الترند
ياسر عبد الحافظ يكتب الحياة داخل الترند
السبت، 25 ديسمبر 2021 - 02:39 م
فى زمن وجيز جرفت مواقع التواصل الاجتماعى على طريق انتشارها سلسلة الاتهامات التى طالتها فى بدء وجودها، لم تستغرق سوى برهة من عمرها بقيت فيها «حائطا» أخرس يحمل ألبومات صور وتحيات خجولة يتبادلها المشتركون مثل محبين لم تنكسر الغربة بينهما بعد، ثم ساعدها الظرف التاريخى والتحولات العالمية التى بدأت مع القرن الجديد ولم تستقر على ملامحها النهائية، إعادة تشكيل أنظمة وأحلاف واقتصادات وتبدل منظومات الأعراف والقيم .
وهنا من الصعب إدعاء يقين يحسم الجدل حول مسألة العلاقة بين الواقع والافتراضى أيهما أثر على الآخر: هل كانت مواقع التواصل الاجتماعى فرصة الناس للتغيير، أم خلقتها السلطة (على اختلاف أنواعها وتوجهاتها) لتنفيذ أجندتها؟ لكن من حسن الحظ أن الإجابة لم تعد ضرورية فالاختلاف الظاهرى بين تلك المواقع لم يمنعها من الاتفاق على هدف واحد: حشد البشر على منصاتها، وتحت راية ديمقراطية تبيح طرح مختلف الآراء اتسعت أرضها لتشمل الفئات المتباينة بمن فيهم من وصموها بأنها ساحة للتمرد والانفلات، هكذا التقى المتمردون ودعاة الاستقرار، وتبعهم بالضرورة دعاة الدين ومناوؤهم، ثم ومدفوعات بالفضول تركت الأمهات والخالات انشغالاتهن التقليدية ليخفف وجودهن من الطابع المتزمت لهذا الواقع ويكتسب ملامح حياة طبيعية، مشاحنات وصراعات وتودد وملاطفة وتحرشات، الأنشطة الإنسانية أصبحت علنية بما فيها ما يتطلب المناجاة.. من له مسألة عند الله رفع يده بالدعاء عبر صفحته، ثم لم يعد إلزاميًا الذهاب إلى سرداقات العزاء فقد نُصبت على مواقع التواصل بدائل افتراضية، وبالمثل عُلقت على الحوائط الافتراضية الزينات للأفراح وتقبل المباركات.
لم نعد إزاء وسيلة تواصل مثل وسائل سابقة كالهاتف أو الخطابات، تفقد سطوتها بعد وقت وتندرج تحت بند «أداة» مثل آلاف غيرها، ولسنا أيضًا بصدد وسائل إعلام بديلة، الأقرب أننا نشهد قيام وجود مستقل يزدهر بأسرارنا ومساحاتنا الخاصة، ولم يأخذ النقاش حول «فضح» الأسرار و«هتك» المساحات الخاصة ما يستحقه من نقاش، عربيًا على الأقل، لم يعد طرح القضية يثير سوى سخرية مدفوعة برغبة حجز مكان فى هذا الوجود المزين بالرموز التعبيرية عن المشاعر ببهجة وبلا تعقيدات التواصل التقليدية بين البشر. الوجود الافتراضي، وعلى العكس من الواقعي، ليس فى حاجة إلى المرور بالحواجز الكلاسيكية لفهمه، إنسان يُعاد بعثه وتنقيته من أهوال الحياة السابقة، ليس مطالبًا بالإجابة عن أسئلة فلسفية، ولا أن يفهم نفسه، هل تمكن أحد من البشر قبلًا من فهم نفسه! أهلًا بك مع الالتزام بقاعدة بسيطة: القبول بمبدأ المشاركة مع عموم البشر: ماذا لديك لتقوله؟ بماذا تشعر؟ ما رد فعلك على كذا؟ شاركنا الرأي؟ والخيارات مفتوحة ومتعددة، أى شىء مقبول.. أفكار، ذكريات، أحلام، غضب، مخاوف، تخاريف لكن.. لا تصمت! ومع قبولنا ننضم إلى واحدة من اللحظات الغريبة فى تاريخ الإنسانية، فلم يحدث أن تمكن الناس من إيجاد وسيلة تمكنهم من التواصل بهذا القدر من السهولة والانسيابية وعلى هذا النطاق الواسع، لم يحدث أن كان التعرى جماعيًا إلى هذا الحد!
جارون لانير، عالم الكمبيوتر والموسيقى وواحد من الرجال المؤسسين لعالم الذكاء الاصطناعى يؤكد فى كتابه «عشر حجج لحذف جميع حساباتك فى مواقع وسائل التواصل الاجتماعي» أن كل ما يحدث على تلك المواقع مدبر ومخطط له سلفًا، أنها مواقع شريرة معدة للإدمان عليها ولتغيير السلوك الاجتماعي، من خلال استغلال نقاط الضعف الإنسانية، وأنه، ولو بدت الأمور عشوائية، على تلك المواقع وأن الناس من يديرونها فأن الحقيقة بعيدة عن ذلك تمامًا، فليس هناك شيء اسمه الصدفة فى تلك العملية ونحن لسنا إلا «دمى غبية خاضعة لألعاب نفسية مبرمجة من قبل تلك الخوارزميات الماكرة والمتطورة باستمرار» وبالطبع فإن هذا الفضاء الوهمى مؤسس لخدمة أهداف سياسية واقتصادية فى المقام الأول.
ربما لسنا فى حاجة إلى لانير لنعرف هذا، لكن السؤال هل يمكننا أن نتبع نصيحته ونحذف حساباتنا على تلك المواقع؟ هل يبقى لنا من وجود إن فعلنا؟ ما القضية التى علينا الانشغال بها طوال يومنا إن لم يوجهنا الفيس بوك وتويتر وغيرهما؟ نحكم على أنفسنا بالوحدة والعزلة إن عشنا من دون تلك المواقع، وننسحب بإرادتنا من المجال العام، ومن المشاركة فى النقاش الساعى إلى التغيير، للأفضل، غاية منشودة دومًا بغض النظر عن الطرق المتبعة والوسائل المتخذة والنيات الطيبة المعبد بها طريق الجحيم.
كتاب لانير هذا كان، ومثل بقية أعماله، من بين الأكثر مبيعًا عام صدوره، وما يزال ضمن الكتب المرجعية فى النقاش المحتدم حول مواقع التواصل الاجتماعى فى الغرب، وهو نقاش لم يصلنا إلى الآن ولم ننخرط فيه بالشكل الكافى، وبالطبع ستبدو مجازفة إن افترضنا أن إدماننا على وسائل التواصل الاجتماعى أفقدنا إرادتنا الحرة، كما يحذر لانير، أو أن الجنون غمرنا وغابت عنا الحقائق وأصبح كل ما نقوله بلا معنى!
أبحاث لا تنقطع تجمع على التأثيرات السلبية لمواقع التواصل الاجتماعي، ليس أخطرها كما نظن هنا.. إضاعة الوقت، أو فقدان التركيز، بل الأخطر، وعلى عكس ما كان متوقعًا، أن: مواقع التواصل الاجتماعى تغذى الشعور بالوحدة، والقلق الاجتماعى وتثير مشاعر الحسد بين الناس، وتعمل على ترسيخ الاكتئاب، والمخاوف من المستقبل. هذا هو إنسان اليوم العالق فى فقاعة الوجود الافتراضي، ذكاء اصطناعى خارج عن السيطرة انشأناه وربيناه على ذكرياتنا وأحلامنا ومشاعرنا، فرأى من خلال ما منحناه أن له حق السيطرة والتوجيه، تطور الأمر إلى صناعة الأفكار وتمريرها وقيادة البشر عبر الوسيلة الأسهل والأسرع انتشارًا وفعالية ..الترند.
تتجاور ترندات الموضة، والبضائع الاستهلاكية، والمنتجات التجارية، القضايا الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية، تشتعل التعليقات والهتافات تعقيبًا على حدث أو صورة أو شائعة أو معلومة مغلوطة أو قصة كاذبة، المصدر ليس مهمًا، ولا أحد لديه الوقت أو القدرة على التحقق من المعلومة، ما إن يلقى موضوع الترند الصدى المناسب فلا شيء يمكنه إيقافه، إلا بموضوع آخر أو عندما ينال التعب من الجميع، يستنزفون طاقتهم فى نقاش لا ينتهى إلى وضع حلول أو معايير يتم القياس عليها فى قضايا أخرى، نقاش سطحى ومتعصب يشبه سلوك الجماهير فى المدرجات لا يؤدى إلا إلى تمترس كل فئة وراء راياتها.
ليست الأولوية البحث فيما إن كانت ثمة مؤامرة أم لا ، أو إن كانت هناك جهة ما تعمل لتشكيل العقول وتنميطها، فالمؤكد أن مجموعات مصالح كثيرة تلجأ إلى وسائل التواصل الاجتماعي، إلى الترند، للتسلل إلى حياتنا وتحويلنا إلى مجرد أرقام يتم توجيهها بيسر إلى الغايات المرسومة مسبقًا. ألا يستحق الأمر التفكير قبل الإجابة عن سؤال مواقع التواصل الذى يحثنا على الاعتراف : ماذا فى رأسك؟
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة