فراشات مواظبة تذهب فى عطلة
فراشات مواظبة تذهب فى عطلة


فراشات مواظبة تذهب في عطلة

أخبار الأدب

السبت، 01 يناير 2022 - 05:24 م

مصطفى النفيسى 

لم تتغيب أية فراشة. قمت بإحصائها واحدة واحدة. فكانت كاملة غير منقوصة. أعدت عملية الإحصاء أكثر من مرة، فكان العدد نفسه. وهو نفس العدد الذى ارتاد الحقل الأحد الماضي. رغم أن عددها يفوق الألف، فأنت استطعت أن تعرف عددها مستعينا بدفتر صغير تافه بأوراق مهلهلة، ربما هو نفس الدفتر الذى كنت تضبط به غياب تلامذتك فى سنوات خلت.

هو نفسه تماما بلا شك. ومازالت جنباته تغص بأسماء المتغيبين منهم، والذين فكرت بأن تخصم لهم نقطتين َمن معدلاتهم، والتى بالكاد حصلوا عليها.

قلت لهم إننى كنت سلسا معكم فى تصحيح أوراقكم. ابتسموا قليلا، ولووا أعناقهم، وبعضهم بقى متجهما كأنه أقرضك مبلغا ماليا، ولم ترجعه إليه. فكرت بمباغتته قائلا: لا تقلق. سأرد إليك أموالك غير منقوصة، مثلما هو عدد الفراشات فى الحقل الذى أزوره باستمرار. لذلك لا تقلق! لكنك لم تقل له أى شيء. فقط تجهمت أنت أيضا، ولويت عنقك أكثر من َمرة فى حركات بطيئة مقصودة، أصررت على أن يروها جميعا. إحدى التلميذات، وهى ليست فراشة حقل طبعا، قالت لك: لم أفهم معنى: «سلس». ابتسمت هى الأخرى، ولوت عنقها.

ووضعت أصابعها، بعد أن حولتها إلى سكين صغير، داخل مقلمتها الشبيهة بسيارة فيرارى مركونة فوق الطاولة.

وكانت فعلا سيارة فيرارى بكل مواصفاتها غير المنقوصة هى الأخرى. لقد تفنن الصانع فى صنعها، أو أيا كان الذى صنعها، ربما هو عامل صينى بلحية صغيرة غير موضبة، مثلما هم الصينيون الذين نظرت إليهم دائما ككائنات شديدة الإحتراس.

هناك من يعتبر أن الصينيين يتميزون بالحزم، وهناك من سيعتبر أنهم قليلو الكلام، وفئة أخرى ستعترض قائلة بأنهم يخضعون لحميات غذائية دائمة بشكل صارم، لكنهم بالنسبة إليك هم مجرد كائنات شديدة الإحتراس. الصينيون لا يثقون فى أحد. لا يثقون حتى فى ظلالهم. يمشون فى الشارع، وهم يتفرسون فى هواتفهم الذكية، ومن حين لآخر يلقون نظرات على ظلالهم ليتأكدوا أنها لا تتجسس عليهم، ولا تقرأ ما يرقنون.

لذلك فهم من حين لآخر يرفسونها بأرجلهم، ويصدرون أصوات امتعاضية دلالة أنهم يؤنبونها. هكذا فسيارة الفيراري، والتى لم تكن سوى مقلمة مدرسية، هى من صنع مواطن صينى شديد الاحتراس. لذلك فهو كان محترسا جدا من تعليقات تلامذة لن يرحموا قلة حيلته، أو تدنى مهنيته. فكانت المقلمة تبدو تماما كسيارة فيراري، حتى أنك تخيلت التلميذة.

وكأنها تفكر فى ركوبها فى أية لحظة ومغادرة الحجرة الدزاسية، حينما ستعود إلى مكتبك. ستركبها دون أن تصدر أى صوت، موجهة نظرات قاسية ومتعالية لزميلاتها، اللواتى لم تسنح لهن فرصة اشتراء سيارات فيرارى إبان الدخول المدرسي. لذلك كانت حملقاتهن غير بريئة، وهن ينظرن بكثير من الحسرة إلى سيارة الفيرارى التى ركنت لأول مرة فوق طاولة مدرسية. أجبتها قائلا: إنك تتوخين السلاسة.

وأنت تركنين سيارة الفيرارى فوق طاولتك، كأنك لا تريدين إزعاجها، وهذا فقط كى تكونى سلسة وغير مؤذية، رغم أنك لم تكونى سلسة فى سؤالك هذا. تضاحك زملاؤها وزميلاتها، ناظرين إليها نظرات شماتة ولؤم، كأنهم يقولون لها: فى ما ذا ستنفعك سيارة الفيرارى الآن؟. و اكتفت هى فقط بالتمسيد عليها بعد أن حولت أصابعها من سكين إلى منشفة صغيرة غير مؤذية. 


لقد كان الدفتر المدرسى قد أخذ صفات جديدة وغريبة. وهذا ما سيقطع أية فرصة على كل المشككين فى إمكانية إحصائك لكل الفراشات التى فاق عددها الألف مثلما ذكرت لكم. فقد أصبح يغص برموز كثيرة تختلف عن الرموز الرياضية، والتى ستفهم فيما بعد بأنها أسماء الفراشات التى ترتاد الحقل كل أحد. لذلك لم تكن تنادى عليها بأسمائها، بل كانت تأتى هاته الفراشات لتضع توقيعا بجانب أسمائها، مثلما يفعل التلاميذ بعد إنهاء امتحاناتهم، وذلك لتأكيد حضورهم. وبعد استكمال مرور سرب منها، كانت تلك الرموز تتغير فجأة بطريقة عجيبة ومحيرة.

أنت نفسك أصبت بالدهشة والحيرة. فأسئلة مثيرة كانت تدور فى مخيلتك: من دوَّن أولا تلك الأسماء؟! وهل يعقل أن يوجد شخص، أو كائن مهما كان، يضبط أسماء كل هذا الكم المهول من الفراشات؟ وكيف تسنى له التسلل إلى غرفتك، وتدوينها فى تلك المذكرة المدرسية المخصصة لضبط غياب التلاميذ؟! وكيف يمكن للفراشات أن تتعرف على أسمائها المدونة بإتقان كبير؟! والأهم من كل هذا هو: كيف تتغير محتويات الورقة بشكل دوري، بحيث استطاعت كلها أن توقع فى محضر الحضور؟! ثم، كيف كان يقفز الرقم إلى ذهنك، حتى فات الرقم الألف بفراشة واحدة على غرار حكايات الألف ليلة وليلة؟! 


 كان الأمر فعلا شبيها بخريطة رسمها تلميذ شارد الذهن. وتتذكر أن أول خريطة رسمتها لبلدك كانت عبارة عن حديقة مزدهرة بسياج محكم وبأشجار عالية. رسمتها فى مدة طويلة وقياسية، كأنك كنت تنهى سباقا صعبا فى الماراثون، بعد فطور صباحى فقير. كنت توطن عليها المدن؛ كأنك بستانى يوطن شتائل صغيرة على أرضية بستان. لم تظفر فقط بسخرية زملائك، بل سخرت منك أيضا أختك فى المنزل. 


حينما كنت تفكر بوضع الدفتر فى محفظتك الرمادية المخصصة ليوم الأحد، لاحظت أن راعى الغنم الذى كان يضع فوق رأسه قبعة مضحكة، كان يسترق النظر إليك. كان يحرص على أن تلامس أفواه شويهاته عشب الحقل المجاور.

يهش عليها بيديه الفارغتين من أى عصا.

فكرت أن الراعى الحقيقى يجب أن يحمل دوما عصا معه ، مثلما أنت تحمل معك بشكل دائم محفظتك الرمادية التى تحتوى على دفاتر صغيرة ومذكرات تسجل بها ملاحظاتك و قصائدك الشعرية الشبيهة بحقول غير مسيجة، أو فقط بقطع خبز مقضومة من كل جانب. هذا فقط لأنك لا تنهيها أبدا. 


تعود فقط لقراءتها من حين لآخر، وباحتراس شديد من أن يراك متطفل أو نمام. وهو احتراس شبيه باحتراس الصينى الذى صنع مقلمة مدرسية على شكل سيارة فيراري.


فجأة تسمر الراعى فى مكانه، وأصبح يحملق فى سحنتك بشكل لافت. فكرت أنه ينظر إليك الآن كجسد لا كشخص. فهو بالكاد يميز ملابسك التى ترتديها، أو التى ارتديتها على عجل قبل أن تأتى الى الحقل. فهو ربما لا يستطيع أن يجزم إن كنت قد زررت قميصك الرياضى أم لا.

ولا يدرك أيضا إن كنت قد أغلقت سحاب جاكتتك السوداء التى ترتديها كل أحد. فى كل مرة كنت تريد ارتداء جاكتة أخرى، كنت تتخيل أن مظهرك سيكون لافتا بدونها. لذلك فإنك كنت تحرص على ارتدائها للتخفى فى سحنة أى رجل رياضى يقوم بجولته الصباحية يوم الأحد، وربما أنجز رياضة المشى التى يظل يؤجلها طيلة الأسبوع. 


لكنك كنت متأكدا أنه لا يستطيع أن يميز وجهك غير الحليق. فأنت عادة لا تحلق ذقنك إلا بعد أن تعود إلى المنزل زوالا. رغم ذلك استمر فى التحديق والحملقة بإصرار رجل لا يجد أى شيء يفعله سوى الهش على شويهاته بأياديه غير المقلمة الأظافر، والتى تخلو من عصا، تعتبرها ضرورية بالنسبة لكل راع. لقد حدست بأنه لم يقلم أظافره منذ مدة طويلة، لأنه كان يمرر أنامله من حين لآخر أمام ناظريه، حتى لكأنه كان يبدو سيدخلها فى عينيه. وليس هذا فقط، بل حدست أنه لم يأخذ وجبة السحور، لأنه لم يضبط منبه ساعته بشكل جيد.

لقد فاته ذلك بشكل فادح. حدست ذلك فقط، لأنه تحول إلى التحديق فى حقل البازلاء المجاور، بعد أن تعب من التحديق فى شبحك. هذا لأنك كنت مجرد شبح صباحى يجب التطير منه. تخيلته وهو يضرب بكفه على بطنه مرة، ومرة يضرب على جبهته القاسية كجبهة تمساح، ثم أصدر صفيرا من فمه دلالة الخيبة وعدم الرضى. ظهر له يوم الصوم كجبل عال ووعر المسالك، بحيث لا سبيل إلى تسلقه.

رغم ذلك تحامل على نفسه واصطحب شويهاته فى صف متراص إلى الحقل المجاور لمنزله.

لذلك كان يحدق فى حقل البازلاء، وهو يستعرض أمامه طويجنات زوجته، ممررا كُمَّ يده على فمه، كأنه انتهى من التهام واحد منها. 


جلست على كرسيك الرمادى أيضا، بعد أن تأكدت من أن كل الفراشات حاضرة، ولم تتغيب أية واحدة منها. وسحبت دور الحملقة من الراعي. وأصبحت تحملق فيه أنت أيضا.

وفكرت أنك أحسنت صنيعا بقدومك هذا الأحد أيضا إلى حقلك - لقد أصبح حقلك الآن، رغم أنك لا تملك أية أوراق ثبوتية تثبت ملكيتك له - لأن الراعى كان سيجن من الملل لولا مقدمك، الذى جعله يتخلص من كآبة صباحات الأحد، والتى عادة ما تنتاب الرعاة فى نهاية الربيع، وهم يرون مطبات فصل الصيف قادمة، والذى ليس سوى جلاد بالنسبة إليهم، بما أن حرارته لا تطاق، وتنمراته لا تضاهى.

كيف إذن كان سيتخلص الراعى من ورطته هاته؟ ثم، إلى أين كان يصطحب الراعى شويهاته فى صباحات الأحد الأخرى، لأنك لم يسبق لك أن رأيته؟ وأيضا، إلى أين ذهب الراعى الآن؟! 
كان الراعى قد اختفى بعد أن انشغلت بإعادة إحصاء فراشاتك البيضاء التى بدأ عددها يتناقص بعد أن ارتفعت درجة الحرارة. 


عاد الراعى إلى الظهور الآن، وكان يحمل فى يده عصا هاته المرة. فكرت أنه يستطيع أن يهش على شويهاته بيديه، فما الذى يفكر أن يفعله بالعصا؟
 كانت نظراته قد أصبحت مريبة. لقد أصبح ينظر إليك مثلما ينظر إلى لص. هذا فقط ربما لأنك كنت قد بدأت التمشى داخل الحقل. ربما لأنه يعتبر أنه ليس من حقك أن تتمشى بداخله. تذكرت أنك حصلت على ترخيص شفوى من صاحب الحقل الحقيقى ذات أحد. أخبرته بأنك لن تمكث طويلا. لكنه طمأنك، وقال لك لا بأس، بينما كان يمسك بفأس، محاولا إغلاق طريق متربة تعبرها السيارات كل أحد، ليعيث أصحابها فسادا فى الحقول المجاورة. حرك يديه حركات كثيرة وغامضة.

وهو يشرح لك حجم الضرر الذى يتركونه من ورائهم. قال: أنت ترى أن هذا حقل، وليس ملعب كرة قدم! قلت له: طبعا. هذا حقل. من يستطيع إنكار ذلك؟! قال أيضا: لا يزعجنى الأشخاص أمثالك. بدا، وكأنه قد حدس أنك لا تأتى إلى حقله سوى لإحصاء الفراشات البيضاء، وتحرص على عدم اختلاط الفراشات البيضاء بالفراشات المزركشة. فكرت أيضا أنك لا تختلف عن الراعي: فهو يرعى الشويهات، وأنت ترعى الفراشات. تحرسها من الأشباح ومن المتنمرين كل أحد، تاركا إياها أمام مصيرها المجهول طيلة أيام الأسبوع الأخرى، بينما يفكر الراعي، الذى أصبح لئيما الآن، لأن نظراته أصبحت مرتابة ومريبة، يفكر فقط فى عدد الخرفان الذى سيحصل عليه. 


كان الراعى قد اقتنع هو الآخر بأنك لست سوى راعى فراشات لا يمكن أن يكون مؤذيا أبدا، بينما كنت تفكر فى مصير الفراشات خلال الصيف، وأنت تتمشى متوغلا داخل الحقل .

لا بد أنها تهاجر الى أمكنة بعيدة مثلما تفعل الطيور. لكن الفراشات لا تهاجر باستثناء فراشات المَلِكَة و فراشات الأدميرال وفراشات السيدة المطلية مثلما قرأت فى مجلة مختصة فى البيئة، والتى تراجع عددها بعد المشاك

ل المناخية المعاصرة، ونتيجة الاستعمال المفرط للمبيدات التى تقتل النباتات التى تتغذى عليها فى مناطق الإستقبال. هل فعلا قرأت ذلك؟! 
فإلى أين إذن تذهب الفراشات خلال الصيف؟ هل تخلد للراحة؟ هل تنتحر فى انتحارات جماعية مثلا، تنجيها من غطرسة الصيف؟ هل تأخذ عطلتها المدرسية الطويلة الأمد مثلها مثل التلاميذ، مع فارق وحيد، هو أن عطلة التلاميذ الصيفية أصبحت مجرد إشاعة سرعان ما يتم تكذيبها؟! 

 

اقرأ ايضا | قائمة بأفضل الكتب العالمية خلال عام 2021

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة