أماندا ميكالوبولو: روايتى الأولى خطاب حب لـ «إيتالو كالفينو»
أماندا ميكالوبولو: روايتى الأولى خطاب حب لـ «إيتالو كالفينو»


أماندا ميكالوبولو: روايتي الأولى خطاب حب لـ«إيتالو كالفينو»| حوار

أخبار الأدب

السبت، 07 مايو 2022 - 02:44 م

أماندا ميكالوبولو:

قدّمت قصتى الأولى لمسابقة بتوقيع بطلها وبعد الفوز أعلنتُ عن نفسى


والدى لم يقرأ كتبى أبدًا ويقدمنى للناس باعتبارى صحفية لا كاتبة


الرواية مثل رغيف عيش كامل والقصة نفس قصير جدًا


قد يجمعنى بابنتى مشروع مسرحى فى المستقبل بعدما تحقق ذاتها بعيدًا عن ضغوطات شهرتى


حوار: عائشة المراغى


أغصان وأوراق شجر متشابكة، يخرج من بينها «أرنب» يجرى بسرعته المعهودة. ربما يلهو قليلًا أو يهرب من غزالة تبحث عن وجبتها، أو ربما يمرّ بأحداث أخرى لا تدور سوى بمخيلة الطفلة أماندا، وهى تتأمل سجادة فارسية تفترش إحدى غُرف منزلها بحى «إكسارتشيا» الذى انتقلت إليه مع عائلتها فى سن السادسة.


اعتادت أن تقصّ تلك الحكايات على نفسها، لأن الأدب أو القراءة  لم يكونا من اهتمامات أحد فى عائلتها. هى وحدها مَن اختارت ذلك الطريق وحددت مصيرها، أو بالأحرى فهمت الإشارة الاستثنائية التى تلقتها منذ سن صغيرة؛ فليس معتادًا أن تصطحب أم ابنتها ذات التسعة أعوام إلى طبيب نفسى، لكن والدة أماندا فعلت ذلك. ما ابتغته – فقط – هو مستقبل أفضل لطفلتها دون «كوابيس» تؤرق نومها أو أسئلة وجودية تتصارع داخلها، ولم يكن العلاج فى رأى طبيبها سوى القراءة. 


تكمل تلك الطفلة عامها السادس والخمسين فى أكتوبر القادم، لكنها لم تتخلَ عن براءة الصِغر. بمجرد أن تلتقيها تشعر بـ «شقاوتها»؛ تتحدث بعفوية ومرح، وتنبهر بأدّق التفاصيل، بعيون لامعة وابتسامة شبه دائمة تزيّن شفتيها. 


التقيتُها فى زيارتها الثانية لمصر – بصحبة مترجمة دار العربى هدى فضل – بعد مرور ثلاثين عامًا على الزيارة الأولى فى 1992 أثناء افتتاح متحف كفافيس فى الإسكندرية، إذ كانت حينها صحفية شابة تتلمس طريقها فى عالم الكتابة الأدبية. وما بين عروس البحر المتوسط فى التسعينيات وجوهرة الشرق فى 2022؛ رحلة طويلة عاشتها الكاتبة اليونانية أماندا ميكالوبولو، شهدت الكثير من التجارب والخبرات والإنجازات، حتى باتت واحدة من أشهر الكتَّاب المعاصرين فى اليونان، إلا أن وقع الزيارتين فى نفسها لم يختلف كثيرًا، لأنها تكترث أولًا بالبشر، وهُم – حسب تعبيرها – مازالت عيونهم «مخملية دافئة».


التخيل. كأن قدمى على الأرض ورأسى فوق السحاب، وأنا بينهما. فإذا اعتمدتُ على البحث والحقائق سيصبح النص جامدًا، وإذا تركته للعاطفة وحدها لن ينضبط. أحبذ ألا يعرف القارئ إن كان ما يقرأه حقيقيًا أم متخيلًا. هذا هو الأدب بالنسبة لى؛ خلق قصة جديدة متكاملة كأنها حياة أخرى. 


بعد سنوات من العمل الصحفى واكتساب اسمها لشهرة مهنية، قررت التفرغ للكتابة الإبداعية، بعدما فازت قصتها الأولى بجائزة مجلة «ريفماتا» الأدبية. حينها تحلّت بالشجاعة وأعلنت عن ذاتها، إذ كانت قد تقدّمت للمسابقة بهوية مستعارة، ووقّعت القصة باسم بطلها، والسبب: لأن اسمى كان معروفًا كصحفية، وأجريتُ مقابلات عديدة مع كتاب يونانيين مشهورين. لم أرِد أن يُقال إذا فزت إن ذلك يعود لمهنتى. وفى الوقت نفسه لم أذهب لاسم غريب عن القصة، وإنما بطلها، ليخلق حيرة لدى المحكمين إن كانت حكايته حقيقية أم متخيلة، فهو شاب يعمل فى بنزينة ويتقدم بروايته إلى مسابقة ليشترى بقيمة جائزتها المالية هدايا لأخته وحبيبته. وقد فعلتُ ذلك مجددًا مع شخصية «آنا» بطلة «لماذا قتلتُ أعز صديقاتى؟»، شاركتُ باسمها فى مسابقة ومن قرأوها ظنوا أنها شخصية حقيقية. ما يهمنى فى الأمر أننى أمنح كيانًا لشخصية غير موجودة.


ترى أماندا أن قرارها بالتفرغ تأخر بعض الشىء، لعدة أسباب، أو عوائق كما أسمتها، أبرزها هو ضرورة العمل من أجل المعيشة، إلى جانب موقف المحيطين بها من زملاء عمل وأصدقاء، بل والعائلة أيضًا. توضِّح: مَن حولى كانوا يروننى فقط صحفية، ولم يتخيلوا يومًا أن أكون كاتبة وروائية، وأقربهم والدى، فهو لم يقرأ كتبى أبدًا، ودائمًا يقدمنى للناس باعتبارى صحفية لا كاتبة. لكنى فى النهاية أرى أن عدم الدعم ليس سيئًا تمامًا، لأنه أحيانًا يجعل المرء يسعى بشكل أكبر.


وعلى عكس ما عانت منه سابقًا، هى تحظى حاليًا بعائلة فنية بامتياز، يهتمون بما تكتب ويناقشونها فيه، فزوجها يعمل فى الفنون المرئية، وابنتها ذات التسعة عشر عامًا تدرس المسرح والأدب المقارن، وتمثّل – حاليًا – بالنسبة لها القارئ الأكثر جدية وصرامة، أو ما يشبه محرر محترف. وذلك يضع احتمالًا قويًا بأن تتعاون أماندا مع ابنتها مستقبلًأ فى تقديم عمل مسرحى، خاصة وأن المسرح الوطنى فى أثينا طلب منها مؤخرًا كتابة معالجة جديدة من مسرحية «فيدرا» ليوربيديس، ففعلت ذلك من وجهة نظر نُسوية، مستعينة بابنتها. تقول: تلك هى المرة الأولى لى فى الكتابة للمسرح، ولذلك استعنتُ بابنتى فى وضع بنية المسرحية وتقنيات كتابتها. كما أننا نفكر فى التعاون مستقبلًا ونتناقش أحيانًا فى الأمر. لكننى لا أعلم متى قد يحدث ذلك، ففى الوقت الحالى لا أريد أن تسبب لها شهرتى ضغطًا، أفضِّل أن تحقق ذاتها أولًا وتصنع اسمها ثم نتقابل فى العمل سويًا. 


لم تكن كتابة أماندا لنص يوربيديس من وجهة نظر نُسوية أمرًا عابرًا، وإنما نبع من اهتمامها الخاص بالمرأة وهويتها وكيف يتم تشكيلها فى ظل المجتمعات الذكورية، وهو ما يتضح كذلك فى روايتها «زوجة الإله». وفى هذا السياق ترى أن العصر الحالى هو الأكثر ازدهارًا للمرأة فى الأدب، إذ تقول: أعتقد حقًا أن هذا وقتنا، فالنساء بدأن فى الظهور وصار صوتهن واضحًا ويتحدثن عن أنفسهن ومشاكلهن وما يحدث معهن فى نواحى الحياة المختلفة. لكن فى اليونان حتى الآن – للأسف – يربطون الكاتبات بالأدب الرومانسى والأمور السطحية، وأنهن لا يكتبن رؤى عميقة أو عن مشكلات المجتمع الفعلية، ولتغيير تلك الصورة النمطية لابد أن تتحد السيدات معًا، بدعم من رجال أيضًا، لأننا لن نتمكن من فعل ذلك وحدنا، نحن فى حاجة إلى رجال نُسويين.


واتحاد النساء معًا فى رأيها لا يتطلب أن يجمعهن عالم واحد مثالى، وإنما يكفى تعرفهن على بعضهن البعض بعوالمهن المختلفة، أن تهتم كل منهن بغيرها وتدعمها. تستطرد: لدىّ صديقات كُثر فى العالم العربى، من بينهن صديقة مغربية اسمها سكينة، تتابع كتبى وتطلب ترجمتها وتدعونى دائمًا لزيارة المغرب، هذا مثال للدعم، فرغم اختلاف عوالمنا لكن هناك تواصل بشكل ما. نساء من عوالم وخلفيات مختلفة تمامًا لكنهن يتفهمن ويشعرن ببعضهن ويدعمن غيرهن.

رغم أن بدايتها مع الكتابة كانت شعرية، أثناء مرحلة التعليم الأساسى، فى سن الرابعة عشرة، لكن أماندا لم تنشر إلا سردًا. وقد صدر لها حتى الآن ثلاث مجموعات قصصية «الحياة ملونة بالخارج» 1994، «أوّدُ أن» 2005، «يوم مشرق» 2012، وثمانى روايات «عظم الترقوة» 1996، «بقدر ما يمكنك تحمله» 1998، «الموسم» 2001، «لماذا قتلتُ أعز صديقاتى؟» 2003، «الأميرة السحلية» 2007، «كيف تختبئ؟» 2010، «زوجة الإله» 2014، و«الباروك» 2018 الذى تناولت فيه تفاصيل سيرتها الذاتية خلال 50 عامًا من عمرها، بدءًا من اللحظة الآنية – فى حينه – وحتى لحظة الميلاد، عبر خمسين فصلًا، لكل عام فى حياتها قصة قصيرة. 
ذلك التنوع بين القصة والرواية لا تحدده مسبقًا، وإنما تفرضه عليها الحكاية، وتخبرها إن كانت مجرد حدث صغير ستكتبه سريعًا أم أحداث كثيرة ومتشابكة ستستغرق سنوات 

 

حتى تصبح رواية كاملة. وبشكل أكثر دقّة تحدد رؤيتها قائلة: الرواية بالنسبة لى مثل رغيف عيش كامل والقصة القصيرة جزء صغير جدًا. بقول آخر؛ الرواية مثل النفس الطويل، تتضمن مراحل متعددة يمكن التنقل بينها، ونقاط صعود وهبوط، أما القصة فهى نفس قصير جدًا. بينما المقالات واليوميات – التى أهوى كتابتها باستمرار – فعبارة عن أداة أستخدمها فى كتابة الرواية. 


إلى جانب مؤلفاتها القصصية والروائية؛ كتبت أماندا العديد من كتب الأطفال، ومنها «حفيدة بابا نويل واختفاء الجن»، «إيزيدور وغرق المدينة»، «طالما أننى لا أقص شعرى» وغيرها. وهو ما شجّعنى لسؤالها عن رؤيتها حول جُملة قرأتها لكاتبة الأطفال الإسبانية «آنا ماريا ماتوته» وبقيت عالقة بذهنى، بأنه «لا يوجد طفل سعيد»، فأجابتنى: لا أظن أنه يمكننا قول ذلك، لأن السعادة جزء من المشاعر الإنسانية التى يتعرف عليها الإنسان منذ ولادته. أتذكر أن إحدى الكاتبات قالت إن الطفل حين يصل لسن خمس سنوات يكون قد تعرف على كل المشاعر الإنسانية؛ السعادة والحزن والخوف وغيرها، لكن الفكرة أن الإنسان خلال تقدمه بالعمر يظل يتعلم دائمًا ولا يتوقف، يتعرف على كيفية التعايش مع كل تلك المشاعر والتعامل معها بشكل صحيح، وحين يتجاوز سن الستين يبدأ فى فهمها وتقبلها بشكل أكبر، لا لكى يشعر بالمرارة أو الندم، وإنما ليقدر أنه إنسان وأن ذلك جزء من تكوينه. 


نالت أماندا ميكالوبولو عن أعمالها العديد من الجوائز والترشيحات داخل اليونان وخارجها، بدءًا من جائزتها الأولى فى 1994 من مجلة «ريفماتا» التى دفعتها للتفرغ، ثم جائزة مجلة «ديافازو» الأدبية عن رواية «عظم الترقوة»، وجائزة أثينا الأكاديمية عن مجموعتها القصصية «يوم مشمس»، كما تُرجمت مؤلفاتها إلى عشرين لغة، وبالإنجليزية؛ حصلت مجموعة «أوّد ذلك» على جائزة الأدب الدولية من الهيئة الوطنية للفنون بالولايات المتحدة الأمريكية، ورشحت جامعة روتشستر روايتها «لماذا قتلتُ أعز صديقاتى؟» لجائزة أفضل كتاب مترجم عام 2015.


ولاشك أن الجوائز تُسعد من يحصل عليها وتدعم مشروعه، إلا أن الأمر معها له اعتبار خاص بعض الشىء، توضِّحه: مازالتُ طفلة بداخلى، لأننى فى طفولتى لم ألقَ اهتمامًا من عائلتى فى هذا الشأن، لم يفهموا ما أفعله، ولذلك صِرتُ أبحث دائمًا عن ذلك الاهتمام والتقدير من الخارج، فمنذ كنتُ فى المدرسة؛ رغبتُ على الدوام فى لفت الانتباه وأن يرانى الجميع أفضل طالبة والشخص الأكثر تميزًا.

فى 2018 صدر آخِر أعمال ميكالوبولو، وبعدما فاجئتنا جائحة كورونا فى 2020 لم تستطع التركيز أو تقوى على كتابة شىء، لكنها استكملت عملها فى تدريس الكتابة الإبداعية الذى تمارسه بمختلف المؤسسات اليونانية منذ سنوات، وتتمثل القاعدة الرئيسة للكتابة فى القراءة أولًا، ثم الوقوع فى حب أحد الكتّاب بشدة. تقول: لابد أن يحب الكاتب فى بداياته مؤلفًا ويتحاور معه كأنه يفعل ذلك مع حبيبه، وغالبًا يكون ذلك المؤلف قد مات منذ زمن، وتكمن وسيلة التعبير عن الحب فى كتابة خطاب عاطفى له، ويكون ذلك هو الكتاب الأول. 
وفيما يخصّها؛ فإن الكاتب الإيطالى، ما بعد الحداثى؛ إيتالو كالفينو، هو حبها الروائى الأول، حين قرأت روايته «لو أن مسافرًا فى ليلة شتاء» وهى فى التاسعة عشرة من عمرها، 

 

تضيف: كانت القصة بين شاب وفتاة يحبان القراءة والاثنان يبحثان عن مسودة لنص للكاتب، قصة عظيمة لم أقرأ مثلها، ضحكت خلالها كثيرًا، وشعرتُ أن كالفينو يتحدث معى، عندها قررتُ أن أجعل القراء جزءًا من رواياتى حين أكتب، يشعرون بأنهم يعيشونها لا يقرأونها فقط، أريد أن تكون كتاباتى ملاذًا، لأن الأدب هو أفضل علاج للإنسان، عندما يتوحد مع شخصيات النص ويبدأ فى محاسبة نفسه. وقد كانت روايتى الأولى هى خطاب حبى لكالفينو.


«إذا اشتعلت النيران فى جملة ما، ما هى الكلمات التى ستنقذها؟». لا تتذكر من أخبرها بتلك النصيحة لكنها ببالها دومًا، وتوجهها لطلابها، ولنفسها كذلك، حتى باتت مع الوقت تكتب بشكل أكثر بطئًا، لأنها تيقنت بأن عليها تطبيق ما تخبر به الطلبة، وبالتالى مراجعة كتاباتها وإعادة تنقيحها أكثر من مرة قبل النشر، فتلك هى نصيحتها الأولى لهم، وكذلك: كل منهم عليه تحرير النص بصرامة، والصبر حتى يصل للإيقاع الذى تتطلبه الرواية وما تحتاج إليه. بالإضافة إلى معرفة آليات كتابة الرواية، لأن الرواية تشبه الآلة من الداخل تمامًا، تتكون من عناصر صغيرة كثيرة وكل منها له وظيفة، جميعها تجعلها تظهر فى صورتها النهائية وتحقق الهدف منها.

 


فى روايتها الأولى «عظم الترقوة» وضعت أماندا ثمانين اقتباسًا أو إشارة لفرانز كافكا وحياته، ويبدو أنها لا تزال مولعة به وبعالمه، إذ تكتب حاليًا «نوفيلا» مقتبسة من رواية «التحول» لكن بزاوية مختلفة، متضمنة بعضًا من قصائدها، بعد سنوات من التخلى عن الشعر. كما تكتب رواية أخرى ذات طابع رومانسى، عن قيمة اللمسة والتواصل بين البشر، التى افتقدناها مع كوفيد 19.


لم تكن «اللمسة» وحدها هى المفقودة مع كوفيد 19، وإنما الكثير من مظاهر الحياة، وتلك الرواية مجرد محاولة منها للتغلب على الآثار السلبية للجائحة، مثل زيارتها إلى مصر، التى كسرت بها حاجزا الخوف والانعزال، كأول «رحلة» لها خارج اليونان منذ عامين، ولازالت تطمح للعودة إلى الحياة الطبيعية بشكل أكبر.

 

اقرأ ايضا

 التنسيق الحضارى يطلق مشروع «لحظات» 
 


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة