الشخصية المصرية ومغامرة التجريب
الشخصية المصرية ومغامرة التجريب


فن «محمد عبلة» يرصد الشخصية المصرية ومغامرة التجريب

أخبار الأدب

السبت، 14 مايو 2022 - 02:31 م

بقلم : جمال القصاص


تبدو الشخصية المصرية الأكثر شمولاً ونفاذاً في أعمال الفنان محمد عبلة، ولا يقاس ذلك بمنظور الزمن والمسافة فحسب، وإنما أساسا بمنظور العمق الحضاري الضارب لهذه الشخصية في التاريخ، متجسداً في سؤال جوهري، لا يزال يلقي بظلاله على هذه الأعمال حتى الآن، وهو: من أنا ومن نحن؟!

 

برزت موهبة عبلة في السيطرة على الخامة، من أحبار وألوان وأصباغ، وترويضها على السطح الطباعي الزجاجي الوسيط، فلا نحس بأي نتوء لها، ويعي عبلة حساسية لمسة الفنان في بناء الصورة والمشهد، وأن هذه اللمسة بتراكم الخبرة تتحول إلى بصيرة ثاقبة، تمنح مغامرة التجريب شكلاً ومعنى، وتفتح لها طرقاً وآفاقا جديدة

 فمنذ شدَّ عبلة قماشة الرسم بمرسم الأقصر، وهو بسنة التخرج في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، تلمست أصابعه إيقاع هذه الشخصية، وشفت رائحة العرق المشرّبة بطمى النيل، في كوكبة من شخوص عمال التراحيل، بأجسادهم النحيفة المدهونة بسمرة الشمس.

 

كان ذلك «اسكتش» أولي، مجرد لافتة صغيرة وأثر، حفره صدى السؤال بذبذبته البصرية اللافتة في اللوحة، بينما على مدى البصر يتسع قوس الدهشة وتعلو عبقرية المكان، حيث المعابد والمتاحف والمقابر المليئة بذخائر ونفائس الحضارة المصرية القديمة، تنساب في خطوط ومجسمات، على الجدران والأعمدة وأجساد التماثيل، وفي مفردات الطبيعة وطقوس الانتقال إلى الحياة الأخرى، في رحلة الجسد إلى عالم آخر من الخلود. 

 


منذ تلك اللحظة أصبح لدى عبلة ما يشبه اليقين بأن الرسم ليس رد فعل، إنما هو حالة خاصة تنمو وتتفتح بفعل المعايشة، ويقظة الحواس والوجدان، في الالتقاط والتأمل، والمقدرة على التجريد، وتحويل الأشياء في شتى صورها إلى مسطحات مرئية حاضنة للتكوين برهافة سلسلة ومغوية، حيث يتضافر الضوء والعتمة في تدرجات نغمية مضيئة وحاذقة تعززها حساسية عالية فى كشف وفهم علاقات التناقض والتراسل بين الألوان، وجدل الخفًّة والثقل في مسامها، وحركتها المنسابة بتلقائية فى اللوحات

 


 فراغات وكتل وخطوط تكتسب اتزانها من حركة الشكل فوق السطح، بينما يبدو جدل المرئي واللامرئي، وكأنه رسائل مخبئة في فضاء اللوحة، تمرح فيها الصورة وتتنوع تعبيرياً وتجريداً، مصحوبة أحياناً بحيل وألاعيب فنية، تثري الخامة، وتفتح لها نوافذ إدراك ومعرفة جديدة، عبر اللوحة نفسها والعالم والواقع.


 في هذا المسعى، كان لا بد أن تتضافر مغامرة التجريب مع عناصر قارة وراسخة تشكل أبعاد الشخصية المصرية وإرثها الحضاري، واللعب معها بصرياً لتكتشف الصورة مخزون الطاقة والجمال وتلقائية الروح الكامنة في هذه الشخصية، ومن ثم تصنع امتدادها العضوى الطبيعي في جسد المكان والزمان.


 أول هذه العناصر التى أولاها عبلة أهمية خاصة وتلقائية، هى اللعب مع النيل. شغل هذا اللعب حيزاً كبيراً فى أعماله، وشكل استعارة بصرية قوية، تؤلف مع غيرها من الصور، ما يمكن تسميته بالمزاج المرح، الذى تتناثر فى حركته وتموجاته تأملات بديهية فى طبيعة الفن والوجود، وتجليات الماضى والحاضر، حيث العمل الفنى جزء من لحظة ما، تدفعه لأن يتجاوزها إلى لحظة أخرى أكثر جمالاً وروحانية ؛ لا قطيعة هنا بين اللحظتين، إنما علاقة متشعبة وحية، بين طفولة الجذور ومشاكسات الأغصان، بين المكان ببشره وكائناته، والزمان بانسياله الواخز فى رحم الكون. تجلى كل هذا منذ معرضه الأول بالمركز الثقافى الإسبانى بالقاهرة عام 1977، ثم تكثفت رموزه ودلالاته فى معارض: «النيل» بجاليرى معهد جوته 1998 و«فى قلب النيل» بأتلييه القاهرة 1999، و«الونس بالنيل والشجر» بقاعة الزمالك عام 2002، وغيرها.


 نأى النيل عن أن يكون فقط مجرد وسيط بصرى ووعاء جمالى وشريان حياة، وتحول إلى جسر، يشغى بحكايات البشر وأحلامهم وأشواقهم، فى العدل والحرية والإحساس بالأمان. إنه أسطورة الماء، يصنعها الإنسان بكده وعرقه، وتشبثه بإرادة الأمل والنور.


 تمثلت خلاصة اللعب مع النيل فى الوصول إلى «شعرية الماء»، والتى اختبرها عبلة فى عدد من أعماله، بخاصة الجرافيكية، مشيِّدا مغامرة تشكيلية ثرية بالتنوعات الابتكارية المفتوحة بحرية، ليس فقط على لغة الحفر بإيقاعها التعبيرى الرائق، وإنما نحس بأن ثمة حواراً يتخلق فى اللوحات، مسكوناً بانفعالات تعبيرية، يمتزج فيها حدس الشعر والموسيقى. يتبدى هذا الحوار فى زوايا التظليل والتلوين، وفى حيوية الأرضية ومقدرتها على احتواء الأشكال والشخوص، كأنها تستمد وجودها من النسيج الخاص للوحات نفسها.


 وعلى مستوى التكنيك برزت موهبة عبلة فى السيطرة على الخامة، من أحبار وألوان وأصباغ، وترويضها على السطح الطباعى الزجاجى الوسيط، فلا نحس بأى نتوء لها، منذ بداية تبلورها كفكرة أو هاجس فى مخيلة الفنان، تعززها مقدرة لافتة على استشفاف النتيجة، سواء فى مراحل التشكيل الأولى على السطح، أو فى مرحلة استنساخ اللوحة على الورق. 


تواصلا مع «شعرية الماء» قدم عبلة مغامرة أخرى فى معرضه «طريق الحرير» بقاعة أفق 2016، أراد من خلالها أن يبلور عشقه فى التعرف على ثقافات وحضارات الشعوب، ومعايشة أساطيرها وحكاياتها فى اللوحة، فاختار هذا الطريق الذى شكل جسرا ربط بين شعوب عدة فى شرق آسيا منها: مصر والصين وتركيا وكازخستان. كما اختار فن «الأيبرو» التركى المنشأ المعروف بالرسم على الماء، بعد خلطه بمواد وألوان خاصة يتم رشها وتشكيلها على السطح. لكن روح الحكاية فى اللوحات، وصور الفارس والحصان والأميرة وغيرها من العلامات والرموز ظلت أسيرة لحكايات ومناخات «ألف ليلة وليلة». 


ومن تجليات النيل وشعرية الماء انطلق عبلة الى تجلٍّ آخر يشكل إناء هذه الشخصية، وتموضعها فى المكان. ولعله هنا أراد أن يسبر العلاقة، ليس فقط بين الإناء وما يحتويه، إنما اختبار عاطفة اللون فى تعامله مع المكان، وفى سياق من الخصوصية، ترتبط بطبيعة الفنان نفسه،  فى هذا المنحى شكلت القاهرة، بصخبها وضجيجها، وهدوئها المشمس عجينة لهذه العلاقة. فاختبر علاقة الكتلة بالفراغ، وكيف أصبحت كتلة عشوائية فى طرز العمارة الحديثة، أو ما يسمى بـ«أبراج القاهرة»، فى معرض حمل الاسم نفسه، برزت فيه نوازع الفوضى والتململ فى هذه العلاقة، حتى وصلت إلى حد الرص والحشو وإعلاء معيار الكم، بلا نسق فنى ومعمارى يشد العين إلى حالة من التذوق الجمالى الخالص، تشكل امتداداً لتراث معمارى عريق ومتنوع فى عاصمة المحروسة.


 ولأن القاهرة مدينة ليلية بامتياز، اختار عبلة أن يشاكس مصابيحها، بأنوارها الخافتة المشعة فى الميادين والشوارع والأزقة، ثم وهى ترتعش تحت زخات المطر الخفيف على مطالع الكبارى وفى أضواء المراكب الكرنفالية، وهى تتهادى على صفحات مياه النيل، فى اختبار حى لعلاقة الضوء بالمكان، مقدماً فى معرضه «أضواء المدينة» مغامرة شيقة للإمساك بجماليات الضوء الليلى الاصطناعى. لقد أراد عبلة أن يضع من خلال هذه المغامرة منظوراً لرسم المدينة، من زاوية شديدة المراوغة والحيوية، ومن خلال أشكال وتكوينات يغلب عليها طابع العفوية والمصادفة، تتجاور أحياناً فى تقاطعات متضادة على مستوى اللون والحركة والنغمة والنسيج، وأحياناً أخرى تتلامس من بعيد، وهى تومض على سطوح مرتعشة خاطفة، لكنها مع ذلك تؤكد قدرة الفنان على التجريب والمغامرة، وتنويع أسلوبه بأفكار ورؤى، تنحو دائماً نحو الطزاجة والحرية. 


ويبدو لى أن منجز عبلة فى هذا المعرض يتمثل فى نقطة أساسية، هى أنه استطاع أن يُخرج المدينة من إطار اللوحة، ويحررها من تراسلات الضوء الساكنة، وعلاقاته التقليدية، لتصبح من ثم، بمثابة حوارية بصرية، تتلاشى فيها الحواجز بين إيقاع المشاهد الخارجية الموارة بالصخب والحركة، والإيقاع الداخلى للرسم، فيتحول الاثنان فى ضربات الفرشاة واللون إلى خطين يتوازيان بحيوية ورقة على مسطح اللوحات. 


يعى عبلة حساسية لمسة الفنان فى بناء الصورة والمشهد، وأن هذه اللمسة بتراكم الخبرة تتحول إلى بصيرة ثاقبة، تمنح مغامرة التجريب شكلاً ومعنى، وتفتح لها طرقاً وآفاقا جديدة.. على هذه الأرضية لا بأس أن يمارس اللعب مع النار، فى مقطوعات نحتية صغيرة من خامة البرونز، تضىء علاقة الرسم بالنحت، وكيف تتحول الصورة إلى سطح مجسم، كما يختبر اللعب بشرائح الكولاج وفن «السوليت» فى معرض «حكايات مريم»، وكذلك فى معرضه الأحدث «زمن الصبار»، حيث يثرى اللعب مع اللون المطعم بشرائح من الكولاج فضاءَ الخلفيةَ، ويجعلها معجونة فى الرسم، مسكونة بطفولة الفن والأشياء. 


 فى كل هذه المغامرة بتنوعها وتجددها حافظ عبلة على شىء مهم وفارق فى تجربته، وهو الحرص على بساطة الشكل فى أعماله وأن تكوِّن من خلال هذه البساطة الثرية جسور تواصل مع الإنسان، متحاشياً الوقوع فى الغموض والتعقيد، أيضاً ظل النظر إلى الطبيعة والتعامل معها بطفولة شجية ومرحة، هو همزة الوصل بين أقصى التشخيصية واللاتشخيصية. 


 فى ختام هذه الإطلالة يبقى أن أؤكد، أننا لا يمكن أن نفصل هذه المغامرة عن هموم عبلة ومعايشته الوطنية لقضايا وطنه، وانحيازه لقيم العدل والحرية. سلاماً لمحمد عبلة، وقبلة على جبينه، وفرحة لن تنتهى بمنحه «وسام جوتة» أرفع وسام ألمانى فى الثقافة والعلوم. 

اقرأ أيضا | قاهرة الفنان محمد عبلة.. مدينة أرهقتها السنوات والأحداث


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة