طقس اللسان الأبيض
طقس اللسان الأبيض


طقس اللسان الأبيض

أخبار الأدب

السبت، 16 أبريل 2022 - 03:58 م

يرتبط رمضان عندى بشهور الصيف الحارة، ليس بسبب علاقته اللغوية بالرمضاء لكن لأنى وعيت عليه وبدأت فى صومه فى الشهور الحارة، لدرجة أننا -كفتيان فى قرية صغيرة تابعة لمحافظة الأقصر- كنا نرى بخاراً يتصاعد من الأرض من شدة حرارة الشمس، فلا نستطيع المشى حفاة - نحن الذين كنا نقدس الحفاء- وكنا نتحايل على ذلك بغمس أرجلنا فى مياه الترعة ثم السير على حافتها التى تتخللها بعض الحشائش لاتقاء حرارة الطريق.

وكما تحايلنا على المشى حفاة بالصيف، تحايلنا على كيفية قضاء فترة النهار الطويلة دون شرب الماء، خاصة فترة القيلولة بين الظهر والعصر. كانت الطريقة الأولى هى النوم تحت شجر التوت أو النخيل ووضع حلتين ممتلئتين بالماء.

واحدة عن اليمين والثانية عن اليسار، ثم نغمس فيها أيدينا لتبريد الجسم، ونظل هكذا دون حراك. تلك الحيلة سرعان ما مللناها لنكتشف حيلة أخرى كانت بالنسبة لنا أمتع وأجمل، وهى النوم على حافة الترعة تحت ظلال الصفصاف أو المانجو بحيث يكون نصف جسدنا غارقاً فى الماء والنصف الآخر على الشط، ونظل هكذا ثلاثة أو أربعة صبيان بجوار بعض منغمسين فى الماء، فى سكون مقدس، أشبه بكائنات برمائية، فى انتظار انكسار الشمس.

يظل رمضان فى وعيى هو ابن القرية لا المدينة، هو ابن الصيف لا الشتاء،، بالتأكيد لأن معظم ذكرياتى الأولى معه كانت فى القرية وربما لو ولدت فى المدينة لاختلف الأمر وكانت ستوجد لدىَّ ذكريات خاصة ومختلفة، لكن بمقارنة محايدة كان رمضان فى القرية أكثر متعة وبهجة، به مغامرات وألعاب وطقوس متعددة، منها مدفع الإفطار الذى كنا نصنعه خصيصاً عند الحداد، وهو عبارة عن مسمار غليظ يقوم الحداد بصنع فجوة فى رأسه، ثم يلحم طرفه السفلى بسيخ حديدى، وفى نهايته يتم ربط خيط بقطعة حديدية على نفس مقاس فجوة رأس المسمار الضخم، والذى نحشوه برؤوس عيدان الكبريت، ثم نسده بقطعة الحديد ونضربه على أى جسم صلب، وعادة ما يكون حجراً متروكاً بجوار الباب للجلوس عليه، أو قضبان سكك حديد شركة السكر، كان هذا المدفع البدائى بمثابة سلاح شخصى للأطفال، حيث كانوا يعتنون به وربما قاموا بتلوينه بخيوط القماش والاعتناء بصيانته ونظافته بشكل يومى. 

كان هناك طقس آخر وهو بناء مصلية قبل قدوم رمضان، بسبب بُعد بيوتنا عن القرية، مجرد قطعة أرض مستطيلة الشكل، مساحتها عدة أمتار، نبدأ بتسويرها بالطوب والطين وفرشها بحصر الحلف، وعادة كنا نصلى فيها المغرب والعشاء، لكن كنا نهجرها بعد رمضان ونعيد بناءها فى العام التالى.

الصيام كان صعباً، بعضنا يصوم حتى الظهر، وبعضنا حتى العصر، والقليل كان يُكمل حتى المغرب، وكان البعض يدعى الصوم لكنه يأكل أو يشرب فى السر، وكنا فى أوقات ما قبل الظهر نكتشف الكاذب من الصادق عن طريق طقس استعراض اللسان، حيث يخرج الشخص لسانه ليراه الآخرون، فإذا كان يميل للبياض فهو صائم وصادق، أما إذا كان يميل للاحمرار فهو فاطر وكاذب. ورغم أن هذه الطريقة ربما لا تدل على الحقيقة بشكل قاطع لكنها كانت المعتمدة لدينا فى اكتشاف الصائم والفاطر. 

رمضان فى المدينة كان بالنسبة لى يخلو من البهجة، أيام عادية مثلها مثل باقى أيام السنة، حتى أننى فى بعض الأيام لا أهتم بتحضير الإفطار وانتظار الأذان، مثلما كان يحدث فى القرية، وأكتفى بفتح الثلاجة وتناول أى شىء ثم ممارسة يومى كالمعتاد، ربما تفتقد المدينة جو الحميمية بين الجيران وتبادل الطعام والحلويات فيما بينهم قبل الإفطار.

أو لأننا لم نعد نذهب للحداد لصنع مدافعنا الخاصة، أو اللعب بعد الإفطار، أو لحظات انتظار غياب الشمس وراء الجبل الغربى العالى والإنصات لأذان المغرب الذى يأتى من المسجد البعيد، ثم نجرى لإخبار الكبار بالإفطار.

وربما تلعب النوستالجيا دورا فى ذلك، وكأننى أريد استعادة الأيام الماضية أو تثبيتها فى مكانها متناسياً دورة الزمن التى تغير كل شىء بحيث تتلاشى التفاصيل الصغيرة والبسيطة المثيرة للمتعة، لتحل تفاصيل أخرى لن تثير اهتمامى.

اقرأ ايضا | تفاصيل قديمة أحب تذكرها وأنا فى المنفى الاختيارى

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

مشاركة