رضوي الاسود تكتب : ثلاث حكايات وحب مستحيل
رضوي الاسود تكتب : ثلاث حكايات وحب مستحيل


رضوى الأسود تكتب: ثلاث حكايات وحب مستحيل

أخبار الأدب

الأحد، 06 فبراير 2022 - 02:36 م

كتبت : رضوى الأسود
حين فازت رواية «حبل قديم وعقدة مشدودة» بجائزة كتارا عن فئة الروايات غير المنشورة عام 2016، ظلمتها السياسة، فتم تجاهلها، ولم يقرأها أو يسمع بها أحد سوى المُحَكِّمين والمشاركين وبعض المثقفين والكتاب العرب، وها هى دار العين تحيى الرواية التى نافست 711 رواية تقدمت للمسابقة فى تلك السنة، فأصدرتها فى مطلع هذ العام لتشارك بها فى معرض القاهرة الدولى للكتاب.


ثلاث حكايات تقع فى ثلاثة أزمنة، يتقاطع معها سردًا أفقيًّا. المكان مصر، والزمان: 1944 و 1967 و 2013. الحكاية الأولى تدور فى الإسكندرية فى بداية الحرب العالمية الثانية، والثانية تشهد هزيمة مصر المروعة أمام إسرائيل، والثالثة تتحدث عن واقع غائم ومستقبل ضبابى عاشه المصريون بعد عام أسود كامل تحت حكم الإخوان


ثلاث روايات تتحدث عن حب مستعصٍ، شائك، يقترب من المستحيل، تربط بين كل منها رواية حب من النوع العصيب نفسه، وهى رائعة «جين آير» الشهيرة لشارلوت برونتي، والتى ينثر منها الكاتب مقاطع مُختارة شديدة القتامة والبؤس، غارزًا إياها كلآلىء سوداء بين أوراق روايته بشكل رمزى للتأكيد طوال الوقت على الحالة السوداوية المعيشة لأبطاله، والذين على الرغم من تباين الفترات التى عاشوا فيها، وكذلك جنسياتهم، وحكاياتهم، إلا أن الألم يظل واحدًا.


فى القصة الأولى، نرى البطلة السكندرية «جين»، المُسمَّاة على اسم بطلة رواية «جين إير»، والتى هى نصف يونانية ونصف إيطالية.

وتُمثِّل الجاليات الأجنبية التى كانت تكتظ بها مصر الكوزموبوليتانية آنذاك. تحتفظ البطلة منذ طفولتها برواية «جين إير»، وحين تبلغ الثامنة عشرة تقع فى حب أحد جنود الحلفاء (لا تعلم من اسمه سوى الحرف الأول والذى يتصادف أن يكون حرف اسمها الأول نفسه)، وتنشأ بينهما قصة حب مبتورة، قصة بكماء بطلتها الإشارة، حيث إن «جين» التى تتحدث لغتيّ والديها.

بالإضافة إلى الفرنسية، تجهل الإنجليزية التى لا يتحدث حبيبها سواها! وتنتهى تلك القصة التى لم تكد تبدأ بمصير غامض للمجند الشاب حين تلتقط «جين» من البحر قبعته الطافية فوق الماء والتى تحمل بداخلها تذكارًا كانت قد أهدته إياه، وهو فردة قرطها الذهبي! وليبتلع البحر قصتهما كما ابتلعت الحرب حبيبها!


فى القصة الثانية، يترك عادل قريته الريفية مُيممًا نحو القاهرة التى ابتلعته وتاه فيها بحثًا عن دفء يفتقده، ليستلم وظيفته فى مكتب البريد، فيستأجر شقة، يعثر فيها على رواية «جين إير»، مكتوب فى أولى صفحاتها اسم «جين» بخط أنثوى رقيق.

وبعدها يتكرر حرفان أجنبيان متشابهان (حرفا اسمى جين وحبيبها)، ويسقط الشاب فى حب القارئة التى كانت تمتلك الكتاب، حتى أنه يقرر البحث عنها بعد أن يكتشف أنها سكنت تلك الشقة يومًا ما! وفى الوقت ذاته يقع فى حب فتاة اسمها «ناني»، تمتاز بشخصية جريئة مرحة، فيقرر الزواج بها، ويذهب إلى والدها لطلب يدها منه.


فى القصة الثالثة، نجد هانى الذى يعمل فى مكتب الاتصالات، والذى تحاول زميلته استمالته، ونجد هناء التى تعمل بمكتب البريد نفسه الذى كان يعمل به عادل فى زمن آنف، والتى يحاول زميلها استمالتها هى الأخرى.

والتى تعثر على رواية جين إير» بعد أن كان قد دسها «عادل» ذات يوم وسط الملفات على أمل أن يعود إليها، لكنه لم يَعُد، وبداخلها سوف تجد اسم «ناني» مخطوطًا فوق كل صفحاتها! يتعارف «هاني» و«هناء» عن طريق النت، وينشأ بينهما شيء يقبع ما بين الإعجاب والحب، لكن تَفصِم «هناء» تلك العلاقة بحزم فى آخر الأمر، حتى قبل أن يلتقيا! 


لم يأت سرد كل حكاية بشكل كرونولوجى طبيعيّ، بل متقطع، تتداخل معه الحكايتان الأخريان، لكن على الرغم من ذلك، كان السرد سلسًا، لا يخلو من تشويق، مًحطِّمًا رتابة النسق العاديّ الذى قد يبعث على الملل، بل تسترسل فى الأحداث لاهثًا باحثًا عن النهاية، وحين تصل إليها، لن تهدأ، إذ إن أسئلتك سوف تبدأ من السطر الأخير، كما أن أسئلتك السابقة التى كنت تحملها معك، لن تجيبك عنها آخر كلمة!


تنتهى الرواية بسلسلة من المفاجآت غير المتوقعة، فـ «ناني» نكتشف أنها ماتت منذ ثلاث سنوات، وشقيقتها مديحة (التى يقول عادل إنها «ناني») تُقدم على إلقاء نفسها من الشرفة! و«عادل» يتم التشكيك فى قواه العقلية بعد أن كان يبدو عليه الكثير من رجاحة العقل والرزانة، و«هاني» و«هناء» يتضح أنهما جيران يسكنان فى بنايتين متقابلتين، بعد أن كانت «هناء» تتوقع أن ثمة مسافات طويلة تفصل بينهما! 


قد لا يستطيع القارىء فى حكاية «عادل» و«ناني» معرفة أين تكمن الحقيقة، فكلا الطرفين يعانى أزمة واضطرابات نفسية قد تكون وصلت حد المرض، فيعجز المُطلع على الأحداث عن تمييز الصدق من الكذب فى قصة كل منهما، فى إشارة واضحة من الروائى للواقع فى ذاك الوقت الذى اعتمد الزيف فى ذكر أخبار الحرب والانتصارات الكاذبة على العدو.

حالة غير عادية من الوهم والتلفيق عاشها الشعب المصرى آنذاك، ليصحو على حقيقة بطعم الحنظل، يبلورها انتحار مديحة المتقمصة لشخصية أختها «نانى»، وكأن الكاتب يشير إلى انتحار الأمل الذى غمر المصريين حين كانوا يستمعون لأخبار الراديو ويقرأون عناوين الجرائد التى تتحدث عن إنتصارات ساحقة.


رواية مفتوحة على يأس قاتم وألم نهائي، فالكل فى النهاية تبعده الأقدار عمن يحب، وحتى فى القصة الثالثة، يتبدد الأمل والاختيار الأخير، حين يتسبب التردد -الناتج عن التيه وضياع الهدف- فى ضياع طرف كان يحب بصدق (نانسي) طرف آخر لا يشعر به (هاني)!


 الحوار بالفصحى فى القصة الأولى والثانية يقابله حوار بالعامية فى القصة الثالثة، والرومانسية والشاعرية تتدرجان من القمة فى القصة الأولى حتى تصلا إلى أقل معدل لهما (يكادان يكونان معدومتين) فى القصة الثالثة، ما يشير إلى تغير الحياة فى مصر من رقى إلى ابتذال، ومن حلم إلى واقع، ومن روحية إلى مادية، ومن ثقافة إلى جهل.

من هنا تحيلنا لغة السرد التى تتباين من حكاية لأخرى، لتَلَمُّس تَبَدُّل الواقع والناس فى مصر، فالحب الذى كان يُكتَبُ شعرًا ويُستَمَعُ إليه برهافة حس وشهقة قلب، أصبح كلمات سريعة لا معنى لها ولا طعم، كلمات أقرب لوصف حيرة روح وعذاب ذات.

وليس لمشاعر قلبية وأحاسيس مفعمة بالجوى و الوله، إذ أضحى الناس مفعمون بالشك والخوف والارتياب واليأس وضياع الهدف، ويتضح هذا بوضوح فى الحكاية الأخيرة، إذ نرى الحب وكأنه قد أصبح وجبة جاهزة يتم تناولها باردة، والتواصل أصبح من خلال شاشات الكمبيوتر، فلم يعد هناك واقع «حقيقيّ»، بل واقع «مفترض»، وهنا تحديدًا نحن نتحدث عن مشكلة عالمية وليست محلية أو مصرية فقط.
ربما يكون الأمل الوحيد فى الرواية هو الذى يتبدى حين تبرأ هناء من كوابيسها إلى الأبد، وتصبح أخيرًا شخصيتها الحقيقية، لا شخصية روائية، لكن هل من الممكن أن نتمسك بهذا الرأى حين نعرف أنها بعد تخلصها مباشرة من تلك الشخصية البائسة الحزينة التى ظلت تتقمصها فى نومها منذ حين غير معلوم، تتم خطبتها على غير رغبة منها، فقط كى تهرب من لقب «عانس».

وتتخلى عن قصة حبها الافتراضية التى - من فرط خوفها - لم تحاول، ولو محاولة واحدة، تحويلها لواقع حقيقى ملموس؟! فزميل العمل عرض عليها عرضًا بائسًا بالزواج العرفي، وهانى كان محض عصفور يقف على شجرة بعيدة، أما العريس الذى دخل من الباب فهو عصفور فى اليد، وفرصة مضمونة، إن ذهبت فقد لا يأتى غيرها.


الرواية تكتظ بالكثير من الرموز والإشارات والمجاز والاسقاطات على الواقع الحالى تحديدًا، خاصة حين نعلم أن الروائى قد كتبها فى توقيت شديد الحساسية والغموض والضبابية (2013، وهو زمن القصة الثالثة)، ففى اسمى «هناء» و«هانى» سخرية من حالهما الذى يجافى تمامًا معنى الاسمين!

وفى قصتهما تظهر بوضوح مشكلة العنوسة فى المجتمع المصرى الحديث، فبعد أن كانت الناس تحب وترتبط فى سن العشرينات وما قبلها، نجد أن فى القصة الثالثة أن هذا التوقيت تزحزح حتى وصل إلى ما بعد الثلاثينات! 


أعيب على الرواية النظرة الدونية للمصريين، والذين ظهروا تحديدًا فى القصة الأولى إما لصوصًا أو خدمًا أو فقراء أو جهلة، ولكن قد نستطيع تفهُّم ذلك المنظور الفوقى حين يأتى على لسان «جين» بطلة القصة الأولى، فنرى من خلالها مصر بعيون الأجانب، والتى قد تكون وقتها، للبعض منهم، نظرة استعلاء وتعالٍ.


هل كانت رواية «جين إير» لعنة الأشخاص الذين اقتنوها؟ أكتب هذه العبارة وأنا أستحضر الفيلم الأمريكى «ليجندز أوف ذو فول» الذى حلَّت فيه البطلة، ضيفة على أسرة مكونة من أب وثلاثة أبناء، فحملت كلا منهم نحو مصير بشع وكأنها لعنة أصابتهم جميعًا! هل الرواية تمثل الحياة التى ما إن تحل فينا ونحل بها، حتى تبدأ مأساتنا؟ 


فى الواقع، الرواية مفتوحة على العديد من الرؤى والتأويلات، وهذا المقال محض محاولة لتقديم أحد تلك التأويلات لهذه الرواية البديعة.

اقرأ ايضا | ثلاث حكايات تقع فى ثلاثة أزمنة، يتقاطع معها سردًا أفقيًّا

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة