الـكُـلّ يـقـول أحبك
مـحـمد بـــرادة يكتب الـكُـلّ يـقـول أحبك العـواطف وسـطوة التـقاليـد
السبت، 01 يناير 2022 - 04:34 م
قــد تـبدو الحكاية التى تـنبـنى عليها رواية «الـكُـلّ يقـولُ أحبك» لِـميّ التلمسانى (دار الشروق 2021) مـألوفة فى علائــق الرجال بالنساء ضـمن سياقاتٍ مـتـبـايِـنة، لأن الحاجة إلى ممـارسة العواطف والـغرائز تـشكّــلُ عنصرا حيويا فى رحـلــة الإنسان على الأرض. إلا أن خصوصية السـياق والفضاء فى هذه الرواية تضـفى عليها عنـاصـر تمـيّـزها عن الـمـألوف وتـكـسِـبُها أبعادا تــُلامـــس التجربة الوجودية لشــخصياتٍ ذكـورية وأنثـوية تـتـوفـّـرُ على الثقافة والـوعى والطموح إلـى الـتـمــيّـز. ذلك أن شخصيات الرواية تـنتـمى إلى أقـطار مـتبـاينة من الفــضاء العربى، وتـعــيش «مُـهاجِـرة» ومُـسـتـــقــرّة فى كـلّ من كـندا والولايات المتحدة الأمريكية. من ثـمّ، فهى لا تـكتفى بِـهُـويّة ثابـتة وإنما تعيش فى الـبَـيْـنَ بـين، مُعــرّضَة للـرياح والعـواصف، وهُــويّــتـها فى صــيرورة دائمة لا تـكادُ تسـتــقـرّ عـند مــرفــأ. لـقد اخــــتارتْ مـى التلمسانى التى تـميّـزت فى رواياتٍ سابقة باستــيــحاءِ التجارب الذاتية لأوضاع المرأة المصرية المتطلعة إلى التحرر، أن تلامس فى هذه الرواية الجديدة حياة المـثقـفين العـرب الذين هـاجــروا وأصبحوا يـعيشون فى «واقِــع» الحـداثـة الكونـية التى عرفوها مـن قـبل على مسـتـوى الـنظريات والمذاهب الفلسفية.. كأنما -فى هذه الرواية-انـتقلتْ مجموعة من «الحداثـيـيـن العـرب» لتعيش ضـمن مـناخ اجتماعى، سـيـاسى، تحــقـقـتْ فيه الحداثة بالـمَلموس. لذلك، تـبدو شخصياتُ رواية «الـكـلّ يقول أحبك»، عــلى رغـم انتـمائهـا إلى مجـتـمعات واقعية، وكــأنـها فى الآن نفسه شـخصيات متـخيّلة تـنـتمى إلى فضاء زئـبـقيّ يـســتـمــــــدّ مـقوماتـه وسُــلوكَه من قـيـَـمٍ مُـتــعـارضة، لا تـخــلو من مـفارقــاتٍ وتــنـاقُـض ...
>>>
اهـتدتْ الكاتبة، على مسـتوى بـنـاء الرواية، إلى شـكلٍ يضـمـن تـعدّد الأصوات والـمسارات والـرؤيات؛ وفى الآن نـفــسه يــؤولُ إلى نـقطة الـتــقاء، تـختار عندها كـلُّ شخصيةٍ طـريقا لـلاسـتـمرار فى الحياة. ما هو مشترك بين شـــــخصيات الرواية هو أنها تـتـوفـر على مسـتوى مـتـمـيّـز من التـعليم والثقـافة أتــاح لها أن تـغـادر الأوطان وتـســتـقرّ فى كـندا أوْ أمريـكا، عـاملة فى أسلاك التـعليم الجامعى أو مجال الصحافة ووظـائف الدولة أو مشاريع تجارية. ولان كل واحد مـــن الشخصيات الخــمْس يـخـتـزن ذاكرة عـربية وحـنـيـنا إلى طـرائق العيش المضيـئـة فى طـفولته، فــإن بيئة الاسـتـيطــــان لا تـقـوى على فـكّ الأواصِــر مع ثقافة الموطن الأول. لذلك،يأخذ مجـرى الحياة تـولـيـفـا بين السلوك المـتأصّـل والعادات الجديدة المُــكـتـسبَـة. عـنـدئـذٍ يغدو أفق العلاقات بين الرجال والنـساء مُـنـفـتـحـا على مُـجاوزة «الحدود» التى رســــمــتْـها التقاليـد فى فضاء الوطن الأول. ذلك أن العيش فى كنـدا يضمن حـرية المرأة مثلما هى مضمونة للرجل، ويحمى الاختـيار الـفردى الذى لا يُـسيء إلى حرية الآخــرين. وهذا هو ما يُـبـرّر السـلوك المـتحرّر لـدى شخصيات مجتمع «الكلّ يقــولُ أحبك»، إذْ أن علاقة الـزواج لا تحـولُ دون ربـط عـلائق غـرام أوْ مُعاشرةٍ خارج نطاق «الشـرعية». ومـثل هذه العلاقـات هى التى تـفتح بابَ التـسـاؤلات عن طبيعة المشـاعر ومسؤولية الفـرد فى «المـجال الـعـواطفي» ونـزوع الغرائز المتحررة من قـيـودِ الــتّــقـنيـن . انطلاقا من ذلك، تحكى الرواية عن علائق زواج ومـغامرات تُـصاحِـبُها أوْ تسبـقها؛ ويتـنـاوبُ على الـسّرد كـلّ من كـمال المصرى وكريم ثابت ونـورهـانْ عبد الحميد ودايْـنـا سليمان وبـسّـام الحايك. كل شخصية تــحكى عن مسارها وعن تجربة الزواج والمغامرات الجانبية. ويتـجلى من هذا الحكى وجودُ ما يُشـبه شـبــــكة اجتماعية تــضمّ معظم العرب الغرباء عن طريق العمل المشترك أو اللـقاءات العابرة. من هذه الزاوية، تكتسبُ الرواية كـيـانَها وفضاءَهـا المُـوازيـيْـن والمُـتـقـاطِـعيْن عـبْـرَ التّــهجـيـن الـمُـخصِــب مع «الآخــر»، وتـلامِس الـدّلالـة ُإشـكـاليـتـيْـن: أولاهما، تحـوّلُ الـزواج إلى قــيْــدٍ خـانق مع طولِ المدة وفـتور الرغـبة؛ وثانيـهما اللجــوءُ إلى لعـبة الحبّ عـند الإخــفـاق فى مواجـهــة التاريخ بـِـقــصْـدِ الانـزواء فى الحياة الخاصة.
الـرغـبـة فى حياةٍ ثانية واللجوء إلى الـحب :
تستـوحى رواية «الكلّ يقول أحبك»عــلاقةَ الزواج وما ينجمُ عنها من احتكاكٍ واختلاف على رغـم آصــرةِ الحب والتــفـاهُم التى يُــــفتــرض أنها جـــمعتْ بين الـزوجـيْن. ذلك أن المعاشرة والتحولات الطارئة على الجسد والعواطـف، كثيرا ما تـوقظ لـدى الـزوجيْـن الرغبة فى «تجديد الفراش» حسب التعبير الشائع عند الرجال. وهذا ما يعبر عنه كمال المصرى فى الرواية قائلا: «تـحوّلَ الزواج إلى شـراكة فى الـبـيْــت ومـا يُـشبه الصداقة فى الفراش»ص.12. ثم يضيف: «..وحدها تلك الرغبات القليلة، المحدّدة،التى لم يُكتَـب لها أن تـتـحـقق ظلتْ عالقة بالحلق كالـغُــصّة. الرغبة فى حياةٍ ثانية بلْ فرصة ثانية فى الحياة نفسها، تلك الرغبة الملحة التى أشقانى عدمُ تـحـقـقها فيما مضى، ما زالت تُـشقينى استـحالةُ تحققها فى الحاضر» ص.34. ونفس الشعور يُعـبّر عنه كـريم ثابت قائلا : «كانت المرة الأولى التى أشعر فيها بالاخـتناق فى وجود «نـورْهـانْ». بـدا زواجى منها كـأنه حـبْلُ مشـنقةٍ يـلتفّ حـــولَ رقـبتى. تراجع الحب فجأة وحـلّ محـله شعور بالأسْــر، كـأننى أقف مسـلوبَ الإرادة وراء قضبانٍ وهمية» ص.68. مـا يـزيد العلاقة تـعقيدا هو أن الزوج لا يـقبلُ أن تـدفع زوجتُه المـلل عنها بـِربْطِ علاقة مع رجلٍ غيـره. يقول كريم: «أفــكّـر أن نـورْهانْ التى نشأت فى كنـدا سمـعتْ بأشكالٍ مختلفة من الزواج، وتعـرف بلا شك أن العلاقات المفتوحة عـادةً مــــا تـفشـلُ وتـنتهى بالانــفصال. وماذا لو سـألتـنى عن حقـها فى أنْ يكون لها صديق بــفـوائـد أو عشيق غيري؟» ص.70. إلا أن هذا الجانب من الـدّلالة فى الرواية لا يـكتـملُ ويأخذ أبعـاده الإشكالية إلا من خلال استـحضار شخصية بــسّـــــام الحايك، الـسورى الأصل الذى نـزح إلى كندا بـعد أنْ راهَـنَ على نجاح ثورة تـغيير المجتمع فى سـبعينات القرن الماضى وخـابَ أمـلُــه. إنه نموذج لـ»البـطل الإشكالي» المـتشـبث بقـيَـم الاستعمال بدلا من قـيَــم التـبادل، والطامح إلى أنْ «يعـبــر مـن الحب إلى التاريخ» لكنه انتـكـسَ من التاريخ إلى الحب، حسب التحليل الذى يـقترحه الأستاذ الـعـروى فى حوار حول الرواية بعنوان» من التاريخ إلى الحب « (كتاب الدوحة،2015). من هذه الزاوية، يحاول بسّام فى كندا أنْ يعـوّض فـــشـلـه فى السياسة بـِــربْـطِ علاقات غرامية على هامش زواجه من امرأة كـندية تـعانى من مرضٍ عُـضال. يصف إدمـانَه على العلاقات الغرامية قائلا :»رجل تجاوز الستين ينجذب مؤقتا لفتاة فى عمر ابنـته، وربما أصغـر سـنا منها، ويُصارع الذكرى فى «بارك» بارد فى «ديربورن» ذات صباح شـتوى. ما هذا الـهراء؟ ومتى أكـفّ عن الاحتماء من ذكريات الماضى البعيد بـظلالِ ربـيعِ الـفتـيات؟» ص.171. لكنْ، على رغم وَعْـيـِه بهذا الـنـشاز فى سلوكه، يـظلّ بـسّام مشدودا إلى تلك العلاقات الموازية التى تـسـعـفُـه على مـكابدة وضـعيته الـمأسوية: «لـديّ مطلب بسيط آخــر:أنْ أقـع فى الحبّ أحيانا حين تعــرضُ عـليّ المـصادفة ُبِـنـتا ًحـلوة أو سيدة جـذابة تـأتيـنى فى الأحلام ، أو تمنحنى فى الواقع وقـتا لـطيفا أسعد به. كل ما أبتغيه فى الحياة بعد الستـين، فضلا عن عملى وزيـجـتى المستـقــرّة، هو فسحة من نسائم الأمل وتجـدّد الوصال» ص.177.
>>>
يلفتُ نظرنا صـوتُ بسّام لأنه يحاول أن يسـتـبطـنَ تجربـته الوجودية مـنذ شبـابه، مُستعرضا طموحاتِ شبابه وما آلـتْ إليه الأوضاعُ فى الفضاء العربى الـمُـمـعِـن فى التـدهور والإجهاض. لكنْ، ربـما تكمن مشكلته فى عـنصـر آخـر كشــفـتْـه عشيـقته وزوجته دايـنا سليمان وهى تخاطبُه: «إن ما تُـخفيه بداخلك يـنتمى لـعالمٍ تُـنظمُه قـيَـمٌ تقليدية لـم تـتـخـلّ عنها مـنذ وصولكَ إلى كندا، ثـم انتقالك إلى أمريكا وحتى اليوم . أنتَ يا حبيبى رجل عربى وجـد نفسه فجـأة مُـطالبا بأن يتمرّد عـلى تـقاليد يـثـقُ فيها ويحترمها (...) عـلاقاتكَ بالنساء مـبـنيّة على الصراع بين تقاليد قديمة ومـوروثة متـمسكٌ بها، ونمط الحياة الحـديثة فى أمريكا الذى تـدّعـى أنك تـنتمى إلـيـه...» ص.145.
لـقد استطاعتْ ميّ التلمسانى، من خلال السّـرد الموزع على خمسة أصوات، أن تخلق ديـنامية تـفجّر الجدلـــيــة الكاشـفــة للتـناقضات وتـحــثُّ القارئ على أن يُـعيد التحليل والـتقـيـيـمَ على ضوء مـخـتــلف لآراء شخـصيات الرواية. لأجــــــل ذلك حققتْ رواية «الكلّ يقول أحبك» توازُنـا مُـضيـئـا بين شكل السرد وتكـثـيـر الأصوات ومستويات اللـغة، وبــيــن إبـراز الدلالة المزدوجة: السـعيُ إلى علاقة موازية للزواج تُجدد الرغبة؛ثم اللجوء إلى لعبة الحبّ لِـمُـــــداراة الفشل فى مجــــال السياسة. وهذه دلالة ذات أبعادٍ إنسانية تـعلو على الانتماء إلى مجتمعٍ بـعينه. ولـئن كانت الكاتبة قـد لامستْ فى روايــتــهـا السابقة «أكـابــيللا» (2012) مسألة الصراع بين الرغبة والتـقـنين ووضعتْ مؤسسة الزواج مـوضع تساؤل، فـإنها فى رواية «الكـلّ يقول أحبك» تـذهبُ إلى مستـوى أبعد، إذْ تـطرح الإشكالية فى جوانبها الكونية والذاتية، ضـمن نسـيج سـردى مشوق ولغة سـلسة ودقيقة، ورؤية تـتحـيّـزُ لحرية الـفرد، رجـلا كان أو امـرأة، على قـدم المســاواة.