يسرى الجندى
يسرى الجندى


يسري الجندي: صاحب النديم .. في ضيافة طه حسين

أخبار الأدب

الأحد، 20 مارس 2022 - 05:13 م

جرجس شكرى

لم أكن أعرف يسرى الجندى الكاتب المسرحى وأنا أشاهد مسلسل «النديم» فى ثمانينيات القرن الماضى. كنت مبهوراً بشخصية خطيب الثورة العرابية، قرأت عنها ما تيسَّر لى فى ذلك الوقت، ورحت ألتهم أحداث المسلسل ومغامرات الزعيم الوطنى الهارب، فى شتى أنحاء مصر من سلطة الاحتلال البريطانى، بعد انكسار الثورة العرابية، ممتناً للكاتب الذى أقرأ اسمه كل يوم على الشاشة الصغيرة يسبقه: قصة وسيناريو وحوار، بالإضافة إلى عمل آخر عنوانه «أهلاً جدو العزيز» تخيَّل فيه كاتب محمد على باشا يهبط من زمنه إلى شوارع القاهرة فى نهاية القرن العشرين، وهى فانتازيا متخيلة، وتتوالى من خلال زيارته لزماننا أسئلة الواقع والصدمة العنيفة التى تعرض لها، حين يخرج بعد قرن ونصف ليطل على عالمنا ونعرف من خلاله أننا نتخلف أكثر.

فى تلك الأيام كان بالنسبة لى كاتب الدراما التليفزيونية الذى يُقدَّم لنا حكايات ما بين التاريخى والشعبى والمعاصر، حكايات مثيرة لا تخلو من إثارة الدهشة، وذلك قبل أن أعرف أنه الكاتب المسرحى الذى بدأ أولى خطواته المسرحية بنص أثار جدلاً كبيراً عنوانه «ماذا حدث لليهودى التائه مع المسيح المنتظر». كتبه عام 1968 بوحى من الفتى الفلسطينى بشارة سرحان الذى أطلق النارعلى الصحفى الأمريكى روبرت كنيدى فى الذكرى الأولى لهزيمة 67، وحين وجدت طريقها إلى خشبة المسرح 1972 صودرت المسرحية فى ليلة العرض الأولى، وظل هذا النص رغم تقديمه من خلال فرق الثقافة الجماهيرية بعد ذلك يعانى من المنع والمصادرة والتهميش .

 وفى بداية حياتى الصحفية عام 1994 من خلال مجلة الإذاعة والتليفزيون كنت أطالع الصحف كل يوم متابعاً الأحداث، باحثاً عما يخص الدراما التلفزيونية والمسرح فوجدت خبراً صغيراً مع صورة ليسرى الجندى وتوقفت كثيراً ليس فقط أمام وجهه الذى أشاهده لأول مرة، بل أمام فحوى الخبر الذى يقول إنه يكتب مسلسلاً عن الخوارج! سألت نفسى، كيف سيتناول هذا الموضوع الشائك، ووجدتها ذريعة جيدة للقاء صاحب النديم ومؤلف اليهودى التائهه، الكاتب صاحب الأفكار المثيرة، وعلى الفور هاتفته والتقينا فى نفس اليوم، فكرت فى الحوار الذى سيدور بيننا، وبالطبع لن يجدى النديم نفعاً فى لقاء بحضور الخوارج، وكان طه حسين رفيقاً وداعماً فى هذا اللقاء، وذهبت وفى رأسى ما كتبه تحت عنوان «الفتنة الكبرى» على وبنوه، وعثمان بن عفان، متسلحاً بأفكاره حول هذا الموضوع وفى بيته فاجأنى وجه ياسرعرفات مبتسماً يصافح يسرى الجندى فى صورة كبيرة تتوسط غرفة مكتبه، لمَ لا وهو صاحب اليهودى التائه، وكانت الصورة بعد عرض «واقدساه» الذى أنتجه اتحاد الفنانين العربى وتم عرضه فى العديد من العواصم العربية، ودون شك كان هو يفكر فى هذا الصحفى الشاب الذى جاء يناقشه فى مسألة الخوارج، وكان النديم حاضراً بيننا فى البداية فحدثته عن إعجابى بهذه الشخصية، وهذا المسلسل الذى كان بمثابة الصديق المشترك بيننا. ثم انتقلنا إلى العقد الثالث من القرن الأول الهجرى وأنا أسأله عن أسباب حضورهذه الفرقة التى ظهرت فى السنوات الأخيرة من خلافة عثمان بن عفان واستفحل أمرها فى عهد على بن أبى طالب وكفروه مع غيره ورفضوا تحكيم عمرو بن العاص وأبوموسى الأشعرى، فلماذا الآن وماذا يريد وماذا سيفعل هؤلاء القادمون من التاريخ، فهل ستساهم دراما الخوارج حين تعرض لتاريخ الحركات الهدامة فى العالم الإسلامى فى تعرية المتطرفين وكشفهم الآن فى تسعينات القرن العشرين؟ ومن ناحية أخرى سألته ألا تفكر فى أن عرض ظاهرة التطرف والعنف والإرهاب فى تاريخ المجتمع الإسلامى منذ بدايته، وكيفية نشأة هذه الحركات والطوائف والفرق الممثلة لهذه الظاهرة ربما يكون خطراً على الأجيال الجديدة؟ تركنى يسرى الجندى أسترسل فى الأسئلة وكأنه يقول لى تكلم حتى أراك! ثم أجابنى قائلاً: أنه يفكر الآن كيف كانت نهاية هذه الفرق فى كل مرة أكيدة وبشكل محتوم، نظراً لأنها تجافى المنطق والتاريخ، والمسلسل الذى يستعد لكتابته الآن يتعرض للفترات التاريخية التى ظهرت فيها أهم هذه الطوائف بشكل متتابع مع ربطها بمدخل معاصر ممتد، وفاجأنى الكاتب المسرحى والسيناريست بدراسته العميقة لهذه الحقبة الشائكة، وليس فقط الخوارج، بل وكل الفرق التى أثارت جدلاً ومنها فريق القرامطة الذى سوف يكون له مساحة كبيرة فى هذه الدراما، وراح يتحدث عن طبيعة المجتمع العربى والنزعة القبلية، وكيف تكونت هذه الطائفة التى بدأت جرائمها باغتيال على بن أبى طالب وسبق هذا قتل عدد كبير من المسلمين وأن الخلاف لم يكن فى بدايته عقائدياً، بل كان خلافاً فى الرأى حول التحكيم، هذا النفر ممن سموا بالخوارج من عرب البادية الربعيين الذين ينتمون إلى قبائل الربعية التى كانت منذ الجاهلية محل خلاف مع المضرية وقد عُرفوا بالتعصب والحدة كما لم يكن لهم حظ فى ثمرات فتوحات الدولة الإسلامية الناشئة وهكذا نجد أن المسألة بعيدة عن العقيدة الدينية تماماً، شعرت فى تلك اللحظات أننى أمام باحث ومفكر أعد أطروحة حول هذه الحركات وتأثيرها على الواقع العربى الذى امتد حتى الآن، ورحت أستشهد بدورى برؤية طه حسين التى وضعها فى بداية الفتنة الكبرى بأن تلك الفترة كانت مهيأة لحدوث الفتنة فى حالة وجود على بن أبى طالب وعثمان بن عفان أو عدمه، وفى أثناء الحديث كان يتوقف ويذهب ويعود بكتاب من كتبه ويهدينى إياه، من النصوص المسرحية أو كتابه الذى وضعه فى بداية حياته حول التراجيديا، فكنا نغادر زمن الخوارج، نغادر العراق والجزيرة العربية ونعود إلى المسرح المصرى، واستمر اللقاء لمدة خمس ساعات تقريباً، وفى ساعة متأخرة من الليل وبعد أن احتدم النقاش حول الخوارج والقرامطة، حملت الكتب التى أهدانى إياها، وتركته مع طه حسين مع الخوارج والقرامطة، وكان عبدالله النديم قد انزوى بعيداً عن هذا الصخب، وخرجت فى صحبة على الزيبق وجحا واليهودى التائه، وعنتره وأبوزيد الهلالى فى نصوصه المسرحية، هذه الشخصيات التى سوف أعرف من خلالها يسرى الجندى. وبعد ما يقرب من شهر (وكانت العلاقة بيننا قد قويت أواصرها سريعاً، بعد أن قرأ الحوار المنشور الذى أثار بدوره جدلاً كبيراً، وقدمنا خلاله تفاصيل المسلسل قبل أن ينتهى صاحبه من كتابته!)  وبينما كنت أشاهد عرضا مسرحياً وكان هو من ضمن الحضور جلست إلى جواره وفى أثناء العرض همس فى أذنى جاء الرد بالرفض على مسلسل الخوارج. تبادلنا النظرات الحائرة فى عتمة صالة العرض ورحنا نتابع صخب الشخصيات على خشبة المسرح.
وحين سمعت بنبأ رحيل يسرى الجندى ظهيرة الأربعاء 9 مارس 2022 تذكرت هذا اللقاء الأول بيننا وتلك الليلة التى مر عليها ما يزيد عن ربع قرن، تلك اللحظات التى عرفت فيها هذا الكاتب من قريب فلم تكن مناقشة حول الخوارج والتراث العربى بقدر ما كانت مناقشة حول مشروع هذا الكاتب الذى قدم على مدى ستة عقود للمسرح والدراما التلفزيونية والسينما العديد من الأعمال المؤثرة، قدم من خلالها قراءة عميقة لراهن الواقع العربى، وظل ملتزماً ومحافظاً على ثوابت وقيم لم تتغير رغم كل الصعوبات التى واجهها بسبب تمسكه بهذه القيم وهى الإيمان المقدس بالنص المسرحى/ الكلمة أو النص المكتوب، الإيمان المقدس بقضايا الأمة العربية، حاضرها وماضيها ومستقبلها، الإيمان المقدس بأن التاريخ بطولة جماعية، وأن البطولة الفردية غالباً ما تفشل وفى نصوصه المسرحية غالباً ما يكون الكورس حاضراً وله دور كبير ومؤثر، والكورس هو ضمير الجماعة، بالإضافة إلى اختيار شخصيات تحتل جزءاً كبيراً فى الوجدان العام التاريخى والشعبى، المصرى والعربى، من خلال استلهام أشكال التراث العربى، ناهيك عن انحيازه إلى المسرح الملحمى لم يكن إلا رغبة فى التأكيد على رؤيته السياسية والاجتماعية وطرح قضايا الإنسان العربى ومنها قيم الحرية، والعدالة، وكان أسلوب التغريب البريختى مناسباً لهذه القضايا، وتوالت أعماله التى حاول من خلالها السعى إلى تأصيل شكل مسرحى عربى، وحين ذهبت أقدامه إلى الكتابة التلفزيونية اصطحب معه أبطال السير والملاحم وحوادث التاريخ ومفردات المسرح الشعبى، مع استحضار الروح الخاصة بالتراث بأكثر من أداة، وفى نفس الوقت ظل العالم الخاص للمبدع الذى يعيش اللحظة الراهنة حاضراً من خلال كل أعماله.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة