيس الروسى فلاديمير بوتين كثيراً فى لقائه مع المسؤولين عن الثقافة فى البلاد ومناقشة ما سوف تقدمه روسيا وأوساطها الثقافية ضمن برامج احتفالاتها بهذه المناسبة على مدار عام 2021.
خلال ما يقرب من 150 عاماً تم تناول الكاتب الروسى من زوايا وأشكال مختلفة ومتباينة ليس فقط فى روسيا، وإنما فى كافة دول العالم وفى كل المؤسسات التعليمية والعلمية والبحثية المتخصصة بها. غير أن الأهم هو تناول أعمال دوستويفسكى فى العلوم الإنسانية المختلفة: السرد الأدبى والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم النفس الأدبى والفكر القومى الروسي، وتناوله كمفكر اجتماعى من جهة، وكمفكر مسيحى قومى سلافى من جهة أخرى .وربما تكون النقطة الأخيرة هى التى تحدد ظهور واختفاء دوستويفسكى من عصر إلى آخر، حيث يخضع ذلك لموازين القوى السياسية والاجتماعية فى روسيا ولتوجهات السلطة السياسية. أما التعامل مع دوستويفسكى خارج روسيا فهو لا يخضع للمؤثرات الداخلية الروسية، بقدر ما يخضع لتوجهات المهتمين أنفسهم، فالأكاديميون لهم وجهات نظرهم «المهنية الصارمة»، والليبراليون ينظرون إليه بكراهية وشكوك وانتقادات، واليساريون يتعاملون معه وفق حلقاتهم الضيقة المتشرذمة، والقوميون يضعونه فى مقدمة جيش الدفاع عن المسيحية الأرثوذكسية من جهة، وعلى رأس المدافعين عن الفضيلة والأخلاق والماضى المجيد للأمة الروسية السلافية من جهة أخرى.
المدخل الخاص إلى عالم دوستويفسكى
يبقى الكاتب الروسى فيودور دوستويفسكى بالنسبة لقرائه الشرقيين روائياً عظيماً .بل وأحيانا يبالغ النقاد والمتابعون الشرقيون، والعرب والمسلمون بالذات، فى قرب دوستويفسكى من ديانتهم وعاداتهم وتقاليدهم، نظرا لأنه دوَّن بعض الملاحظات عن أشخاص مسلمين كانوا معه فى السجن. ولكنه فى الوقت نفسه تحدث أيضاً عن أصحاب الديانات الأخرى. الأمر الآخر أن السلطة السوفيتية بعد وفاة ستالين عام 1953 حاولت التصالح مع دوستويفسكي، أو بالأحرى استخدامه ضمن قواها الناعمة، لأنه مترجَم ومعروف فى الخارج ويحوز على احترام وشهرة يمكنهما أن يلعبا دوراً مهماً فى تغيير النظرة إلى السلطة السوفيتية. وبدأ النقاد يضعونه ضمن المتمردين على سلطة القيصر، والبعيدين عن الدين أو فى أحسن الأحوال المحتجين على السلطة الدينية، وحشره فى زمرة المدافعين عن الفقراء والبروليتاريا. ومع ذلك لم يفرجوا عن العديد من أعماله المهمة والخطيرة، وعلى رأسها «المسألة اليهودية» التى تم حذفها من جميع طبعات كتبه ورواياته منذ قيام الثورة البلشفية فى عام 1917 وحتى انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991 . هذه الرؤية التى تبنتها السلطة السوفيتية لاستخدام أعمال دوستويفسكى دفعت النقاد والمتابعين والمثقفين الغربيين ليتناولوا أعماله وأفكاره ضمن منظومة معادية للسلطة السوفيتية، بل ووضعه الكاتب الإيطالى ألبيرتو مورافيا، فى مقاله الشهير «المبارزة بين ماركس ودوستويفسكي»، على النقيض من كارل ماركس شخصياً ومن الفلسفة الماركسية باعتباره معادياً للإلحاد من جهة، وللقمع والاستبداد من جهة أخرى، وابن الثقافة المسيحية الأرثوذكسية السلافية من جهة ثالثة. واتفقوا جزئيا مع القوميين الروس الذين يعتبرونه مفكراً قومياً روسياً صاحب أفكار مهمة لبناء الدولة الروسية عبر ايمانه العميق والمطلق بـ «الفكرة الروسية».
إن المدخل الطبيعى لعالم دوستويفسكى الذى يربط الإبداعى بالفكرى عنده هو اعتباره ابن تاريخه، وابن الثقافة الروسية السلافية الأرثوذكسية. وهو أيضاً، أو تحديداً، ابن الوسط البطرسبورجى الذى عاش طفولته وشبابه فيه، بكل درجاته راقاته وألوانه وتجلياته وإشراقاته وخطاياه. إن دوستويفسكى الرجل/ الإنسان العادى بتركيبته البيولوجية والنفسية والذهنية وبمتطلباته الغرائزية، كان متعدد الأوجه والمستويات، وكان غريب الأطوار أيضاً، لكنه لم يكن ملاكاً أبداً ولا «نبياً» كما وصفته الكنيسة الصربية الأرثوذكسية «بأنه نبى الأدب الكنسي»، وأضفت عليه صفات تكاد تصل لحد القداسة، وشاطرها بهذا التوصيف والتقييم الكثير من «المؤمنين» الروس وغير الروس والأرثوذكس فى العالم كله. غير أنه من الصعب جر دوستويفسكى إلى أى أرضية أخرى غير «الأرضية الروسية السلافية الأرثوذكسية»، أو تعتعته بعيداً عن الفكرة الروسية. ومع ذلك، وربما هذا سر عبقرية الكاتب، فقد كان منفتحاً على كل الثقافات والديانات والأفكار والمعارف الأخرى فى العالم بحكم إيمانه بوحدانية المصير البشرى من جهة، وفى الوقت نفسه ومن خلال تأويلاته لـ «الفكرة الروسية»، نراه روسيًا حتى النخاع وأرثوذكسيا متماهٍ مع مسيحيته الشرقية، وغير متصالح حتى مع المسيحية الغربية من جهة أخرى. وعلى الرغم من كل ذلك، فهناك جوانب مهمة وخطيرة لدى دوستويفسكى كمفكر قومى وكاتب روائى مرتبطة بعلاقة إشكالية مع اليهودية والإسلام ليس من زاوية الإيمان وإنما من زاوية «الهوية»
كيف ينظر إليه الروس
كثيرون يحبون دوستويفسكى ويفضلونه ككاتب وكإنسان. وآخرون يحبون أعماله لدرجة أنهم أطلقوا عليه تسمية «نبى الرواية» لا أحد يدرى من أين جاءت هذه التسمية الغريبة والدالة والمثيرة للخلاف والاختلاف أيضاً. إذ أن هناك من لا يحب ليس فقط أعمال دوستويفسكي، بل وأيضاً شخص دوستويفسكي. فالحركة الصهيونية بشكل عام تتعامل معه بحذر وشك فى آن معاً، بسبب ما جاء فى مقاله الشهير «المسألة اليهودية» وللمفارقة، فقد وصل الكاتب الروسى ألكسندر سولجينيتسين نوبل 1970 إلى نفس النتيجة، بعد حوالى مائة عام من مقال دوستويفسكي، فى كتابه المهم «مائتا عام معاً»، والذى عرَّضه لهجمة صهيونية ممنهجة ومنظمة – داخل روسيا وخارجها- أطاحت به إلى ركن بعيد من الإهمال والتجاهل والاستفزاز قبل وفاته بعدة سنوات.
فى الواقع وهم معذورون فى عدم حبهم لدوستويفسكي، لأن الروس لديهم أيضاً «مرض الإنكار» مثل شعوب ومجتمعات كثيرة. وهذا الأمر له تفسيراته فى علم النفس الاجتماعى والسياسي. أما دوستويفسكى نفسه، ذلك «المقامر»، الجرَّاح الذى جاء إلينا حاملاً قلماً بيد، ومشرطاً باليد الأخرى، فقد قرر منذ البداية أن يتوغل فى أعمق أعماق النفس الإنسانية عموماً، وفى أبعد وأعمق درجاتها بالنسبة للإنسان الروسى على وجه الخصوص. لقد اقتحم فيودور أبعد وأعمق المناطق المظلمة فى الروح البشرية عموماً، والروسية تحديدا. ونحن لا نستطيع هنا أن نفصل بين منظومته الذهنية وبين هذه القصدية فى «التوغل»، ولا حتى بإمكاننا أن نعرف أين تنتهى حياة دوستويفسكى الخاصة والشخصية، وتبدأ حياة أبطاله فى الروايات. إنه مأزق الكتابة بشكل عام، ومأزق الكتاب الذين قرروا أن يأتوا إلينا بقلم فى يد، وبمشرط الجراح الحاد فى اليد الثانية بشكل خاص.
وعلى الرغم من أن مذكرات زوجة دوستويفسكى قد أثارت الكثير من الأسئلة حول الكاتب، إلا أنها أثارت الكثير من اللغط أيضاً. وهذا شأن أدب المذكرات الذى سيظل يثير العديد من القضايا والخلافات، وشأن كل الأجناس الفنية المهمة والمثيرة للاختلاف والخلاف المبنيين على قواعد وقوانين الإبداع الفنى والأدبى. وبالتالي، من الصعب أن نتناول عملا أدبياً فى مجال «أدب المذكرات» بدون خلافات أو مشاكل تاريخية ونفسية واجتماعية. ولا أحد يستطيع أن يقرر أن هذا الكتاب وحده هو الأقرب إلى شخصية الكاتب، بينما الكتب الأخرى بعيدة أو متجنية أو ظالمة. والسبب يعود ببساطة إلى منظومة علاقات الكاتب. فعلاقته بأخته، على سبيل المثال، تختلف عن علاقته بأمه، وعلاقته بزوجته تختلف أيضاً عن علاقته بابنته. هناك مسافات مختلفة أيضاً بين الكاتب وبين معاصريه من الكتاب، وبينه وبين أصدقائه المحيطين به. وبالتالى كل منهم يراه عبر تلك المسافة ومن خلال وجه نفسى – اجتماعى فى هذا الظرف أو ذاك. وربما تكون المسألة أكثر تعقيدا مما نتصور، لأن النفس البشرية والطاقة الإبداعية لا تسيران فى خطوط مستقيمة، ولا يمكن تجريدهما وإصدار أحكام سريعة عليهما فى علاقاتهما بالأقارب والأصدقاء والمريدين والمحيطين بالإنسان بشكل عام، فما بالنا بالكاتب.
إن أدب «المذكرات» لا يختلف كثيراً، فى تعقيداته عن أدب «السيرة الذاتية» بل يبدو الثانى أكثر تعقيداً من الأول، لأنه ببساطة يخضع لجملة من المعايير التى لا يمكن الإحاطة بها، وعلى رأسها الظروف التى كُتِبَ فيها من حيث الظروف الاجتماعية والسياسية، ومن حيث منظومة علاقات الكاتب وانتماءاته الفكرية ونشاطاته السياسية. ولا يمكن أن نتجاهل وضع الكاتب من حيث تحقيق ذاته أو تعرضه للغبن على أيدى زملائه ومعاصريه أو على يد السلطة. والعامل الأخير تحديداً يبدو أكثر تأثيراً فى توجهات الكاتب عندما يبدأ بالعمل على سيرته الذاتيه.
يُعتبر دوستويفسكى أحد أولئك المبدعين الذين وقفوا بين هذين النوعين من الكتابة: «أدب المذكرات»،و «السيرة الذاتية» ولكن فى كل الأحوال، من الممكن أن نلمح جيداً أن أعماله تحمل هذين النوعين، ما يجعلنا نعيد قراءتها كلما صدر أى كتاب عن حياته، حتى وإن كانت كاتبته زوجته السيدة آنَّا جريجوريفنا دوستويفسكايا. وبطبيعة الحال، فأعماله تكاد تكون الأصدق، لأنه ببساطة حقق تلك المعادلة المعقدة التى تعالج العلاقة بين الشخصى والعام من جهة وبين الذاتى والموضوعى من جهة أخرى.
مفاضلات كونديرا بين عالمى دوستويفسكى وتولستوى .
فى بحث مهم للناقدة والباحثة الروسية سفيتلانا شيرلايموفا حول رؤى الكاتب الفرنسي، من أصل تشيكي، ميلان كونديرا، رأت أنه يفضل كتابات تولستوى على كتابات دوستويفسكي، ويرى أن أورويل كاتب دعائي. وتقول شيرلايموفا، إن كونديرا يغفر لعدم كمال الآلة البصرية للكاتب «الذى يتحرك فى ضباب» المجتمع التوتاليتار/الشمولي، ولكنه عدائى تجاه المغالاة الأيديولوجية مهما كان نوعها. وهو يكشف عنها ليس فقط لدى المؤلفين «العميان»، وإنما أيضا لدى بعض الشخصيات الهامة التى لاقت اعترافاً كلياً. لهذا السبب فهو ينظر بشكل انتقادى إلى أعمال دوستويفسكى راصداً عملية الحكم المسبق فى تصويره للطبائع الإنسانية : «إن تماثل شخصيات دوستويفسكى يتلخص فى أيديولوجيتها الشخصية التي، بشكل مباشر أو غير مباشر، تعمل مسبقا على تحديد سلوكياتها، ولكن هل يُعْتَبَر الإنسان فى الحياة الواقعية إسقاطا مباشرا لأيديولوجيته الشخصية؟»
وعلى النقيض من دوستويفسكى أو فى مقابله، يقوم كونديرا بوضع ليف تولستـــوى «الذى يقدم لنا تصوراً آخر للإنسان: فى شكل طريق متعرج، رحلة، مرحلة، والتى لا تختلف- جميعها- مع بعضها البعض فقط، وإنما تنفى فى أحيان كثيرة المراحل السابقة وبشكل كلي» وبعد أن يحلل كونديرا كيف حدث تطور وارتقاء كل من بيير بيزوخوف وأندريه بوكلوفسكي، يقوم بإثبات أن البطل عند تولستوى يتغيَّر من أجل أن يظل هو نفسه : «الرواية فقط هى القادرة على تخمين ذلك السر- أحد أهم وأعظم الأسرار بالنسبة للإنسان- ولعل تولستوى هو أول من نجح فى ذلك»..
إن ليف تولستوى بالذات- فى رأى كونديرا- قد استطاع الكشف الذى ظهر فى بداية القرن التاسع عشر عن تعلق المصائر الإنسانية الشخصية بأحداث تاريخية محددة وارتباط الطبائع الإنسانية بالتاريخ، وذلك كله عن طريق الاستقصاء الروائى الخاص الذى ينطوى على التفكير الفلسفى غير المنفصل عن الحياة النشطة للإنسان.
وفى ضوء ما يقوله كونديرا، فالأعمال الإبداعية للفن الحقيقى لا تتوافق مع البروباجندا المتعمدة، وذلك لطبيعتها العضوية المفطورة على الشعر والتى توحد مثل هؤلاء الكتاب المختلفين، ولكن القريبين- من وجهة نظره- مثل تولستوى وكافكا» النوافذ مفتوحة وتطل على منظر طبيعى فى رواية كافكا، وفى رواية تولستوى فهى تطل على العالم حيث يحافظ الأبطال فى أفظع اللحظات على حرية القرار، التى تعطى للحياة عدم التكهن السعيد الذى يعتبر مصدر الشعر».
بين جوجول ودوستويفسكي
هنا نصل إلى مربط الفرس، حيث جوجول ودوستويفسكي، طرفيا المقص الإبداعي، وطرفى النقيض، اللذين فضحا ليس فقط النظام القيصري، بل والمجتمع الروسى نفسه، وكان كشفهما الروح الروسية وتوغلهما فيها، هما المنهج والأداة اللذان تم استخدامهما علنا وسرا للتعامل مع الكائن السوفيتى والكائن الروسى ما بعد السوفيتى فى المراحل الانتقالية التى أصابت الصفات الإنسانية الطبيعية بالضمور. إذ لم يتورع دوستويفسكى عن فضح تلك الروح التى تفرز القياصرة والوزراء ورجال الأمن والمخابرات،والأثرياء الروس الذين لا يعرفون ما معنى الكفاية والاكتفاء. ولذلك يتباهى به الروس ويكرهونه فى نفس الوقت، أو بلهجة دبلوماسية، لا ينظرون إليه فى قرارة أنفسهم نظرة واحدة، وإنما يلجأون إلى المراوغة فى التعامل معه ومع أبطاله. فلديه العديد من الأعمال التى ظل النقاد وأصحاب دور النشر يعتبرونها ليست بنفس قيمة المؤلفات المشهورة. ولكن هذه الأعمال تحديداً كانت تعكس جانباً كبيراً من السيرة الذاتية للكاتب التى فضح فيها المجمتع الروسي، وأظهر العديد من الجوانب المظلمة فيه. لقد كان عبقرياً متطرفاً فى كل شيء. وربما يعود هذا التطرف إلى طبيعة الشخصية الروسية، سواء فى علاقتها بالمناخ والطقس وظروف الطبيعة، أو فى علاقها بالسلطة.
أما جوجول فقد تعامل بطريقة أخرى نسبيا مع تلك الروح ففضحها أيضاً وكشف عن عوراتها. أى أن الكاتبين (جوجول ودوستويفسكي( وجهان لعملة واحدة. وهناك أوجه شبه بارزة الملامح بينهما: التدين، والمرض النفسي، واستعداء السلطة، الكشف-الفضح وإن اختلفت الأساليب واختلاف الأساليب هو الذى كاد يودى بدوستويفسكى إلى الإعدام، بينما دفع بجوجول إلى حالة من الجنون المرضي. لقد اعتبر البعض جوجول مؤلف «كتب مضحكة جداً»، و «فكاهى لا نظير له»، غير أن كتاباته المضحكة تشابكت مع عالم غير مرئى من التراجيديا والدموع والكوارث النفسية البشرية. ففى ملحمته الخالدة «الأرواح الميتة»، لم يتعلق الناس بالملحمة لعرضها الهجائى فحسب، بل لأنها تضمنت العديد من الملاحظات الحادة حول الذهنية الروسية، وطريقة التفكير، واللغة المنطقية، والروح المنفلتة، والمواهب المبدعة. وبفضل القدرة الإبداعية الفذة لجوجول، اكتسبت رحلات تشيتشيكوف أهمية عظيمة حيث ظهرت كسلسلة ليس فقط من خلال صور شخصيات مضحكة، بل إظهار حالات يومية وأوصاف رائعة عن الطبيعة الروسية، كل هذه الصور تشابكت فى سياق انفعالات فلسفية حول روسيا، والروح الروسية والمزاج الروسي. وحتى الآن لا يعرف أحد ماذا كان جوجول يقصد بـ «الأرواح الميتة» الأرواح التى كان يشتريها «تشيتشيكوف» فعلاً، أم أرواح الأحياء سواء أبطال الرواية، بمن فيهم «تشيتشيكوف» أو العديد من أولئك الذين يتحركون بيننا ونتعامل معهم يوميا؟!
وخلال قراءة كوميدياه الأفضل من وجهة نظر الكثيرين، «المفتش العام»، من الممكن الإحساس على الفور بمرارة الكاتب فى وصف «الجانب المظلم» من حياة تلك المجتمعات. ومن الطريف هنا أن نتذكر ملاحظة القيصر الروسى نيقولاى الأول عندما شاهد عرض الافتتاح لمسرحية «المفتش العام» عام 1836 حيث قال «لقد حصل كل شخص على ما يستحق، وأنا أكثر من غيرى». وفى الحقيقة، فالوجهاء أيضاً لم يخفوا عدم رضاهم، بينما الجمهور كان منتشياً.
دوستويفسكى وجوجول، وجهان لعملة واحدة، يجمع بينهما الكثير على الرغم من إمكانية وصفهما بطرفى النقيض. أى تلك المأساوية لدى الأول، والسخرية والإضحاك لدى الثاني. غير أن السوداوية تجمع بينهما، وتوحد عالميهما اللذين يبدوان متناقضين.
عليها، لقد تصفحت هذا الكتاب وألقيته جانبًا . لست بحاجة إلى أدبيات كهذه، فما الذى تستطيع أن تعطينى إياه؟ لا وقت فراغ لدى من أجل هذه القمامة.