لماذا قتلت أعز صديقاتى؟
لماذا قتلت أعز صديقاتى؟


لماذا قتلت أعز صديقاتي؟

أخبار الأدب

الأحد، 30 يناير 2022 - 05:08 م

انحنيت على العشب أسفل شجر النخيل فى منزلنا فى «إيكيجا»، آكل شيئًا أخضر مقرمشًا بكلتا يديَّ، لأنه كما تقول «جويندولين»: «لا يمكنك العمل بيد واحدة». فى الجهة الأخرى، تقع البركة الحجرية ذات السمك الذهبى، ولكنها الآن خاوية لأننا لن نستطيع أخذ سمكنا معنا إلى أثينا. أين يذهب السمك عندما يرحل الناس؟ أظن أنه ينزل فى ماسورة إلى البحر للبحث عن أسرته المفقودة منذ زمن طويل، ويتعانقون بحك قشورهم معًا لأنهم لا يملكون أى أذرع. عندما يسافر السمك لا يحمل حقائب للأمتعة ولا دموعًا. 


لديَّ أنا وأمى مناديل مطرزة عليها الحروف الأولى من أسمائنا فى حال رغبنا فى البكاء، وحاوية شحن لأمتعتنا. حمل «آنتوبانتو» كل شيء خارج المنزل، حتى أحذية التزلج «الباتيناچ» الخاصة بى، ما عدا أغراض أبى، حيث سيبقى فى نيجيريا فى المنزل ذى البركة الخاوية من الأسماك الذهبية.


إنه الصيف، وقد بدأ موسم الأمطار. علينا الرحيل قبل بدء العام الدراسى الجديد حتى أستطيع أن أنتظم مع النظام التعليمى فى اليونان
فى نظام التعليم اليونانى، لا يتم تقسيم السبورة إلى نصفين، كما أن الأطفال فى الفصل كلهم فى السن نفسها، لكننى كنت أظن أن هناك الكثير من الأطفال من كل الأعمار. قالت أمى إنه ليس عليَّ الاستيقاظ فى الخامسة والنصف صباحًا كل يوم لأن المدرسة قريبة من المنزل.
- متى عليَّ المغادرة إذن؟ - فى السابعة والربع تقريبًا.
- ولكن حينها سيكون الجو حارًّا جدًا وسأصل إلى المدرسة متعرقة. 
 - يا لكِ من حمقاء، الجو ليس حارًا فى اليونان. وفى الشتاء يرتدى الناس السترات والملابس الثقيلة، كما يذهبون لمشاهدة الأفلام والمسرحيات. 
اليونان هى وطننا الحقيقى، وأفريقيا هى الوطن المزيف.

توجد اضطرابات سياسية وحالة طوارئ مستمرة فى «إيكيجا». عندما نسمع كلمات مثل «الإيبو» و«الهوسا» أو الچنرال «أوجوكو» نعرف أنه لن تكون هناك مدارس. بينما فى اليونان، بدأت الديمقراطية منذ سنتين ولا توجد اضطرابات، لذلك لا مفر من أداء الواجب المدرسى.

لماذا يجب عليَّ الذهاب إلى المدرسة كل يوم فى مكان طقسه بارد؟ وما الذى يهمنى فى الأفلام والمسرحيات؟ أنا سعيدة هنا بنادى الأسكواش والنادى البحرى، حيث تُقدَّم الكوكاكولا الحقيقية فى حفلات البحرية الأمريكية كل يوم جمعة.

لا أريد أن أترك «جويندولين» و«آنتوبانتو» وأسكن فى شقة، كما سمعت أمى تهمس عبر التليفون مع الخالة «أماليا». أريد ركوب دراجتى فى المنزل والدوران بها حول العمدان وأنا أدق جرس الدراجة «ترِرن ترران» حتى تصيح بى «جويندولين» وهى تضحك بصوتٍ عالٍ وتمسك ببطنها:

- أنتِ فتاة مجنونة، اعتقدت أن أحدهم على الباب مرة ثانية.
أتت أمى من خلفى بصمت وجذبتنى من شعرى وصفعت وجهى مرتين ثم فتحت فمى وهى تصرخ فيَّ:
- ماذا حدث لكِ؟ ابصقى ما فى فمكِ الآن.


سالت من فمى عصارة خضراء مختلطة بالدموع والمخاط، وأمى لا تزال توبخني:
- ألم أقل لكِ ألا تأكلى الجراد مرة ثانية أبدًا؟
آكل الجراد لأن أفريقيا هى وطنى الحقيقى، واليونان هى الوطن المزيف.
جلست فى الشرفة أبكى بحرقة ثم حشرت رأسى بين قضبان السور حتى لم أعد أستطيع إخراجه، كنت أريد اللعب فقط. امتصصتُ خدَّيَّ وحبست أنفاسى وأخرجت رأسى من بين القضبان التى كانت ساخنة مثل رمال الشاطئ فى «باداجري» أو خليج «تاركوا».

وعلى الفور، ظهرت أمامى كراسى مزينة بالزهور، وقوارب الموز، والبار حيث يبيعون «السويا».
- أريد «سويا» بالبصل باثنين نايرا من فضلك!
أشعر الآن بأن أذنيَّ ساخنتان مثل «السويا» المشوية.

 


يعد ميدان «إكسارتشيا» أقبح مكان فى العالم كله. سكنّا فى بناية صممها شخص مهم، يطلقون عليها اسم «البناية الزرقاء». هناك فى الطابق الأرضى محل للمخبوزات الفرنسية اسمه «فلورال»، معظم زبائنه من كبار السن. فى الشارع، تتسارع السيارات وتزمر، وفى الليل لا أستطيع النوم من صوت احتكاك فرامل السيارات.

تتكون شقتنا من أربع غرف، لذا يطلقون عليها اسم الشقة الرباعية، وفى بابها الرئيسى توجد شراعة دائرية. المكان كله فى مساحة غرفة واحدة من منزلنا فى «إيكيجا» فقط مقسم إلى غرف أصغر.

لا توجد هنا خمس غرف نوم بل غرفتان فقط، وحمام واحد وليس ثلاثة حمامات. كما أنه لا توجد غرفة للألعاب ولا غرفة كبيرة للخزين، بل مجرد غرفة صغيرة بها خزانة مؤن بجوار المطبخ.

لا يُسمح لى بركوب دراجتى فى الشقة لأن هناك مَن يسكن فى الطابق السفلى، وحتى إذا سُمح لى فكيف يمكننى ركوب دراجتى فى شقة رباعية لا توجد بها أعمدة للالتفاف حولها؟ لذا أذهب إلى ميدان «أريس» مع أمى وقريبتها الخالة «أماليا»، وهى آنسة كبيرة فى السن مثل «جويندولين»، ولكن هذا هو التشابه الوحيد بينهما، فالخالة «أماليا» رفيعة كسيخ حديدى وشاحبة جدًا كالمرضى.

صحيح أنها تعرف أسماء كل نجوم السينما، لكنها تضحك وفهما مغلق.
أشتاق إلى «جويندولين» وضحكها العالى الذى يهز بطنها، وأمثالها الشعبية التى تقولها فى كل الأوقات. تُرى أى مثل كانت ستقوله لى الآن لتخفف عنى أزمتي؟ «مهما بلغت المشكلات والأحزان، لا يصاب الملح بالديدان»، «جويندولين» هى مصدر المرح، والمرح مصدره أفريقيا. ولذا أبكى لأسباب كثيرة ليس فقط بسبب رأسى العالق فى السور.


سمعت أمى تدخل الشقة وصدى صوت خطواتها يتردد فى غرفة الجلوس تبحث عنى.
عندما تجدنى أخيرًا وأنا عالقة هكذا تصرخ:
- «ماريا!» «ماريا!»، لمَ تفعلين هذا بى يا «ماريا»؟ أنتِ فى التاسعة الآن، امرأة تقريبًا، حان الوقت لتكبري!
نشر الرجل قضبان السور الحديدية لإطلاق سراحى، قائلًا:
- أنتِ صعبة المراس، أليس كذلك؟
بينما قطعت أمى الردهة ذهابًا وإيابًا وهى غاضبة، استطعت معرفة هذا من صوت نقر كعبها. بعد أن تحررت من بين القضبان، أمسكتْ معصميَّ بكلتا يديها وهزتنى وهى تعصرهما بشدة. لا، لن أبكى، أنا فى التاسعة الآن، امرأة تقريبًا.


عندما تنام أمى فى فترة القيلولة، أذهب لغرفتى وأغلق الباب خلفى ثم أخلع ملابسى وأرتدى زى مدرسة نيجيريا الأبيض حتى تعرف المضيفات أننى أريد الذهاب إلى المدرسة فى «إيكيجا» ويسمحن لى بالصعود إلى الطائرة. لديَّ حفنة من النايرا النيجيرى فى جيبى. كم تكلف تذكرة طفل إلى أفريقيا؟ خمسة أم ستة نايرا؟ ربما ستكون باهظة جدًا. ولأننى لا أملك أى أموال فسيجعلوننى أعمل فى الحقول حتى تتورم قدماى.


 أخرجت حقيبتى من خزانة الملابس ووضعت فيها الفستان الذى خاطته لى أمى مع «جويندولين»، ومنديلين عليهما حروف اسمى الأولى، وأقلام التلوين، لكننى لا أجد أى أوراق للرسم، ولكن لا يهم، حتمًا سيعطوننى أوراقًا بيضاء تصلح للرسم على الطائرة. تسللت إلى المطبخ وأخذت علبتين من الحليب المكثف، وعلبة من الكاسترد وعلبة بسكويت وبيضتين.

إذا هبطنا فى «لاجوس» ليلًا ونمت على الشاطئ فسأقلى البيضتين فى الرمال. سيكون هناك الكثير من الموز يمكن جمعه ولكن سأحضر معى أيضًا بعض الموز للطريق. لففتُ عجلات «الباتيناچ» الخاص بى فى منشفة حتى لا تقعقع وتحدث ضجيجًا.


كتبت ملاحظة لأمى قبل المغادرة:
«أمى العزيزة، سأذهب لرؤية جويندولين وأبى لبضعة أيام. تعالى بسرعة وأحضرى معكِ دراجتى. أحبك».


«ماريا»
رسمت بركة السمك الحجرية فى «إيكيجا» والسمك الذهبى يقفز حولها خارج المياه على الأرض فى أسفل الورقة. إذا لم تشعر أمى بالشفقة عليَّ فربما تشعر بها تجاه السمك. مرت أمامى الكثير من الباصات، صعدت إلى الباص الذى ينتظره معظم الواقفين. يتدحرج البيض فى الحقيبة، أرجو ألا ينكسر.


ذهبت إلى محصل التذاكر وقلت:
- أريد تذكرة إلى المطار من فضلك، هل يمكن الدفع بالنايرا النيجيري؟ 
ابتسم لى محصل التذاكر الذى يشبه «آنتوبانتو»، فكلاهما لديه القليل من الأسنان ولكن هذا أبيض البشرة.


سألني:
- هل هربتِ من أسرتكِ؟ 
- معذرة، لا أفهم.
لا أفهم معنى كلمة هربتِ هذه، فلغتى اليونانية ليست جيدة.
- أين تسكنين يا آنسة؟
- فى «إكسارتشيا»، ولكن الآن أنا فى طريقى إلى نيجيريا لرؤية «جويندولين» وأبى.
- نيجيريا؟ سوف يأكلكِ السود!
- السود لا يأكلون. 
- بالطبع هم يأكلون.
- نعم، ولكنهم يأكلون البطاطا الحلوة والـ«أمالا» وكعك البيض الـ«موين موين» ولكنهم لا يأكلون الناس الآخرين.
- لكنكِ صغيرة جدًا ورقيقة وسيلتهمونكِ فى قضمة واحدة لأن الناس فى أفريقيا جائعون جدًا، ألم تسمعى عن هذا؟
- أسمع ماذا؟ 
هل وقع المزيد من الشغب أو المزيد من حالات الطوارئ؟ هل عاد الچنرال «أوجوكو»؟ ربما يكون محصل التذاكر على حق، وبدلًا من أن تستقبلنى «جويندولين» بالعناق ستغرز أسنانها فى رقبتى وهى تقول:
- الخوف من الغد يجعل الحلزون يحمل منزله على ظهره أينما ذهب.


كيف يمكن أن يتغير العالم كثيرًا هكذا فى أسبوعين فقط؟ وهل حقًا لا يصاب الملح بالديدان؟
نزلت من الباص فى المحطة التالية وأنا على وشك البكاء، لكننى لن أبكى، أنا فى التاسعة، امرأة تقريبًا. جلست على حقيبتى آكل الموز ببطء شديد وأتحسس سنتى المكسورة بلسانى.

القصة أننى قد كسرتها الآن فى أثناء مغامراتى، لأننى بطلة فى إحدى القصص الخيالية المليئة بالصعاب والمحن. ضيقت عينيَّ وتظاهرت بأننى على الشرفة المغطاة فى «إيكيجا» أجلس تحت تعريشة «الجهنمية» وأتناول آيس كريم الفانيليا - نكهتى المفضلة - بينما تكوى «جويندولين» الملابس وهى تحكى لى حكاية الصديقتين «دولا» و«بامبي».

تمتلك «دولا» شجرة جوز، ولكن الحيوانات تأكل أوراقها فتعطيها «بامبي» وعاءً كبيرًا به فتحة فى القاع لزرع شجرتها بداخله، وبذلك لا تستطيع الحيوانات الوصول إلى الأوراق. تجمع «دولا» أموالًا كثيرة من بيع ثمار الجوز، فتشعر «بامبي» بالغيرة وتطلب استرداد وعائها، ولكن عليهما قطع الشجرة لأنها مغروسة داخل الوعاء.

تصر «بامبي» على أخذ وعائها وتذهب إلى قاضى القرية ليفصل بينها وبين «دولا». يحكم القاضى لصالحها وتحصل «بامبي» على الوعاء وتموت شجرة الجوز المسكينة. فى العام التالى، أهدت «دولا» «بامبي» عقدًا ذهبيًا فى عيد ميلادها. وبعد عشر سنوات، طلبت «دولا» استرداد عقدها ولكن لتسترده يجب قطع رأس «بامبي».

ذهبت «دولا» و«بامبي» إلى قاضى القرية مرة أخرى وحكم بقطع رأس «بامبي». بكت «بامبي» أنهارًا من الدموع حتى تشفق عليها «دولا» ولا تقطع رأسها. وفى النهاية، تنتهى الغيرة بينهما وبين الجميع لأن الغيرة هى أسوأ الصفات على الإطلاق.


ظهر شرطيان فى بداية الليل، واصطحبانى إلى المنزل فى سيارة الدورية. وفى الطريق سألنى أحدهما:
- ألديكِ فكرة كيف تشعر أمكِ الآن؟ 
ظللت أفكر فى هذا طوال الوقت. نحن لسنا سعداء فى هذه الدولة وعلينا العودة إلى وطننا قريبًا، بينما «جويندولين» لا تزال صديقتنا وتهتم بأمرنا ولا تستطيع أن تفرط فينا.


بكت أمى بحرقة حتى انتفخت عيناها. لم تهزنى وهى تعصر معصميَّ هذه المرة، فقط مشطت شعرى بأصابعها، وقلت لها:
- أعتقد أن البيضتين قد انكسرتا فى الحقيبة.


أجابت أمي: 
- لا فائدة من البكاء على البيض المكسور.
وهى مقولة ذكية أشبه بأحد أمثلة «جويندولين» المميزة، وبعدها عانقتنى وكان عناقها دافئًا تمامًا كدفء أفريقيا.
ارتديت مريلة المدرسة الزرقاء المصنوعة من قماش «لورا بيراكى - باترايكي»، اشتريناها من متجر «مِنِّيون» للزى المدرسى. للمريلة شريط يربط على شكل فراشة فى الظهر مثل مرايل المطبخ التى ترتديها «جويندولين».

علقت حقيبة ظهرى الحمراء على كتفَيَّ الاثنتين كى لا يتقوس ظهرى، وتأرجح شعرى المعقود على هيئة ذيل حصان صعودًا وهبوطًا صانعًا نسيمًا أنعش مؤخرة عنقى بينما سرت أنا وأمى مشبوكتى الأيدى فى شارع «ثيميسوكلس». أخذتنى أمى للمرة الأولى إلى المدرسة وستعود لاصطحابى، ولكن يجب أن أحفظ الطريق حتى أذهب وحدى فى حالة مرضها. أقول لها:
- إذا مرضتِ، سأبقى فى البيت للعناية بكِ.


اهتزت أمى ضحكًا، لأنها ترتدى فستانها ذا الزهور الصفراء والطيات على الصدر، هذا الفستان يجعلها تضحك حتى وهى لا تضحك. 
تركتنى عند مدخل مدرستى الابتدائية الجديدة. لوّحت لها من داخل السياج مثل نمر فى قفص. من المفترض أن نقف فى طابور حسب الصف الدراسى، لذا أقف فى الطابور الخاص بطلاب الصف الرابع لأداء المباركة السنوية، والنشيد الوطنى وصلاة الصباح.

بعد هذا نقوم بتمرينات «صفا! انتباه!»، وأخيرًا نُرسَل إلى فصولنا الدراسية التى لها جميعًا أبواب تُفتح على ساحة المدرسة. فصلى هو (د 3)، وهى غرفة مطلية باللون الأخضر من منتصفها للأعلى، واللون الأبيض للنصف الآخر من الجدران، بها خريطة للعالم معلقة على مسمار فوق السبورة السوداء، لذا كلما أردنا الكتابة على السبورة، نلف الخريطة للأعلى لترك مساحة.

اسم مُدرسة الفصل «أفروديت ديكاياكو»، وهى تشبه الأفارقة نوعًا ما، ما يبشر بالخير. لديها شعر قصير مجعد وبشرة داكنة. ذهبت للجلوس إلى التختة فى الصف الأخير بجوار فتاة ذات ضفائر، قالت لى إن اسمها «أنجيليكى كوتاكي». لديها شامة قبيحة الشكل أعلى حاجبها، شعرت بالأسف تجاهها بسبب هذه الشامة وقررت حمايتها. سأصبح أفضل صديقة لها، وإذا تجرأ أحد على السخرية منها، فعليه التعامل معى.
حدثتنى الآنسة «أفروديت»:
- أنتِ، الفتاة الجديدة، قفي! من أين أتيتِ إلينا؟
- من أفريقيا.
- هل أنتِ متأكدة أنكِ لم تأتِ من القمر؟
ضحك الأطفال الآخرون، واستدار الولد الجالس أمامى وقلد شكل الحيوانات بوجهه.
استجمعت شجاعتى وصرخت:
- لقد جئت من أفريقيا! من نيجيريا!
- حسنًا، لا داعى للصراخ. تعالى واجلسى فى المقدمة حتى أستطيع متابعتكِ.
جلست وحدى إلى تختة فى الصف الأمامى. المكتب أخضر فى لون صابون «بابووتسانيس» ومغطى بالرسوم ومحفور عليه كلمات مثل: «مع حبى إلى الأبد»، وأسماء طلاب، وأسماء فرق كرة القدم «أوليمبياكوس»، و«باناثينايكوس»، ثم «تبًا لك»، وشتائم سوقية أُخرى. يدرس هنا فى هذه الغرفة مساءً فصل من الصف الثانوى. كتب أحدهم: «أنا أبوستولوس، وأنت؟». وبحروف دائرية جميلة، أنقش الكلمتين الوحيدتين اللتين أتقنهما فى اللغة اليونانية: «ماريا بابامافرو».


أخبرتنا الآنسة «أفروديت» بمنهج الصف الرابع وكيف ستكون سنة صعبة مليئة بالتحديات، وعلينا أن نبذل جهدنا فى دراسة الرياضيات والنحو وقواعد النطق والجغرافيا. وأعطتنا هذا الاختبار فى الإملاء: «يتناول الأطفال فطورهم ويذهبون إلى المدرسة.

هم أطفال متفوقون. تُحضر الأُم وجبة الغداء بينما يعمل الأب باجتهاد. فى وقت الغداء يأكلون جميعًا كعائلة ثم يستريحون، وفى فترة ما بعد الظهر يذهبون للتنزه فى الحديقة». هذا صحيح تقريبًا فيما عدا أننا لم نعد نأكل معًا بعد الآن. نأكل أنا وأمى فى الشرفة بجوار سورها الحديدى. وربما يأكل أبى فى الشرفة المغطاة فى «إيكيجا» من دون غسل يديه وهو يرخى رباط عنقه. بينما تقف «جويندولين» عند طاولة المطبخ. تتنهد أمى قائلة: «يا عزيزي! تأكل مثل الماعز».


الفسحة هى أسوأ فترات اليوم. يتجمع الأطفال حولى ويسألوننى إذا كان والدى كاهنًا أسود لأن هذا معنى اسمى العائلى. لاحظ أحد الأطفال أن نصف إصبعى الأصغر، الخنصر، مفقود، فصرخ قائلًا: 
- انظروا يا أولاد، لقد أكل الأسد إصبعها!


وسألنى «بيتروس»، الولد الذى كان يقلد شكل الحيوانات، عما إذا كنا قد أحضرنا كوخنا من أفريقيا. وتقول «أنجيليكي»، التى اعتقدت أنها ستكون صديقتي:

- لا يوجد ورق تواليت فى أفريقيا، لذا يلجأ الناس للغابة ويستخدمون أوراق الشجر. 
صرخت محتجة وأنا أركل الأرض الأسمنتية بقدمي: 
- هذا غير صحيح، لدينا ثلاثة حمامات فى «إيكيجا» وورق تواليت وردى.. وردي!
تجيب «أنجيليكا»:
- كاذبة، لا يوجد شيء مثل ورق تواليت وردى، أو منزل به ثلاثة حمامات.
جذبتها من شعرها لأخرسها حتى بدأت فى البكاء. وقلت ساخرة من اسمها:
- أنتِ دجاجة يا «كوتاكي». 
لأن «كوتا» فى اليونانية تعنى الدجاجة. أخرجت لها لسانى وركضت إلى الطرف الآخر من الفناء حتى أصل إلى «الكَنتين». يجب عليَّ الوقوف فى الطابور، ولكن الغضب سيطر عليَّ فاندفعت إلى الأمام. يوجد فى «الكَنتين» مقرمشات «زودياك»، وعصير البرتقال الغازى، و»كولوراي»، الذى يشبه الخبز بفتحة دائرية من المنتصف، ومصاصات آيس كريم «روكيت» بـ 50 لبتا يونانية، وتساوى 1 دراخما يونانية فقط. أحصل على مصروف يومى قدره اثنان دراخما، ويساويان 4 مصاصات آيس كريم «روكيت».

اشتريت الآيس كريم وغرزت أسنانى فيه لأكتشف أنه لا يمت للآيس كريم بصلة، بل هو شيء سكرى الطعم وغير بارد إطلاقًا، بل يبدو فقط كمصاصات الآيس كريم وله طعم حلوى معجون اللوز القديمة. قذفت بها إلى سلة القمامة وشعرت برغبة فى البكاء للمرة المئة منذ أن وصلنا إلى أثينا. 


بمجرد عودتنا إلى الفصل، جذبتنى الآنسة «أفروديت» من أذنى وجرتنى إلى السبورة وهى تقول:
- لم ضربتِ «أنجيليكي» فى الفسحة ومزقتِ ملابسها؟
- أنا لم أمزق ملابسها، لقد جذبت شعرها قليلًا فقط. 
- أنتِ نزعتِ خصلة كاملة من شعرى، ولويتِ أذنى ومزقتِ ملابسى أيضًا.
- كاذبة! ملابسكِ كانت ممزقة من قبل.


- والآن، اسمعينى يا «ماريا»، لديكِ أكبر عدد من الأخطاء فى اختبار الإملاء بجانب سلوكك السيئ. أنا لا أعرف كيف كانت مَدرستكِ فى أفريقيا ولكن هذا بلد مُتحضر. قفى فى الزاوية هنا حتى يدق الجرس، وإذا صدر عنكِ تصرف مثل هذا فستنالين ما تستحقين.


لذا أقف الآن أمام السبورة فى مواجهة خريطة العالم. هذا الجزء الأجمل فى اليوم بأكمله، يمكننى الوقوف والنظر بالساعات إلى خريطة نيجيريا الملونة بالأصفر كلون فستان أمى، أو لون قوارب الموز على الشاطئ. فى منتصفها العلم بشرائطه الثلاث، شريطان أخضران، رمز الزراعة، وشريط أبيض، رمز الوحدة والسلام. لا أعرف ما يحدث خلف ظهرى ولا أهتم. سأصبح أسوأ طالبة فى المدرسة كلها، لذا يمكننى قضاء الأيام بأكملها واقفة أحدق فى خريطة أفريقيا.

اقرأ ايضا | قيامة مايكل جاكسون

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة