أحمد أبو خنيجر يكتب : الاقصر بلدنا
أحمد أبو خنيجر يكتب : الاقصر بلدنا


الأقصر بلدنا

أحمد أبو خنيجر يكتب: الأقصر بلدنا

أخبار الأدب

الأحد، 05 ديسمبر 2021 - 04:48 م

كأنما الرابط، الطريق، ليس بين معبدين عظيمين، لكنه رابط بين زمنين: زمن الأجداد وزمن الأحفاد، بين عصرين، بين لحظتين، إعادة التأكيد على تلك الروح السارية، ودحضا لمقولة الانقطاع التى ترددها كثير من الطنطنات الفارغة الجوفاء.

كنت كلما استمعت للأغنية الشهيرة: الأقصر بلدنا بلد سواح. أشعر بحاجز هائل بينى وبين المدينة، ذلك أنها لا تخصني، فهى بلد للسياح، القادمين من بقاع الأرض المختلفة، لا لكى يعمروها، فقط كى يستمتعوا بآثارها الخالدة ومعابدها الشاهقة الفخمة، والتنزه فى شوارعها والجلوس على مقاهيها وأماكن لهوها، وركوب الفلايك فى بحرها، هى لهم، بلدهم، وليست بلدنا، لن أتجاوز إن قلت حتى بدا لى أهلها كذلك، لن يتعاملوا معى، وأنا جارهم القريب ، من أسوان، كمصرى منهم ويشبههم كثيرا، سيتعاملون معى كما السائح الغريب، يزننى فى باله من وزن جيبى فقط، ولن يكرمنى، كرم الجوار وللجيرة سبعة حقوق كما ورد فى الأثر القديم، ذلك الأثر الذى خلدته جدران المعابد التى أشعر وأنا بينها وفى محيط فضائها بغربة أشد.


غربة المعابد، ووادى الملوك تحديدا، كنت أسائل نفسى كثيرا، هل نحن حقا أحفاد من نحتوا هذه الصروح الباهرة الجمال بكل هذه الدقة المعمارية والهندسية وقبل ذلك الجمالية، هل نحن أحفاد صناع هذه الحضارة أم أنهم انقرضوا تماما، كما تذهب بعض المرويات، شايعها الجهل وخذلان الواقع والتردى العام، عين هنا تأخذنى للجلال والإكبار، وأخرى تتردى لسخونة ولهيب الشمس، تزيد من غربتى وتضاعفها، وأطالع الكتب وألهث وراء التدوينات القديمة محاولا إيجاد رابط بينى وبين أجدادى المزعومين أولئك، ذلك كى أحفظ بعض توازنى وأنسب ذاتى لتلك السلالة من بناة الحضارة الأوائل، ليس لأنهم سادوا العالم القديم، ونحن الآن كما ترى، لكن هذا النهر العظيم فى كل مرة كان يطمئننى ويردنى لصوابي، وكأنما أستمع لحابى فى تجليه الحار وهو يهدر واهبا الحضارة للناس عبر تفاعلهم معا.

 


كانت الطمأنة تأتينى فى ذلك الحس الشعبى الدافق الذى مُرر ببراعة وعبقرية فريدة، حتى وإن وصمها البعض بالتحايل على سنوات الاحتلال الطويلة، منذ لحظة سقوط الدولة الفرعونية الحديثة، وقال البعض انكفاء المصريين على تراثهم عقب زوال دولتهم ومجدهم وحضارتهم، أيا ما كان الأمر، كنت أجد فى ذلك النسغ الخافت فى وضوحه، الهادر فى تجليه، ذلك العون والمدد، بأننا أحفاد عظام الفراعين مهما جار الزمان وتقلبت الأيام والأحوال، ما بين تجليات العنخ إلى دورة الفصول الزراعية للحكم والأمثال العميقة فى تطبيقاتها اليومية، لدورة الحياة وزفة المولد واحتفالات القديسين والأولياء، تلك المواكب التى لم تبتعد كثيرا عن مواكب آلهة مصر المحليين فى أقاليمهم، حتى رأيت مراكب أبى الحجاج ودورتها وطوافها حول المعبد وتفاعلات البشر والمراكب والنيل والأهازيج والمدائح والأذكار وسعار النشاط الدنيوى حتى تأكدت تماما من ذلك الرابط الذى يحاول الكثير طمسه والتنصل منه، وكأن الفراعنة سبة أو لعنة يجب تجاوزها ووصمها بأحط الصفات يكفى فقط أن تتأمل تجليات لفظة: مساخيط. حتى تدرك مدى الاستهانة والتقليل والتنكر الفاضح؛ رغم ذلك كله كنت أنتظر لحظة التجلى، القيامة الجديدة لهذا الكامن.


على الجانب الأخر كنت أرى بعينى وأستمع لتلك الكشوف الأثرية التى تجرى، خاصة فى طريق الكباش، رغم الاتهامات والتقليل منها، غير أنى كنت أراها بداية لطريق طويل، فقط علينا أن نخطو الخطوات الأولى، بعدها ستتابع الخطوات وتتوالى، وقد كان حتى بدا إن حلما قديما أخذا فى التبلور، حتى إذا انتشرت أخبار عن الاحتفال بافتتاح الطريق، وربط ما كان مربوطا ومتصلا فى قديم أيامنا على هذه الأرض، هنا ما بين أكبر تجلى للعمارة الفرعونية فى أوج لحظات عزها وانتصاراتها التى عمت المعمورة فى ذلك الزمان كأنما الرابط، الطريق، ليس بين معبدين عظيمين، لكنه رابط بين زمنين: زمن الأجداد وزمن الأحفاد، بين عصرين، بين لحظتين إعادة التأكيد على تلك الروح السارية، ودحضا لمقولة الانقطاع التى ترددها كثير من الطنطنات الفارغة الجوفاء.

 

 


كنت أقول فى نفسى إن احتفالا كهذا يجب أن يكون أسطوريا، يوازى تماما ويكافئ أرض الأساطير المقام فوقها، يعادل أسطورة العظمة ويربطنا بها برابط لا ينفصم، وكل تخوفاتى ألا يكون الأحفاد على نفس القدر من الدقة والأسطورية التى كان يرفل فيها أجدادهم، إن حدثا كهذا يجب أن يكون مدويا يبهر العالم الحديث، كما أبهرت مصر عالمها القديم، هذا الإبهار ليس معتمدا على ما هو قديم، آثار ومعابد وغيرها، لكن بقدرتها الحديثة والحداثية، فى رحاب أعظم صروح العبادة والفن والجمال القديم، كيان واحد، يتخلق بعضه من بعض، كأنما هو قيامة جديدة ودلالة على قدرة المصريين المحدثين، أن يكونوا مثل أجداهم الأوائل، ليسوا أقل وغير منفصلين عنهم أيضا.


وكان اليوم المشهود، المرتقب، يوم البرهان على تلك القدرة والرباط والدماء والجينات التى لن يطالها الزمن مهما تقلبت أحواله، مشوبا بالفخر والعزة والإجلال بقيت أتشرب الاحتفال لحظة بلحظة وأنا أرى الجمال متعانقا ما بين زمنين وحضارتين تسعى كل منهما لإبراز جمال اللحظة الراهنة ومدها بذلك الشعور بالفرح الغامر والإحساس القوى بالقدرة على الفعل واستعادة ما كان قائما بالفعل، يكفى فقط أن تشاهد مثلا موكب المراكب الإلهية فى الخروج المهيب لعيد الأوبت، وتعيد فى ذاكرتك الحديثة مواكب أبى الحجاج المقام بين رحاب المعبد، مواكبه ومراكبه والنيل القريب، حتى تصل لقدس أقداسها، أقصد محراب المسجد وقبلته، المنحوت فى قلب أحد أعمدة المعبد، هذا التجلى والرابط الذى صنعه الأحفاد فى إشارة واضحة لذلك الامتداد والنسيج الواحد.

 


كثيرة هى لحظات الفرح والإبهار التى بدأت بالاحتفال وفى ظنى أنها لن تنتهي، فقط تحتاج للعمل عليها ومدها وتمديدها، كأما الحلم القديم بإعادة اللغة الهيروغلفية أصبحا قريبا وأن توضع ضمن مناهج التعليم، كلغة أساسية، حتى يتم كسر الحاجز تماما بيننا وبين أجدادنا وتستطيع الأجيال الجديدة التواصل معهم بكل الفخر، والبناء على ما تم من إنجاز أبهر العالم جميعا، فقط هى التى ستعيد لنا تلك المدينة العظيمة، ولا تصبح فقط بلدا للسياح، لكنها بلدنا فى الأساس، إنها الأقصر.

 

أقرا ايضا | من «ستي الأول» إلي«مرنبتاح».. أسرار تاريخية في موكب المومياوات الملكية

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة