قاهرة الفنان مدينة أرهقتها السنوات والأحداث
قاهرة الفنان مدينة أرهقتها السنوات والأحداث


قاهرة الفنان محمد عبلة.. مدينة أرهقتها السنوات والأحداث

أخبار الأدب

السبت، 14 مايو 2022 - 01:49 م

بقلم : ياسر سلطان

السكون الذى ينعم به عبلة أثناء عمله يقابله صخب من الأفكار والتحولات الناعمة أحياناً والحادة فى أحيان أخرى

ضرب لى موعداً ذات يوم فى قصر الفنون، حيث وجدته هناك بين علب الألوان وأدوات الرسم. كان منهمكاً فى رسم لوحة كبيرة لنيل القاهرة.. درجات مائلة إلى الزُرقة تتشكل لتنشئ خطاً تحيطه درجات خضراء ورمادية.. تتماهى درجات اللون مع مساحات أخرى خارجة لتوها من العدم.. لوحة للنهر لم تتشكل معالمها بعد. كان محمد عبلة يجهز العمل حينها للمشاركة فى معرض جماعى كبير يقام فى نفس المكان. قال لى إنه سوف يرسم اللوحة ويتركها لتجف، وسيترك إلى جوارها أيضاً كل هذه الفوضى من علب اللون وأدوات الرسم.


دائماً ما يشتبك محمد عبلة مع الأحداث ويعبر عن انشغاله بها، فحين رسم تلك اللوحة كانت أزمة سد النهضة آخذة فى التصاعد، وكان مهموماً بالتكهنات حول تداعياتها. هو فنان تتشكل الصور على مساحة لوحاته كما تنطبع فى ذاكرته وتراود خياله، لتعكس قلقه وتوجسه أو بهجته وانشغاله. حين يرسم القاهرة وشوارعها يبدو مسكوناً بتفاصيلها وهمومها، يرسمها كما يراها، بفوضويتها وزحامها وحميمية تفاصيلها. لا يعنى محمد عبلة هنا أن يخرج العمل على أجمل صورة، ولا يلتفت إلى تلك الحسابات التى يتم عن طريقها الحكم على العمل فنياً وجمالياً، بقدر ما يهمه تأثير العمل على المتلقى، وقدرته على إثارة وعيه ولفت انتباهه إلى الفكرة أو القضية التى يطرحها.

اقرأ أيضا | بعد حصوله على وسام جوته.. محمد عبلة: لا أريد أن أكون مجرد عابر سبيل 


العلاقة بين محمد عبلة والشارع علاقة وطيدة ومتشابكة، لا تتوقف هذه العلاقة عند حدود اللوحة، بل تتعداها إلى نقاط من التلاحم والارتباط، حرص هو على وجودها وتأكيدها فى مناسبات عدة. أدواته لا حدود لها، ابتداءً من الخامات التقليدية، إلى الأصباغ والطباعة والفوتوغرافيا وأجهزة العرض الحديثة. تأثيراته مزيج من الخربشات وضربات الفرشاة السريعة والمتتالية على مساحة العمل، وهى مساحة مفتوحة دائماً أمام كافة الإضافات.


لكى تصل إلى محترفه القاهرى عليك أن تعبر النهر على ظهر عبَّارة صغيرة تنتقل بك بين عالمين، المدينة بضجيجها، وهدوء القرية وونسها. جزيرة ريفية الطابع وسط نيل القاهرة أنشأ عليها محمد عبلة محترفه، حيث يمارس فنه ويقتنص أوقاتاً للسكون وسط صخب الحياة. هذا السكون الذى ينعم به عبلة أثناء عمله يقابله صخب من الأفكار والتحولات الناعمة أحياناً والحادة فى أحيان أخرى. هو فنان لا يهدأ ولا يستقر على حال، يمارس التصوير والرسم والجرافيك، وله علاقة وثيقة بالنحت أيضاً، حتى أن له تمثالاً ميدانياً من تصميمه ينتصب فى قلب مدينة «فالسرودة» الألمانية. كما أنه شغوف بالفوتوغرافيا، وانعكس شغفه بها على العديد من تجاربه. 


رصدت أعمال محمد عبلة الكثير من العلامات الكاشفة والموحية، تجولت عبر شوارع المدينة ومقاهيها، واقتربت من الناس، أو ابتعدت أحياناً لترسم لنا المدينة ككيان مهول يتمدد ويحتوى فى داخله كل هذه التفاصيل. انتبه عبلة إلى بيوت القاهرة وتأمل من جديد تلك البنايات المتراصة إلى جوار بعضها، يرسم ويحلم ويتخيل ما يدور بداخل هذه البيوت وأحوال ساكنيها. تطور الأمر لديه شيئاً فشيئاً فراح ينشئ من تفاصيل هذه البنايات التى يرسمها تراكيب أخرى وتداخلات، حتى نجح فى صوغ بناياته الخاصة، بما تحمله هذه البنايات من تناقضات ساكنيها وأحلامهم وخيالاتهم. 


فى قلب هذه التجربة، تبدو المدينة محرضاً بصرياً للعديد من إبداعات الفنان محمد عبلة، هى مصدر إلهامه وحاضنة لهمومه وبهجته. سواء استعان بالفوتوغرافيا، أو استلهم فى أعماله رسوم المنمنمات والصور القديمة، كان مسكوناً بالحنين إلى الماضى أو مشتبكاً مع الحاضر وتعقيداته، ستظل أعمال عبلة أشبه بمدونة بصرية لهذه المدينة التى أرهقتها السنوات والأحداث. 

 

 

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة