عزة كامل تكتب : مذكرات منيرة المهدية
عزة كامل تكتب : مذكرات منيرة المهدية


مذكرات منيرة المهدية

عزة كامل تكتب: مذكرات منيرة المهدية

أخبار الأدب

الأحد، 10 يوليه 2022 - 01:47 م

مرضت فجأة من كثرة العمل واعتكفت فى البيت ثلاثة أيام، ثم عدت بعد أن شفيت إلى المسرح وهناك هرع إلىَّ أفراد الفرقة من الممثلين والممثلات ورجال الموسيقيين يهنئونى بالسلامة، ثم فاجأنى رئيس الأوركسترا بقوله: يا ست منيرة...هو ده وش عيانين؟

كنت أؤمن بالحسد، وأفسر أى وعكة خفيفة بأنها عين خفيفة أصابتنى، إذا كانت الوعكة ثقيلة فالعين ثقيلة وكنت ذات ليلة أؤدى دورى فى مسرحية قمر الزمان

كان «سعد زغلول» واحداً من العظماء الذين أحبوا غنائى وفنى وأستطيع اليوم أن أزيح الستار عن حقيقة لم يعرفها الكثيرون عن سعد زغلول، فقد كان رحمة الله عليه يتمتع بصوت جميل ويحلو له أن يترنم بأغان وكان يحضر إلىَّ متخفياً هرباً من المظاهرات

هذه مذكرات منيرة المهدية. تلك الفنانة التى جابت شهرتها الآفاق جنوبا وشمالا وشرقا وغربا، من مصر إلى الأقطار العربية وتركيا وإيران، عبر مسيرة فنية خصبة وثرية وحافلة بأحداث عظمى وممتعة تربو عن ثلاثين عاما، هذه المسيرة التى ظلت مثيرة للجدل ومليئة بالمفاجآت حتى وقتنا هذا.


نشرت المذكرات فى أربع حلقات فى مجلة البوليس عام 1958، وهى بذلك لا تعكس أدق التفاصيل لمسيرة منيرة المهدية ورحلتها الفنية الغنية والإنسانية، ومواقفها الوطنية وروحها المغامرة الوثابة فوجدت نفسى غارقة فى البحث عن حياتها ومواقفها وأغانيها من خلال المجلات والصحف الفنية والمقالات والكتب التى عاصرت منيرة المهدية وما بعدها.

ومشاهدة فيديو لها مع المذيعة النابهة أمانى ناشد بعد حصولها على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى من الرئيس جمال عبد الناصر فى الستينات، من أجل إعطاء صورة معمقة وحية وحقيقية عن حياة منيرة المهدية.

التى ربما قد أغفلتها المذكرات، لقد أطاحت منيرة المهدية بتقاليد المجتمع المصرى التقليدية عرض الحائط، إذ حطمت وزلزلت عرش الذكورية والقيود ، ننشر فى هذا البستان فصلاً من كتاب «مذكرات منيرة» يصدر قريباً عن سلسلة كتاب اليوم.

 

 عشت ليالى ألف ليلة وليلة.. وكدت اشترى نصف مدينة القاهرة.
عندما أقمت فى فلتى الصغيرة بمصر الجديدة أخفيت عنوانى عن الناس وجعلت رقم تليفونى سريا ولم أكن أتوقع أن يصل لى صحفى، ولكن مجلة «البوليس» وصلت إلى كالعادة، واستطاع مندوبها أن يقنعنى بكتابة هذه المذكرات، فأعاد إلى خيالى أنغام عالم راح، عالم وردى، عالم عامر بالمباهج عسير على النفس أن تنساه، نفسى.
وهأنذا أكتب ذكرياتى فى العالم الأسطورى الذى عشت فيه ليالى ألف ليلة، بل مليون ليلة، دونها ليالى هارون الرشيد، وشهرزاد!!


>1
حين أحاول أن أستعيد عهدى الأول بالغناء والتمثيل أرى نصب خيالى هذا ليالى ألف ليلة لكل مايتلألأ فيها من أنوار وما يفيد فيها من مال ومباهج ومسرات وما كنت أحلم أن فتاة صغيرة مثلى حرمها القدر من أبويها الواحد بعد الأخر تنعم قبل أن تبلغ الثامنة من عمرها بما لم ينعم بها أصحاب الملايين. 


عرفت النور استنشقت الهواء لأول مرة فى مدينة الإسكندرية حين كان يعيش أبواى وإخوتى ولكن سرعان مع حرمت من حنان أمى ولم يتجاوز عمرى بضعه أشهر ونشأت فى حنان أبى وعطفه، وشاءت الأقدار أن تصفعنى صفعة أخرى.

وفقدت أبى وأنا فى الثانية وفقدت بفقده دعائم وجودى ولم تكن طفولته تبشر بمستقبل كانت تنذر بهم وشقاء ولولا رحمه الله التى تسع كل شيء. وأخذتنى أختى الكبرى وكانت متزوجة من أحد الأعيان (وكانا يقيمان معاً فى عزبه الزوج فى طبية) بمديرية بنى سويف وأدخلتنى أختى المدرسة ولكننى لم ألبس أن تمردت على المدرسة إذ كان همى الغناء واللعب وكنت لا أذهب إلى المدرسة «أهرب «، لأغنى فى الشوارع مع صاحباتى الصغيرات، الأغانى الشائعة وقتذاك.

وأشهرها أغنيه «تعالى لى يا بطة «، وعندما بلغت السادسة من عمرى كنت أخرج إلى المزارع فى القريه فاستمع للفلاحات وهن يغنين أغانيهن، فتحيى ذاكرتى سريعا ما يغنين، ثم أعود إلى البيت فأردد هذه الأغانى وكان أشهرها أغنية هذه مقدمتها: 


تحت السبيل المبيض رأيت سيدى البيه راكب حصان إنجليزى والعبيد حواليه 
وسرعان ما تزعمت أولاد البلدة وصغار بناتها فأحبونى حبا جما وصرنا كأخوة، نجمع كل ما تصل إليه أيدينا فى مناديل ملونة وقطع الزجاج والرمل الملون والبيارق لنقيم فرحا بالقرب من منزل إحدانا ونمثل العريس والعروسة، وأقوم أنا بدور «الملكة الريسة» التى تزف العريس إلى العروسة، بأغانى العوالم المشهورة، أغنيات الفلاحين فى ذلك الحين.


مع التخت
هكذا عشت حياتى فى الريف حياة كلها سذاجة وسمع الناس صوتى وقتذاك فتنبأوا لى بمستقبل عظيم ولم أكن اعرف حينئذ معنى المستقبل، ولا ما هو الغناء فكنت أسمع كلمات تشجيعهم واطرائهم.

وأنا لا افهمها حتى قدر لنا أن ننتقل إلى القاهرة مسرح الفن والغناء والبيت الكبير للأعيان والأغنياء، وألح معارفنا على أختى وشجعوها لكى تزج بى فى عالم الغناء، فدبرت لى عملا على تخت فى مسرح الاندرادو) بفضل نفوذ زوجها. وكان حى الأزبكية هو الوحيد السهران دائما فى القاهرة، الزاخر بألوان الفنون والرقص والتمثيل فلم يكن الشارع لشارع عماد الدين الأهمية التى نالها فيما بعد.


وكانت قنطرة الدكه والأزبكيه ممتلئة بالملاهى والمسارح حافلة بالبهجة والسهر كما كانت مهبط الباشوات والوزراء والأعيان فى عهد الرخاء فى بداية هذا القرن.كانت أماكن السهرات واللهو تبدأ من ( تياترو دار التمثيل العربى) حيث يعمل الشيخ سلامة حجازى وتنتهى عند قنطرة الدكة التى كانت تزخر بالصالات مثل الألدورادو القديم.

والألدورادو الجديد وغيرها، وهكذا قدر لى أن أغنى للناس على مسرح الألدرادو مع التخت، وأنا لا أعرف معنى الحياه يتنازعنى الخجل ويشجعنى الإقبال والتصفيق، وكنت أغنى أدوار قديمة منها: «يا ليله بيضا ونهار نادى.

وحبيبى غاب انا قلبى داب»، وبعض قصائد الشيخ سلامة حجازى، ومن الطريف أن جمهور المعجبين بى ازداد، كانوا يستميلون قلبى باللعب والعرائس التى كنت مغرمة مشغوفة بها.


نزهة النفوس
وشاء الله أن أنجح وتكاثر أصحاب المسارح على الإنفاق معى وبلغ إيرادى الشهرى 800 جنيه ولم أكن احسب لهذه الثمانمائة جنيه حساب يذكر، كنت أرى أكياساً من القماش مليئة بالجنيهات الذهبية تطرح تحت قدمى، ولذلك نشأت لا أحسب للمال حسابا ما، ولعل فى ذلك جواب لبعض الناس الذين يتساءلون:


كيف لم تقتنى منيرة المهدية أملاك الدنيا وضياعها كلها؟
إن الله لم يخلقنى ماديه وإلا لكنت اليوم صاحبة نصف القاهرة، لقد حدث خلال عملى بفرقتى فى مسرح برنتانيا بشارع عماد الدين، أن عرض على شراء الأراضى والمبانى التى كانت قائمه أنداك فى الشارع من صالة بديعة إلى سينما ستوديو مصر.

وفكرت فى أن أنشئ عده مسارح عليها، أعمل على إحداها وأوجر الأخرى للفرق المسرحية.وعندما أوشكت أن أتم الصفقة، شغلت ببعض الشؤون العائلية التى حالت بينى وبين إتمامها، وكان ثمن تلك الصفقة وقتها حوالى 70  ألف جنيه تساوى الأن أكثر من مليون جنيه.

وأنا الآن لست نادمة على ما اضعت من مال، فليس هناك من الدنيا ألذ من البعزقة والفنجرة على مخاليق الله! وقد بلغ من تهافت الناس على المسرح الذى أغنى فيه وتسابق المستمعين إليه، أنى اتفقت على العمل فى مسرحين مختلفين فى ليلة.

وأغنى فى كل منهما ساعة واحده، فزاد إيرادى الشهرى وقتذاك عن ألف جنيه، وحينما اشتد الاقبال إلى هذا الحد، فكرت فى استئجار صالة لحسابى ورحب الفنانون الذين كانوا يتعاونون معى بالفكره وسرعان ما استاجرت صالة « نزهة النفوس»، وكانت صالات ذلك الوقت تعتمد على الغناء وكان الرقص الأفرنجى والعربى والمنولوجات برنامج ثانويا فيها.


الصوت الأبيض
وذاع اسمى ذيوعاً كبيراً،وكان طبيعيا أن يسمع به الشيخ سلامة حجازى، وكبار رجال الموسيقى العربية، وأذكر أننى عندما شاهدت الشيخ سلامة، وقد جاء ليسمعنى، صحت فى براءة وسذاجة:


هل أنت شيخ سلامة صحيح ---- طيب أقعد وأنا أسمعك أحسن قصيدة من بتوعك (إن كنت فى الجيش)، وسر رحمه الله من سذاجتى أو أخذ مكانه بين الناس ليسمع قصيدته المشهورة، وبدأت الغناء وسرعان ما رأيت الدموع تنهمر من عينى الشيخ الوقور، ثم طلب منى أن أغنى أغنيتى التى اشتهرت بها.


«أسمر ملك روحى» فغنيتها، وتردد الشيخ سلامه كثيرا على الصالة، وكان يطلب منى غناء (اسمر ملك روحي) كل ما جاء، وفى ذات ليله قال لى اسمعى يا بنتى إنتى لك صوت أبيض فقلت له هو فى صوت أبيض وصوت أسود؟!


فقال لى: أمال... إن صوتك من الأصوات التى تعيش مع صاحبها طول حياته، لا تفقد بهجتها وطربها، وعليك أن تهتمى به وتحافظى عليه، وانصحك بثلاث نصائح لتحافظى على صوتك:


إذا قدم لك إنسان قدحا من القهوة، لا تشربيه لئلا يكون قد دس لك فيه شيئاً يضر صوتك، أنت ترين مبلغ انتشار الدسائس والمؤامرات فى الوسط الفنى. ولا تدخنين السجائر 
وإذا كنت تشعرين بأن صدرك عرقان، فأسرعى بتغطيته وإن كان جافا فلا تخشى الهواء. ولقد استمعت لنصحه رحمة الله وما زلت أعمل به حتى الآن. 


شر العين
«العين يا تقصف يا تتلف» إنه مثل باق طالما كنت أتحداه ولا أبالى به، إلى أن ذهب أحد المستمعين فى الصالة ذات ليلة ليبدى لى إعجابه فأمسك برقبتى وصاح قائلا: آه.. آه.. يا منيره هى دى الحنجره اللى جننت الدنيا كلها، وضحكت وضحك الجمهور، وانتهت الليلة بسلام.

ولكننى بعد بضعة أيام أحسست بظهور ورم بسيط فى عنقى، يكبر ويكبر حتى سار كالليمونه وكان لا يؤلمنى، إلا أنه شوه عنقى، مما أحزننى جدا، وعرضت نفسى على كبار الأطباء، فأشاروا لى بإجراء عملية.

ولكننى كنت أخشى العمليات وأخافها،علاوة على أن أثر العملية ستبقى واضحة فى رقبتى مدى الحياة، ولما صارحت الأطباء بمخاوفى هذه قالوا لى: يا ستى ابقى غطى رقبتك بالكردان الألماس!


ولكننى رفضت ولما طال ترددى، وبقى الورم على ما هو عليه، ورآنى بعض الرجال الصالحين، من يقال عنهم إنهم ماشيين بالبركة، فنصحونى أن أزور أولياء الله، وأنذر له نذوراً، واطعم المساكين، فيذهب ما بى ولم أتردد فى تنفيذ هذه النصيحة، وبدأت بزيارة أضرحة الأولياء وتوزيع الفول والخبز وشد ما كانت دهشتى منه انصراف الورم تدريجيا.


وبعد هذا الحادث صرت أحسب للحسد ألف حساب وأخشى عين الحسود، ومع ذلك وقعت فى حادث آخر، كنت أعامل محلات البون مارشيه وذهبت مع مدير المحل يشرف على خدمتى، وجاء رجل فقدمه لى على أن من أصحاب المحل،وكان يرانى لأول مرة فلما قال له المدير: « منيرة المهدية.


صاح وهو يحدق بنظرة فى عينى: يا سلام دى عينيها حلوة قوى!وعدت إلى البيت، وإذا بخادمتى تضرب على صدرها بيدها وتصيح:
عينيك يا ست وارمه وحمرا، ولم يفلح معى علاج، ومره ثانية لجأت للشيخ صالح قال لى:


لازم تروحى للرجل اللى حسدك وتشربى معاه قهوة وتتبخرى بقهوة فنجانه 3 أيام. واتصلت بالرجل لاستشيره فى شراء ملابس من الخارج، وهذه حجة بالطبع وجاء وشرب القهوة وتبخرت بتئبه فنجانه ثلاثة أيام، ومن العجيب أنى شفيت ومن يومها وأنا أقوم بهذه العملية كلما أصابنى شر عين الحسود. 


>2
وكنت وأنا مازلت صغيرة لا أفقه القيمة الفنية لقصائد الشيخ سلامة،التى يغنيها فى مسرحياته..وكل ما كنت أفهمه منها هو تأثيرها الذى أراه فى عيون السامعين من شده تأثرهم، فى حين كنت أراهم يفرفشون ويضحكون وأنا أغنيهم الطقاطيق والأغانى الشعبية فى صالتى وكنت أسأل نفسى: ليه الناس بتملأ مسرح الشيخ وتقصد تسمع قصائده ما دامت بتخليهم يعيطوا ويحزنوا !!


 ولو كنت أشعر وقتذاك بلهيب الحب والنار العاطفة فى الصدر،لما حدثت نفسى هكذا، ولكنى كنت صبيه بريئة، تؤلمنى رؤيه الدموع، ولذلك عز على أن أهجر التخت إلى المسرح وقصائده ومأسية، ولما رأى «سامى الشوا» هذا الإصرار، أراد أن يعوضنى عن التخت والطقاطيق والمواويل بشكل يرضينى.


كانت شركه بيضافون قد بدأت عملها الكبير فى ذلك الحين،وبدأ الناس يقبلون على اسطواناتها التى ملأها للشيخ «سلامة حجازي»، و»عبد الحى حلمى، وغيرهما من كبار المطربين، ولم يلبس «سامى الشوا» أن جاءنى ذات يوم مع مدير شركه بيضافون يعرضان على أن أسجل طقاطيق، وأدوارى، على اسطوانات الشركة، وكان العرض كبيراً ومجزياً وبدأت املأ الإسطوانات... وطيلة معاملتى لهذه الشركة لم أوقع عقد اتفاق بل كان تعاملى معهم بكلمة الشرف وحدها، وهكذا بطلت حجتى فى حرمانى من غناء الطقاطيق والأغانى.

الشعبية.وعوضتنى الأسطوانات عن التخت والصالة، ومن ثم بدأ الصحفيون من جديد بزعامة «أنطوان فرح» يلحون على تطليق التخت إلى المسرح حيث أمثل وأغنى فى نفس الوقت وأخيرا...قبلت.


مع روز وعزيز
وكنت قد تزوجت من «الأستاذ محمود جبر»، فوجدت فيه مديرا لشئونى الخاصة وشؤون عملى وسرعان ما ألفت فرقة تمثيلية كبيرة،تضم بعض كبار الممثلين الموجود بعضهم إلى الآن للعمل ما بين مسرح «برنتانيا».

ومسرح «الكورسال»، واخترت ضمن أفراد الفرقه «عزيز عيد»، ليدرب الممثلين ويخرج المسرحيات. واختار عزيز المرحومة «روز اليوسف»، لتمثل معه فصل كوميدى، فكنت أنا وفرقتى نمثل فصولا من روايات «الشيخ سلامة»، ويعقبنا «عزيز وروز»، بفصل كوميدى وبدأنا بمسرحية قصيرة اشتهرت جدا وقتها اسمها هو «يا ست ما تمشيش كده عريانة».


وأذكر أول عهدى بالمسرح عندما كنا نستعد لإخراج مسرحياتنا استعدادا كبيرا، واتفقنا على صنع الملابس عند أخصائى إيطالى مشهور اسمه «كارينى» مبلغا كبيرا، كما عهدنا بصنع المناظر مع مسيو «لوريه الفرنسى»، الذى كان يجهز مناظر الأوبرا.


وعندما طلبوا منى أداء البروفة النهائية لدورى، وكان دور «وليم»، فى مسرحية «شهداء الغرام «، طلبوا إلى أن أرتدى ملابس «وليم « هذا، كى اؤدى البروفة النهائية على الوجه الأكمل، فما أن رأيت هذه الملابس حتى خرجت لزوجى باكية فسألنى منزعجا: ماذا بك؟


فقلت:
أنا مش حاشتغل على المسرح
 فقال لى:
إيه جرى ايه؟ فقلت غاضبة:
عاوزين يلبسونى بنطلون أبيض يبين رجلي! وكنت أرى أن شابة صغيرة فى مثل سنى، لا ينبغى أن تظهر أمام الناس إلا فى ملابس فضفاضة وحشمة كاملة، وكنت أعتبر لبس البنطلون من الكبائر.

وأخذ زوجى وباقى أفراد الفرقة يحاولون إقناعى بإنه ليس فى ارتداء البنطلون الطويل الملتصق بالجسم أى عيب فى التمثيل، ولكنى أصريت على موقفى وقلت لهم: مادام لازم ألبس ملابس الرجال يبقى ألبس جبه وقفطان وعمة.


وضحكوا ولم أنزل على رأيهم إلا بعد أن أهدانى زوجى عروسة كبيرة غالية وزينها بأساور وخواتم من ذهب.وهكذا انتهت الأزمة وجاء يوم الافتتاح .


الفنان النبيل
وما أن جاءت الساعة الثامنة مساء حتى كان شباك التذاكر قد أغلق اذ أصبحت صالة مسرح «برنتانيا»، ملأى بعلية القوم، وقد انتهز مدير المسرح فرصه هذا الإقبال الشديد وأخذ يزيد من ثمن التذاكر حتى بيعت نصف تذاكر الصالة تقريبا بسعر التذكرة الواحدة أربعة جنيهات. 


ووضعت رجلى على مسرح «برنتانيا القديم» لأول مرة... ووقفت ثابتة القدم وازداد اقبال الناس فى الليالى التالية والفنانة الصغيرة «منيره المهدية»، تنافس الشيخ «سلامة حجازى»، سيد عصره فى أدواره التى برع فيها.

وقد راق النظارة ما شاهدوا من فرقتى من أداء وتمثيل وغناء، ولم نكن تعمل كل ليالى الأسبوع، بل ثلاث ليال أو أربع ليال فقط كل أسبوع. ووصل خبر نجاحى إلى الشيخ سلامه حجازى.

وكان يعمل على مسرح « الكوزموجراف»، فكان ينتظر فرصة خلوة ليحضر لمشاهدتى، وبدلا من أن تقض الغيرة مضجعه، وتأكل فيه، كان هذا الفنان النبيل حقا يقدم لى باقات الزهور، ويرشدنى بإخلاص إلى مايتراءى له فى تمثيلى، أو غنائى من أغلاط، ويشجعنى على المضى فى طريقى.


حديقه حيوان 
ولا أدرى كيف انسقت إلى هذه الهواية العجيبة هواية اقتناء الحيوانات.أنشأت حديقة صغيرة فى منزلى، حيث كنت أقطن فيلا فى مصر الجديدة، ذات حديقة واسعة غَناء، وشغفت بتربية الحيوانات حتى لم أدع واحدا منها، وحاولت التأليف بين قلوبهم جميعا على اختلافها، فنجحت فى ذلك فكانت حديقتى تحوى عدداً من الكلاب «الأرمنت»، و«البولدج» و«الشيان»، وعدداً من القطط الرومى والبلدى، وأسداً صغيراً، وآخر كبير، وما لا يحصى من دجاج وبط وأوز، وجميع أنواع الطيور، ببغاوات والعصافير الملونة.


وكنت أحب هذه الحيوانات جميعا، كما كانت تبادلنى هذا الحب وكنت أثمنها جميعا.وبلغى شغفى بها مبالغاً جعلنى أخصص لهم أكثر من ثلاثة خدم، وابنى لها البيوت الصغيرة فى الحديقة وأرتب لها طبيبا بيطريا يزورها كل خمسة عشر يوما فى الأحوال العادية فكانت تكلفنى العناية بها على هذا النحو أكثر من 150  جنيهاً شهرياً. وكان أغرب حيوان ألفت بينه وبين أخوته، هو العرسة، وكانت عرسة كبيرة لطيفة وما زلت بها حتى ألفت بينها وبين أعدائها القط، والكلب، والدجاج.


ومن الغريب أنها كانت على شىء كبير من الذكاء، فلما ألفت الحيوانات معها، كانت تداعب أحد الكلاب البولدوج واختصته بحبها، فكانت إذا رأتنى أرادت أن تظهر لى اطمئنانها،فتجرى إلى الكلب تركب ظهره وهو يلهو معها، ثم لا يبث أن ينقلب على ظهره.

فتمرح فوق بطنه لتداعبه لتجرى منه وهكذا.وكانت هذه «العرسه» العزيزه من الذكاء أيضا، بحيث أنها كانت تسمع صوتى فى البيت فتهرع إلى زاحفة، ثم تعلو كتفى وتعدى فمها على وجهى، كأنها تشمنى.

ولكثرة اعتزازى بها اشتريت لها طوقا ذهبيا، ألبستها إياه حول عنقها، وكأنما طمع فيها بعض ذوى النيات السيئة، فاختفت هذه «العرسة»، من البيت ذات يوم، ما سبب لى ألما وحزنا عليها، فلما أعلنت انى أريد» العرسة»، بدون الطوق عادت «العرسة»، فى اليوم التالى، وما أن رأتنى حتى أسرعت إلى تقبلنى وبقيت فى البيت أياماً بجوارها.. وكأنها عادت لتذهب إلى غير رجعة فقد سرقت ثانية ولم يظهر لها أى أثر.


الحسد تانى 
ومرضت فجأة من كثرة العمل واعتكفت فى البيت ثلاثة أيام، ثم عدت بعد أن شفيت إلى المسرح وهناك هرع الى أفراد الفرقة من الممثلين والممثلات ورجال الموسيقيين يهنئونى بالسلامة، ثم فاجأنى رئيس الاوركسترا بقوله: يا ست منيرة...هو ده وش عيانين؟


فضحكنا وانصرفت إلى العمل ولم أشعر وأنا واقفة على خشبة المسرح إلا وقد حارت قواى وسقطت على الأرض، ولما أفقت اسرعت بتقديم فنجان قهوة لرئيس الأوركسترا، كى اتبخر «بالتنوة «، متذكرة نصيحه الشيخ الصالح، ولكن شر الحسد كان مازال متربصا بى، فقد حدث ونحن نقوم بتمثيل اوبريت «كارمن» المشهورة صعد الى غرفتى فى الإنتراكت، جماعة من السياح الأجانب يهنئوننى على نجاحى فى التمثيل والغناء والرقص، وقالوا أنهم جاءوا يسألونى هل أنا مصرية أو أجنبية؟!


فقلت لهم: بل أنا مصرية
 فقالوا لى:
لقد تراهن بعضنا على أنك أفرنجية لأنك أجدت الرقصة الإسبانية التى يلتزمها دورك إجادة تامة، وتراهن البعض الآخر على أنك مصرية وربح الذين قالوا أنا مصرية، ولكنى أنا لم أسلم من شر هذا الرهان فأثناء خروجى من المسرح بعد انتهاء الرواية زلت قدمى والتوت واضطررت إلى الانقطاع عن العمل أيام طويلة

>3
توبت عن هواية اقتناء الحيوانات بعد سلسله مآسى أحاقت بى بسببها فقد تاقت نفسى ذات يوم إلى شراء فهد لطيف، وما أن أعلنت عن رغبتى حتى أهدانى أحد الأصدقاء فهداً رضيعاً لكى أتمكن من تربيته واستئناسه بسهولة.

وكان الفهد بحجم قط كبير جميل الشكل تبدو عليه وداعة الأطفال، ومن ثم عنيت به بنفسى، وكنت أرضعه لبنا معقماً فى البزازة، كما يرضع الأطفال تماماً، ومن العجيب أنه برغم ضآلة حجمه بالنسبة للكلاب الكبيرة التى تسكن حديقه دارى، فإن هذه الكلاب كانت تشم رائحة الفهد فى الحديقة حتى كانت تسكت عن الصياح وتسلك إلى بيوتها طريقا طويلاً من خارج السور لئلا تكون فى طريق الفهد.


وكم حزنت عندما ضعفت صحة الفهد المسكين برغم الجهود الطبية ولم يلبس أن مات بعد شهرين.


الثعبان السام
وفى ذلك الحين كان عندى بواب نوبى يدعى عمر وكان يكره الحيوانات ويبتعد عنها حتى الكلاب لا يألفها، وفى ذات مرة أخذ أحد الكلاب البولدوج يداعبه، فضرب الكلب ضربة، كسرت له ذراعه، فما كان من الكلب إلا أن هجم عليه ونهش لحمه ولولا إسراعى بإنقاذه لما تركه حيا.


وذهب عم عمر إلى المستشفى وشوفى تمامًا بعد ثلاثة أشهر.
وكنت قد أبديت رغبتى فى ذلك الحين لأشترى أسداً فأرسل لى أحد الأمراء أسداً كبيراً عن طريق حديقةٍ الحيوانات، وما هى إلا بضع دقائق حتى رأيت عم عمر البواب وقد حمل حقيبته، وسرة ملابسه مسرعا إلى الباب فلم اتمالك من الضحك وناديته:


عم عمر واخد عزالك ورايح على فين؟
فقال وهو يسرع الخطى:
الكلب يا ست كان هياكلنى، السبع ده لازم يخلص على خالص ولم يكد يتم كلامه حتى رأيت ثلاثة من الخدم يتحولون إلى الخارج معلنين الإضراب عن العمل على وجودههم مع هذا الأسد.

وهكذا اشتعلت الثورة فى البيت فلم استطيع إخمادها والإبقاء على خدمى الأمناء إلا بعد أن اتصلت تليفونيا بحديقة الحيوانات وطلبت منها أن ترسل من ياخذ الأسد كما حضرته، ومن أغرب ما كنت أقتنيه من أنواع الحيوانات ثعبان كبير، وكنت قد تعودت مداعبته ولا أخشى أن أمسكه بيدى، وإذا ما حل الليل آوى إلى كشك زجاجى صغير مغلق.

وكان موجوداً فى غرفه نومى، وكانت أرضية هذا الكشك من الخشب وعليها طبقه من الرمل، واعتدت كل يوم فى الصباح أن أقوم وأفتح للثعبان وأداعبه قليلاً، ثم يعود إلى بيته، وذات ليلة رأيت حلماً، رأيت أن الثعبان قد خرج من بيته، فلدغنى.

ولما استيقظت وقد أدخل الحلم الخوف على نفسى، قمت فورا أتفقد الثعبان، وكان ملفوفاً فوق بعضه كالكعكة فاذا بزجاج الكشك قد تصدع ولما فتحت لإخراجه بحظر كان فاتحاً فمه ويريد أن ينهش يدى، فأسرعت بإغلاق الباب عليه ثانية، ثم استدعيت من أخذه إلى حديقة الحيوان. وبالكشف على الثعبان وجد أنه أصبح ساما جدا، وقالوا إنه لو بقى ثلاثة أيام أخرى لحطم عشه وهاج فى البيت.


وحمدت الله على أن نجانى منه بالرؤيا التى كانت بمثابة تحذير فأما مجموعه الحيوانات الأخرى فقد خلصنى الله منها تباعا فلم احتفظ بشىء سوى بعض القطط الرومى والوز والبط والدجاج. تعال............ بالعجل!


وفى ذلك الحين اشتهر لى (دور أسمر ملك روحى)،  (يا حبيبى تعال بالعجل) وبيعت من اسطوانته عشرات الآلاف، وكنت كلما سافرت إلى الخارج سمعتها فى بيوت وملاهٍ كثيرة، وعلى الأخص فى باريس.

ومازال هذا الدور يطرب كل من يسمعه، أن غناء هذه الأيام ليس فيه أى طرب، أن للتطريب قواعد وأصولاً، ولا تتفق وعصر السرعة التى نعيش فيها الآن، أن محطة الإذاعة تمنح المطرب نصف ساعة على الأكثر ليلقى قصيدة كاملة، فى حين أن هذا الوقت كان لا يكفى أيامنا لضبط آلات التخت وسلطنة النغمة فى دماغ المطرب. ولقد تغنيت «أسمر ملك روحى»، أمام الخديوى «عباس الثاني»، فغمرنى بعطاياه، وقال لى لو كنت راجل لما ترددت فى الإنعام عليك برتبة الباشوات، فقلت له:


أنا مستعد استرجل فضحك، وقال:
برضه ما ينفعش وغنيت أمام رئيس جمهورية تركيا مصطفى كمال ولما رددت المقطع «تعال تعال بالعجل»، وأطلت فى ترديد كلمة تعالى، قال لى «مصطفى كمال»: وأنى لأعجب من هذا الحبيب البارد كيف يسمع من فمك هذا النداء ولا يهب للقائك حتى ولو كان ميتاً. 


وسمعنى «سلطان بك»، وكان قد دعانى لزيارته فما لبث أن أمر باقتيادى إلى جناح الحريم، حيث ضرب على الحراسة الدقيقة، ثم جاء يخبرنى بأنه قرر أن أبقى حتى يجىء ذلك الحبيب الأسمر الذى ملك روحى فيزوجنى له، وأيقنت أننى لن اتخلص من هذا الأسمر إلا بالحيلة، فأوهمته أننى أرحب بإقامتى فى قصره، وأستأذنته لأودع أفراد تختى، فلما أذن لى انفلت هاربة.


ولم أصدق بالنجاة حتى خرجت من حدود بلاده، وغنيت هذا الدور أمام «باى تونس» وقتها فقال لى:
إنى حين سمعتك تهتفين بالحبيب قائلة ( تعالى.. تعالى.. ) خيل لى أنه يشق أجواز الفضاء على أجنحه الأثير، ليلقى بنفسه تحت قدميك.


بديع خيرى
وتتابع تقديمى للأوبريتات الناجحة، وكنت أنفق عليها بسخاء مثل: «المظلومة»، «حرم المفتش»، «كارمن»، «تايس»، «ضحية الغواية»، «الغندورة»، «نوسكا»، «الأرملة الطروب»، «كلها يومين».. وغيرها كثير.. وكان يعاوننى من المؤلفين بديع خيرى ويونس القاضى وفرح أنطون والملحنون كامل الخلعى ومحمد القصبجى وداود حسنى، وأخرج مسرحياتى أولا عزيز ثم بعده عبد العزيز خليل.


ووصلت إلى قمة المجد الفنى، وكان مسرحى يغض كل ليلة بالناس، جمهور من باشوات ذلك العهد، وكنت محبوبة من كل أعضاء فرقتى الذين يعملون معى، اذ كنت أبدى نحوهم العطف والمودة.

وكانوا يتفانون فى عملهم معى فتخرج كل المسرحيات تثير إعجاب الجميع ومع ذلك كان خوفى من الحسد يثير مشاكل ومضايقات فى بعض الأحيان.


كنت أؤمن بالحسد، وأفسر أى وعكة خفيفة بأنها عين خفيفة أصابتنى، إذا كانت الوعكة ثقيلة فالعين ثقيلة وكنت ذات ليلة أؤدى دورى فى مسرحية قمر الزمان... وكنت أصل فى هذا الدور للذروة فتلتهب الأكف بالتصفيق ويسدل الستار ويتدافع الباشوات والأعيان إلى حجرتى، يقدمون لى التهانى وباقات الورد، وأسدلت الستار على الفصل الأول فى تلك الليلة وخرجت على عجله من وراء الكواليس فرأيت الاستاذ محمد مصطفى وهو من الممثلين الفنانين فى الفرقة فقال لى على الفور:


يا سلام يا ست ده أنتِ مجننة العالم!!
وشكرته ومضيت فى طريقى إلى حجرتى مسرعة وإذا بقدمى تصطدم بشيء على الأرض، فاختل توازنى ووقعت وكانت وقعة قوية واصبت بسببها فى ركبتى إصابة بالغة، وسارع الزملاء يحملونى إلى حجرتى وأنا أقول: 


هو.. ديت عنيه بالبرهان. عمره ما يبص لى إلا وجرت لى حاجة.. اندهوا لى محمد مصطفى واستدعوا لى محمد مصطفى قلت له:أنا مش عاوزاك فى فرقتى.


وحاول أن يعرف السبب ولكنه لم يستطع لأننى كنت قاسية، فضلت أردد: أنا مش عاوزاك.
 وكان الاستاذ بديع خيرى فى ذلك الوقت على خلاف مع صديقه المرحوم نجيب الريحانى فاستدعيته إلى فرقتى ليؤلف لى بعض المسرحيات، وذهب محمد مصطفى حزيناً إلى بديع خيرى، وروى له ما حدث ووجد بديع، أننى لم أكن على حق وجاء إلى حجرتى فوجدنى غادرتها، لأن الستار قد رفع عن الفصل الثانى ورآنى وأنا أؤدى دورى وأنا أسير على خطوات قصيرة حتى لا يلاحظ المتفرجون أننى مصابة بشىء .


وعندما أسدل الستار جاءنى بديع ليقنعنى بخرافة عين الحسود وقال لي:
إن أفكارك عن العين والحسود ستقطع عيش فنان ناجح بريء لم يرتكب ذنباً. 
ورق قلبى وتظاهرت بالاقتناع وقررت أن أعفو عن «محمد مصطفى»، على أن يغمض عينيه قليلاً ويترك الناس فى حالهم.
وكانت الرواية الأولى التى ألفها لفرقتى بديع خيرى هى «الغندورة» وقد لاقت إقبالاً لا مثيل له وظلت الفرقة تقدمها خلال ثلاثة أشهر كاملة وبصفة مستمرة. وأجمع النقاد على أنها من أعظم ما قدمت منذ ظهرت على المسرح وبناء على كل هذا قلت لبديع إننى سأقيم حفل تكريم له.


وفى ليلة الحفلة جلس بديع بجوارى ورحت أطربه بكلام صادر من قلبى وقلت له: 
الحقيقة يا أستاذ بديع إنك أنت والأستاذ فرح انطوان أحسن اثنين كتاب مسيحيين فى البلد!
وكانت مفاجأة لبديع أن أقول له هذه العبارة كما بدا على وجهه، وكنت أعتقد أنه مسيحى، فقال لى مصححاً الوضع:


- بس أنا مسلم يا ست.
وبانت الدهشة على وجهى ورحت أروى الالتباس الذى حدث لكل المدعوين ثم قلت لبديع: 
إن هذا لم يغير من الوضع شيئا.. لعله ادعى أن يعرف زملاءنا الأقباط إننا نعزهم ونكن لهم الحب.

>4
فى هذا العهد الذى ظهر فيه مسرحى، عرفت الكثير من رجال مصر الذين كانوا يترددون على مسرحى كل ليلة، وكان المرحوم «حسين رشدى» باشا، أحد رؤساء الوزراء السابقين يحرص على الحضور كل ليلة إلى مسرحى لينسى همومه السياسية على حد تعبيره.


وكان حسين رشدى يتولى رئاسة الوزارة فى فترة عصيبة من تاريخ مصر، حيث كانت الحرب العالمية الأولى مشتعلة وحين كانت الأطماع الاستعمارية تحيط بمصر من كل جانب كان حسين يحضر إلى دارى بمصر الجديدة مع أعضاء وزارته.


‏ وأذكر ذات مرة أنه كان مع بعض أصدقائه يتناولون العشاء عندى وكان فى تلك الليلة مرحاً ويوزع نكاته، وابتساماته على جميع الموجودين وأثناء السهرة استدعى إلى التليفون ليتلقى مكالمة مهمة، فلم يكاد ينتهى حتى بادر يتصل بجميع الوزراء ويدعوهم إلى جلسة مستعجلة فى دارى.


‏ وبعد لحظات كانوا يجتمعون فى الحجرة التى اعتادوا الاجتماع فيها عندى، واستمر الاجتماع فترة غير قصيرة، ولما انتهى عاد حسين رشدى ليستأنف المرح والسهر وهو يستمع لغنائى فى طرب ونشوة.


 وفى اليوم التانى علمت أن الاجتماع الذى عقده حسين رشدى باشا مع وزرائه ليلة أمس كان خطيراً جداً لأنه كان خاصاً بإعداد رد على إنذار إنجليزى بخصوص الخديو السابق عباس حلمى الذى كان قد هرب إلى تركيا منذ نشوب الحرب العالمية الأولى.


وعرفت أيضا المرحوم إبراهيم فتحى باشا وهو من الوزراء السابقين المعدودين وحدث أن تولى وزارة الحربية وسافر إلى أسيوط ليتفقد بعض وحدات الجيش ولما وصل الى أسيوط فى قطار الصباح كان فى استقباله بعض الضباط والموظفين الرسميين الذين ذهبوا بحكم وظائفهم إلى محطة استقبال الوزير.


وتصادف أن سافرت أنا فى نفس اليوم إلى أسيوط لأشترك فى إحياء حفل زفاف.
ولما وصلت فى المساء إلى هناك كان فى المحطة شاب من بناء المديرية ويعض كبار الموظفين والشخصيات المعروفة هناك وقد جاءوا جميعاً لاستقبالى فى مظاهرة ضخمة وعند وصول القطار كان إبراهيم فتحى باشا يمر بجوار المحطة وسمع الضجة والهتافات فنزل من عربته ودخل المحطة واستطاع بعد جهداً عنيفاً أن يشق طريقه وسط الزحام ليصعد إلى عربة القطار لتحيتى ولما رآنى ابتسم وقال لى: بقى أنا وزير حربية قد الدنيا جيت أسيوط ووجدت فى استقبالى شوية ضباط وموظفين وانتِ يستقبلك البلد كلها؟


ومن العظماء الذين عرفتهم أيضاً المرحوم عبدالخالق ثروت باشا، وفى اعتقادى أن سر عظمته كان يرجع إلى ثقافته الواسعة، فكثيرا ما جاء إلى دارى مع غيره من عظماء مصر وقتها وكانوا يجتمعون فى ندوة يتبادلون فيها الرأى حول الشئون السياسية والأدبية والعلمية، وكان هو يتصدر المكان، ويدير المناقشة ويتحدث فى كل الموضوعات حديث الخبير العالم وكانت له شخصية فذه تسيطر على كل من يلتقى به حتى فى الأيام التى كان فيها شخصاً عادياً بلا نفوذ ولا سلطان.


 وكان «ثروت باشا يحب الأغانى التركية وموسيقاها بل إن حبه للموسيقى التركية لم يكن يعادله إلا حبه للأغانى المصرية التى كان يسمعها منى  طلبات العامل.
والمرحوم محمد سعيد باشا واحد من رؤساء الوزراء السابقين الذين عرفتهم وكان يصطحب حسين رشدى باشا كل ليلة إلى مسرحى ويحرص على أن يحضر إلى غرفتى بالمسرح، يقدم لى تهانيه كل ليلة، وكان يقف بين ممثلى فرقتى وعمال المسرح يبادلهم الحديث ببساطة وديمقراطية حقة، حتى انتهى من خلع ملابس التمثيل وارتدى ملابسى وأخرج لاستقباله.


وحدث مرة أن كان لأحد عمال فرقتى مسألة فى أحد المصانع وطلب منى أن أتوسط له عند محمد سعيد باشا رئيس الوزراء لإنهاء هذه المسألة فأعطيته بطاقتى وعليها كلمة توصية، وذهب العامل إلى رئاسة الوزراء وقدم البطاقة إلى السكرتير الخاص للرئيس، وبعد لحظات خرج سعيد باشا، بنفسه يستقبل عامل فرقتى عند باب مكتبه، وبعد أن دعاه ليشرب القهوة وقام بنفسه وطاف معه بين حجرات الديوان لإنهاء مسألته، وكان الموظفون فى دهشة واستغراب من منظر رئيس الوزراء الذى يتأبط ذراع عامل بسيط متواضع ويطلب من الموظفين أن يسرعوا بإنجاز طلباته.


مظاهرات المسرح 
وكان «سعد زغلول» واحداً من العظماء الذين أحبوا غنائى وفنى وأستطيع اليوم أن أزيح الستار عن حقيقة لم يعرفها الكثيرون عن سعد زغلول، فقد كان رحمة الله عليه يتمتع بصوت جميل ويحلو له أن يترنم بأغانى وكان يحضر إلى مرحى متخفياً هرباً من المظاهرات الشعبية، التى كانت تستقبله فى كل مكان.

وقد حدث فى أحد الليالى أن جاء إلى مسرحى وعرفه الناس، وبعد برهة كان المسرح ميداناً لمظاهرة شعبية اشترك فيها الممثلون مع الجمهور، وكانت الوزارة القائمة فى ذلك الوقت من الوزارات المعادية لسعد زغلول فلما علم رجال الأمن بهذه المظاهرة أسرعت قوات البوليس وضربت حصاراً حول المسرح حتى انصرافوا بعد أن كلمهم سعد زغلول بنفسه، ولما عاد سعد زغلول من أوروبا بعد الرحلة الأولى التى أعلن فيها مطالب الأمة، خرج الشعب يستقبله استقبالا رائعا، وفى تلك المناسبة قدمت مسرحية «كلها يومين»، وهى مسرحية وطنية مثلت فيها شخصية مصر، وكان الستار يرفع عن منظر نار مشتعلة بقربى وأنا أنادى عربة إطفاء الحريق وعندما تحضر العربة أشير لها بالوقوف قائلة: 


هنا واربط -- وهنا استوب وأطلع على فوق هات السلم أهجم على النار، جمد قلبك، اوعى الخرطوم ليروح منك حياتك لأجل إخوانك النار النار أحسن من العار، وكلمة الخرطوم هنا مقصود مدينة الخرطوم عاصمة السودان، وقد صادفت هذه الرواية إقبالاً رائعاً، وشاهدها سعد زغلول عدة مرات وكان فى كل مرة يهنينى بحرارة ويقول – هذه مسرحية وطنية وجديرة بأن يراها جميع المصريين.


 ومن بين أناشيد هذه المسرحية أنشودة فى وحدة عنصرى الأمة، وكانت تخرج الجمهور من عندى فى مظاهرة وطنية رائعة حاشدة كنت أقول فيها:
نام يا خوفو استريح فى أمان.


 واتحدنا والعذاب شفناه وهان 
مين حينسى الدرس ده طول الزمان 
يا عظيم المجد يا بانى الهرم 
المسيحيين والمسلمين فى خدمتك كلهم متطوعين
واتحادهم اتحاد لكن متين
بكرة نصبح أرقى الامم
كان على عينينا غشاوة كم سنة 
لما زالت شفنا نور عصر الهنا 
واللى أمناه ده خان عهدنا 
استبد بينا وفى مالنا حكم 
عبد الوهاب وصالح 
واشتغل «محمد عبد الوهاب» عندى ملحناً أول الأمر وأكمل ألحان رواية «كليو باترا»، وكان «عبد العزيز خليل»، يمثل «مارك انطوان»، لأنه كان دوراً غير غنائى، والجمهور لا يهمه سوى سماع صوتى أنا وحدى أن فكرى أباظة قال لى مرة الناس عاوزين يسمعوك وخلاص أنتِ فاكره إنهم عايزين يشوفوا تمثيل.
وعرض على عبد الوهاب أن يغنى أمامى على سبيل التجربة، وقال لى إنه سيضع الألحان بمقياس صوتى وصوته، ووافقت بعد إلحاح شديد منه، ووساطات متعددة، وفعلاً غنى أمامى ومثل دور «مارك أنطوان»، ونجح، فأغراه النجاح أن يطلب زيادة الماهية، وتصرف تصرفاً لا يليق بفنان، تخلف عن المجىء يوم البروفة الجنرال وكان باق على عرض الرواية يوماً واحداً فقط. 
فغضبت منه جداً، فى نفس الوقت الذى كنت فيه قد أعددت له مفاجاه هديه تساوى 150 جنيهاً، هدية ذهب وقتها، قمصان وكرافتات ومناديل من «البوم مارشية» دفعت فيها 30 جنيهاً واضطررت إلى الاستعانة بفتحية حمد، وجعلتها تمثل وتغنى «مارك انطوان « ولم يكشفها الناس ثم عرضت على «صالح عبد الحى»، أن يشتغل معى فرفض أولا وقال لى:
إزاى أشتغل قدامك على المسرح وأنا لما باسمعك بأرمى طربوشى على الأرض من فرط الطرب لا يا ست منيرة أنا أفضل أسمعك بس.
واستطعت إقناعه بعد جهد واشترط علىَّ أنه لا يكون مسئولاً إذا ما غلط على المسرح، فقبلت شرطه، وفى أول ليلة ونحن ملتحمون فى الغناء صاح قائلا آه، وانتهزت فرصة تصفيق الناس وسألته:
- جرى إيه يا صالح خليك فى دورك.
قال لى أنا اشترطت عليك من قبل وصوتك أطربنى، غصب عنى، واعملى بقى اللى تعمليه ارفضينى أو اخصمى من ماهيتى.
واعتزلت المسرح والغناء فى الوقت المناسب فى قمة مجدى – أطفات الأضواء حولى بيدى وتركت جمهورى يعيش إلى اليوم فى الحلم الجميل الذى كنت أنقله إليه بأغاننى. 
افترقنا أحباء عشاقاً كما عشنا دائماً، وعندما يحن هذا الجمهور إلىَّ يعود إلى مجموعة رسائلى إليه التى يحتفظ بها إلى اسطواناتى الكثيرة المسجلة.

حديقه حيوان 
ولا أدرى كيف انسقت إلى هذه الهواية العجيبة هواية اقتناء الحيوانات.
أنشأت حديقة صغيرة فى منزلى، حيث كنت أقطن فيلا فى مصر الجديدة، ذات حديقة واسعة غَناء، وشغفت بتربية الحيوانات حتى لم أدع واحدا منها، وحاولت التأليف بين قلوبهم جميعا على اختلافها، فنجحت فى ذلك فكانت حديقتى تحوى عدداً من الكلاب «الأرمنت»، و«البولدج» و«الشيان»، وعدداً من القطط الرومى والبلدى، وأسداً صغيراً، وآخر كبير، وما لا يحصى من دجاج وبط وأوز، وجميع أنواع الطيور، ببغاوات والعصافير الملونة.


وكنت أحب هذه الحيوانات جميعا، كما كانت تبادلنى هذا الحب وكنت أثمنها جميعا.وبلغى شغفى بها مبالغاً جعلنى أخصص لهم أكثر من ثلاثة خدم، وابنى لها البيوت الصغيرة فى الحديقة وأرتب لها طبيبا بيطريا يزورها كل خمسة عشر يوما فى الأحوال العادية فكانت تكلفنى العناية بها على هذا النحو أكثر من 150  جنيهاً شهرياً. وكان أغرب حيوان ألفت بينه وبين أخوته، هو العرسة، وكانت عرسة كبيرة لطيفة وما زلت بها حتى ألفت بينها وبين أعدائها القط، والكلب، والدجاج.


ومن الغريب أنها كانت على شىء كبير من الذكاء، فلما ألفت الحيوانات معها، كانت تداعب أحد الكلاب البولدوج واختصته بحبها، فكانت إذا رأتنى أرادت أن تظهر لى اطمئنانها، فتجرى إلى الكلب تركب ظهره وهو يلهو معها، ثم لا يبث أن ينقلب على ظهره، فتمرح فوق بطنه لتداعبه لتجرى منه وهكذا.وكانت هذه «العرسه» العزيزه من الذكاء أيضا، بحيث أنها كانت تسمع صوتى فى البيت فتهرع إلى زاحفة، ثم تعلو كتفى وتعدى فمها على وجهى، كأنها تشمنى.

ولكثرة اعتزازى بها اشتريت لها طوقا ذهبيا، ألبستها إياه حول عنقها، وكأنما طمع فيها بعض ذوى النيات السيئة، فاختفت هذه «العرسة»، من البيت ذات يوم، ما سبب لى ألما وحزنا عليها، فلما أعلنت انى أريد» العرسة»، بدون الطوق عادت «العرسة»، فى اليوم التالى، وما أن رأتنى حتى أسرعت إلى تقبلنى وبقيت فى البيت أياماً بجوارها.. وكأنها عادت لتذهب إلى غير رجعة فقد سرقت ثانية ولم يظهر لها أى أثر.


الحسد تانى 
ومرضت فجأة من كثرة العمل واعتكفت فى البيت ثلاثة أيام، ثم عدت بعد أن شفيت إلى المسرح وهناك هرع الى أفراد الفرقة من الممثلين والممثلات ورجال الموسيقيين يهنئونى بالسلامة، ثم فاجأنى رئيس الاوركسترا بقوله: يا ست منيرة...هو ده وش عيانين؟
فضحكنا وانصرفت إلى العمل ولم أشعر وأنا واقفة على خشبة المسرح إلا وقد حارت قواى وسقطت على الأرض، ولما أفقت اسرعت بتقديم فنجان قهوة لرئيس الأوركسترا، كى اتبخر «بالتنوة «، متذكرة نصيحه الشيخ الصالح، ولكن شر الحسد كان مازال متربصا بى، فقد حدث ونحن نقوم بتمثيل اوبريت «كارمن» المشهورة صعد الى غرفتى فى الإنتراكت، جماعة من السياح الأجانب يهنئوننى على نجاحى فى التمثيل والغناء والرقص، وقالوا أنهم جاءوا يسألونى هل أنا مصرية أو أجنبية؟!


فقلت لهم: بل أنا مصرية
 فقالوا لى:
لقد تراهن بعضنا على أنك أفرنجية لأنك أجدت الرقصة الإسبانية التى يلتزمها دورك إجادة تامة، وتراهن البعض الآخر على أنك مصرية وربح الذين قالوا أنا مصرية، ولكنى أنا لم أسلم من شر هذا الرهان فأثناء خروجى من المسرح بعد انتهاء الرواية زلت قدمى والتوت واضطررت إلى الانقطاع عن العمل أيام طويلة

>3
توبت عن هواية اقتناء الحيوانات بعد سلسله مآسى أحاقت بى بسببها فقد تاقت نفسى ذات يوم إلى شراء فهد لطيف، وما أن أعلنت عن رغبتى حتى أهدانى أحد الأصدقاء فهداً رضيعاً لكى أتمكن من تربيته واستئناسه بسهولة.

وكان الفهد بحجم قط كبير جميل الشكل تبدو عليه وداعة الأطفال، ومن ثم عنيت به بنفسى، وكنت أرضعه لبنا معقماً فى البزازة، كما يرضع الأطفال تماماً، ومن العجيب أنه برغم ضآلة حجمه بالنسبة للكلاب الكبيرة التى تسكن حديقه دارى، فإن هذه الكلاب كانت تشم رائحة الفهد فى الحديقة حتى كانت تسكت عن الصياح وتسلك إلى بيوتها طريقا طويلاً من خارج السور لئلا تكون فى طريق الفهد.


وكم حزنت عندما ضعفت صحة الفهد المسكين برغم الجهود الطبية ولم يلبس أن مات بعد شهرين.


الثعبان السام
وفى ذلك الحين كان عندى بواب نوبى يدعى عمر وكان يكره الحيوانات ويبتعد عنها حتى الكلاب لا يألفها، وفى ذات مرة أخذ أحد الكلاب البولدوج يداعبه، فضرب الكلب ضربة، كسرت له ذراعه، فما كان من الكلب إلا أن هجم عليه ونهش لحمه ولولا إسراعى بإنقاذه لما تركه حيا.


 وذهب عم عمر إلى المستشفى وشوفى تمامًا بعد ثلاثة أشهر.
وكنت قد أبديت رغبتى فى ذلك الحين لأشترى أسداً فأرسل لى أحد الأمراء أسداً كبيراً عن طريق حديقةٍ الحيوانات، وما هى إلا بضع دقائق حتى رأيت عم عمر البواب وقد حمل حقيبته، وسرة ملابسه مسرعا إلى الباب فلم اتمالك من الضحك وناديته:


عم عمر واخد عزالك ورايح على فين؟
فقال وهو يسرع الخطى:
الكلب يا ست كان هياكلنى، السبع ده لازم يخلص على خالص ولم يكد يتم كلامه حتى رأيت ثلاثة من الخدم يتحولون إلى الخارج معلنين الإضراب عن العمل على وجودههم مع هذا الأسد، وهكذا اشتعلت الثورة فى البيت فلم استطيع إخمادها والإبقاء على خدمى الأمناء إلا بعد أن اتصلت تليفونيا بحديقة الحيوانات.

وطلبت منها أن ترسل من ياخذ الأسد كما حضرته، ومن أغرب ما كنت أقتنيه من أنواع الحيوانات ثعبان كبير، وكنت قد تعودت مداعبته ولا أخشى أن أمسكه بيدى، وإذا ما حل الليل آوى إلى كشك زجاجى صغير مغلق وكان موجوداً فى غرفه نومى.

وكانت أرضية هذا الكشك من الخشب وعليها طبقه من الرمل، واعتدت كل يوم فى الصباح أن أقوم وأفتح للثعبان وأداعبه قليلاً، ثم يعود إلى بيته، وذات ليلة رأيت حلماً، رأيت أن الثعبان قد خرج من بيته، فلدغنى.

ولما استيقظت وقد أدخل الحلم الخوف على نفسى، قمت فورا أتفقد الثعبان، وكان ملفوفاً فوق بعضه كالكعكة فاذا بزجاج الكشك قد تصدع ولما فتحت لإخراجه بحظر كان فاتحاً فمه ويريد أن ينهش يدى، فأسرعت بإغلاق الباب عليه ثانية، ثم استدعيت من أخذه إلى حديقة الحيوان. وبالكشف على الثعبان وجد أنه أصبح ساما جدا، وقالوا إنه لو بقى ثلاثة أيام أخرى لحطم عشه وهاج فى البيت.


وحمدت الله على أن نجانى منه بالرؤيا التى كانت بمثابة تحذير فأما مجموعه الحيوانات الأخرى فقد خلصنى الله منها تباعا فلم احتفظ بشىء سوى بعض القطط الرومى والوز والبط والدجاج. تعال............ بالعجل!.


وفى ذلك الحين اشتهر لى (دور أسمر ملك روحى)،  (يا حبيبى تعال بالعجل) وبيعت من اسطوانته عشرات الآلاف، وكنت كلما سافرت إلى الخارج سمعتها فى بيوت وملاهٍ كثيرة، وعلى الأخص فى باريس.

ومازال هذا الدور يطرب كل من يسمعه، أن غناء هذه الأيام ليس فيه أى طرب، أن للتطريب قواعد وأصولاً، ولا تتفق وعصر السرعة التى نعيش فيها الآن، أن محطة الإذاعة تمنح المطرب نصف ساعة على الأكثر ليلقى قصيدة كاملة، فى حين أن هذا الوقت كان لا يكفى أيامنا لضبط آلات التخت وسلطنة النغمة فى دماغ المطرب.

ولقد تغنيت «أسمر ملك روحى»، أمام الخديوى «عباس الثاني»، فغمرنى بعطاياه، وقال لى لو كنت راجل لما ترددت فى الإنعام عليك برتبة الباشوات، فقلت له:


أنا مستعد استرجل فضحك، وقال:
برضه ما ينفعش وغنيت أمام رئيس جمهورية تركيا مصطفى كمال ولما رددت المقطع «تعال تعال بالعجل»، وأطلت فى ترديد كلمة تعالى، قال لى «مصطفى كمال»: وأنى لأعجب من هذا الحبيب البارد كيف يسمع من فمك هذا النداء ولا يهب للقائك حتى ولو كان ميتاً. 


وسمعنى «سلطان بك»، وكان قد دعانى لزيارته فما لبث أن أمر باقتيادى إلى جناح الحريم، حيث ضرب على الحراسة الدقيقة، ثم جاء يخبرنى بأنه قرر أن أبقى حتى يجىء ذلك الحبيب الأسمر الذى ملك روحى فيزوجنى له، وأيقنت أننى لن اتخلص من هذا الأسمر إلا بالحيلة، فأوهمته أننى أرحب بإقامتى فى قصره، وأستأذنته لأودع أفراد تختى، فلما أذن لى انفلت هاربة.


ولم أصدق بالنجاة حتى خرجت من حدود بلاده، وغنيت هذا الدور أمام «باى تونس» وقتها فقال لى:
إنى حين سمعتك تهتفين بالحبيب قائلة ( تعالى.. تعالى.. ) خيل لى أنه يشق أجواز الفضاء على أجنحه الأثير، ليلقى بنفسه تحت قدميك.

بديع خيرى
وتتابع تقديمى للأوبريتات الناجحة، وكنت أنفق عليها بسخاء مثل: «المظلومة»، «حرم المفتش»، «كارمن»، «تايس»، «ضحية الغواية»، «الغندورة»، «نوسكا»، «الأرملة الطروب»، «كلها يومين».. وغيرها كثير.. وكان يعاوننى من المؤلفين بديع خيرى ويونس القاضى وفرح أنطون والملحنون كامل الخلعى ومحمد القصبجى وداود حسنى، وأخرج مسرحياتى أولا عزيز ثم بعده عبد العزيز خليل.
ووصلت إلى قمة المجد الفنى، وكان مسرحى يغض كل ليلة بالناس، جمهور من باشوات ذلك العهد، وكنت محبوبة من كل أعضاء فرقتى الذين يعملون معى، اذ كنت أبدى نحوهم العطف والمودة. وكانوا يتفانون فى عملهم معى فتخرج كل المسرحيات تثير إعجاب الجميع ومع ذلك كان خوفى من الحسد يثير مشاكل ومضايقات فى بعض الأحيان.
كنت أؤمن بالحسد، وأفسر أى وعكة خفيفة بأنها عين خفيفة أصابتنى، إذا كانت الوعكة ثقيلة فالعين ثقيلة وكنت ذات ليلة أؤدى دورى فى مسرحية قمر الزمان... وكنت أصل فى هذا الدور للذروة فتلتهب الأكف بالتصفيق ويسدل الستار ويتدافع الباشوات والأعيان إلى حجرتى، يقدمون لى التهانى وباقات الورد، وأسدلت الستار على الفصل الأول فى تلك الليلة وخرجت على عجله من وراء الكواليس فرأيت الاستاذ محمد مصطفى وهو من الممثلين الفنانين فى الفرقة فقال لى على الفور:
يا سلام يا ست ده أنتِ مجننة العالم!!
وشكرته ومضيت فى طريقى إلى حجرتى مسرعة وإذا بقدمى تصطدم بشيء على الأرض، فاختل توازنى ووقعت وكانت وقعة .

فيها عندى، واستمر الاجتماع فترة غير قصيرة، ولما انتهى عاد حسين رشدى ليستأنف المرح والسهر وهو يستمع لغنائى فى طرب ونشوة
 وفى اليوم التانى علمت أن الاجتماع الذى عقده حسين رشدى باشا مع وزرائه ليلة أمس كان خطيراً جداً لأنه كان خاصاً بإعداد رد على إنذار إنجليزى بخصوص الخديو السابق عباس حلمى الذى كان قد هرب إلى تركيا منذ نشوب الحرب العالمية الأولى.
وعرفت أيضا المرحوم إبراهيم فتحى باشا وهو من الوزراء السابقين المعدودين وحدث أن تولى وزارة الحربية وسافر إلى أسيوط ليتفقد بعض وحدات الجيش ولما وصل الى أسيوط فى قطار الصباح كان فى استقباله بعض الضباط والموظفين الرسميين الذين ذهبوا بحكم وظائفهم إلى محطة استقبال الوزير.
وتصادف أن سافرت أنا فى نفس اليوم إلى أسيوط لأشترك فى إحياء حفل زفاف.


ولما وصلت فى المساء إلى هناك كان فى المحطة شاب من بناء المديرية ويعض كبار الموظفين والشخصيات المعروفة هناك وقد جاءوا جميعاً لاستقبالى فى مظاهرة ضخمة وعند وصول القطار كان إبراهيم فتحى باشا يمر بجوار المحطة وسمع الضجة والهتافات فنزل من عربته ودخل المحطة واستطاع بعد جهداً عنيفاً أن يشق طريقه وسط الزحام ليصعد إلى عربة القطار لتحيتى ولما رآنى ابتسم وقال لى: بقى أنا وزير حربية قد الدنيا جيت أسيوط ووجدت فى استقبالى شوية ضباط وموظفين وانتِ يستقبلك البلد كلها؟
ومن العظماء الذين عرفتهم أيضاً المرحوم عبدالخالق ثروت باشا، وفى اعتقادى أن سر عظمته كان يرجع إلى ثقافته الواسعة، فكثيرا ما جاء إلى دارى مع غيره من عظماء مصر وقتها وكانوا يجتمعون فى ندوة يتبادلون فيها الرأى حول الشئون السياسية والأدبية والعلمية، وكان هو يتصدر المكان، ويدير المناقشة ويتحدث فى كل الموضوعات حديث الخبير العالم وكانت له شخصية فذه تسيطر على كل من يلتقى به حتى فى الأيام التى كان فيها شخصاً عادياً بلا نفوذ ولا سلطان.
 وكان «ثروت باشا يحب الأغانى التركية وموسيقاها بل إن حبه للموسيقى التركية لم يكن يعادله إلا حبه للأغانى المصرية التى كان يسمعها منى  طلبات العامل.
والمرحوم محمد سعيد باشا واحد من رؤساء الوزراء السابقين الذين عرفتهم وكان يصطحب حسين رشدى باشا كل ليلة إلى مسرحى ويحرص على أن يحضر إلى غرفتى بالمسرح، يقدم لى تهانيه كل ليلة، وكان يقف بين ممثلى فرقتى وعمال المسرح يبادلهم الحديث ببساطة وديمقراطية حقة، حتى انتهى من خلع ملابس التمثيل وارتدى ملابسى وأخرج لاستقباله.
وحدث مرة أن كان لأحد عمال فرقتى مسألة فى أحد المصانع وطلب منى أن أتوسط له عند محمد سعيد باشا رئيس الوزراء لإنهاء هذه المسألة فأعطيته بطاقتى وعليها كلمة توصية، وذهب العامل إلى رئاسة الوزراء وقدم البطاقة إلى السكرتير الخاص للرئيس، وبعد لحظات خرج سعيد باشا، بنفسه يستقبل عامل فرقتى عند باب مكتبه، وبعد أن دعاه ليشرب القهوة وقام بنفسه وطاف معه بين حجرات الديوان لإنهاء مسألته، وكان الموظفون فى دهشة واستغراب من منظر رئيس الوزراء الذى يتأبط ذراع عامل بسيط متواضع ويطلب من الموظفين أن يسرعوا بإنجاز طلباته.
مظاهرات المسرح 
وكان «سعد زغلول» واحداً من العظماء الذين أحبوا غنائى وفنى وأستطيع اليوم أن أزيح الستار عن حقيقة لم يعرفها الكثيرون عن سعد زغلول، فقد كان رحمة الله عليه يتمتع بصوت جميل ويحلو له أن يترنم بأغانى وكان يحضر إلى مرحى متخفياً هرباً من المظاهرات الشعبية، التى كانت تستقبله فى كل مكان، وقد حدث فى أحد الليالى أن جاء إلى مسرحى وعرفه الناس، وبعد برهة كان المسرح ميداناً لمظاهرة شعبية اشترك فيها الممثلون مع الجمهور، وكانت الوزارة القائمة فى ذلك الوقت من الوزارات المعادية لسعد زغلول فلما علم رجال الأمن بهذه المظاهرة أسرعت قوات البوليس وضربت حصاراً حول المسرح حتى انصرافوا بعد أن كلمهم سعد زغلول بنفسه، ولما عاد سعد زغلول من أوروبا بعد الرحلة الأولى التى أعلن فيها مطالب الأمة، خرج الشعب يستقبله استقبالا رائعا، وفى تلك المناسبة قدمت مسرحية «كلها يومين»، وهى مسرحية وطنية مثلت فيها شخصية مصر، وكان الستار يرفع عن منظر نار مشتعلة بقربى وأنا أنادى عربة إطفاء الحريق وعندما تحضر العربة أشير لها بالوقوف قائلة: 
هنا واربط -- وهنا استوب وأطلع على فوق هات السلم أهجم على النار، جمد قلبك، اوعى الخرطوم ليروح منك حياتك لأجل إخوانك النار النار أحسن من العار، وكلمة الخرطوم هنا مقصود مدينة الخرطوم عاصمة السودان، وقد صادفت هذه الرواية إقبالاً رائعاً، وشاهدها سعد زغلول عدة مرات وكان فى كل مرة يهنينى بحرارة ويقول – هذه مسرحية وطنية وجديرة بأن يراها جميع المصريين.
 ومن بين أناشيد هذه المسرحية أنشودة فى وحدة عنصرى الأمة، وكانت تخرج الجمهور من عندى فى مظاهرة وطنية رائعة حاشدة كنت أقول فيها:
نام يا خوفو استريح فى أمان
 واتحدنا والعذاب شفناه وهان 
مين حينسى الدرس ده طول الزمان 
يا عظيم المجد يا بانى الهرم 
المسيحيين والمسلمين فى خدمتك كلهم متطوعين
واتحادهم اتحاد لكن متين
بكرة نصبح أرقى الامم
كان على عينينا غشاوة كم سنة 
لما زالت شفنا نور عصر الهنا 
واللى أمناه ده خان عهدنا 
استبد بينا وفى مالنا حكم 
عبد الوهاب وصالح 
واشتغل «محمد عبد الوهاب» عندى ملحناً أول الأمر وأكمل ألحان رواية «كليو باترا»، وكان «عبد العزيز خليل»، يمثل «مارك انطوان»، لأنه كان دوراً غير غنائى، والجمهور لا يهمه سوى سماع صوتى أنا وحدى أن فكرى أباظة قال لى مرة الناس عاوزين يسمعوك وخلاص أنتِ فاكره إنهم عايزين يشوفوا تمثيل.
وعرض على عبد الوهاب أن يغنى أمامى على سبيل التجربة، وقال لى إنه سيضع الألحان بمقياس صوتى وصوته، ووافقت بعد إلحاح شديد منه، ووساطات متعددة، وفعلاً غنى أمامى ومثل دور «مارك أنطوان»، ونجح، فأغراه النجاح أن يطلب زيادة الماهية، وتصرف تصرفاً لا يليق بفنان، تخلف عن المجىء يوم البروفة الجنرال وكان باق على عرض الرواية يوماً واحداً فقط. 
فغضبت منه جداً، فى نفس الوقت الذى كنت فيه قد أعددت له مفاجاه هديه تساوى 150 جنيهاً، هدية ذهب وقتها، قمصان وكرافتات ومناديل من «البوم مارشية» دفعت فيها 30 جنيهاً واضطررت إلى الاستعانة بفتحية حمد، وجعلتها تمثل وتغنى «مارك انطوان « ولم يكشفها الناس ثم عرضت على «صالح عبد الحى»، أن يشتغل معى فرفض أولا وقال لى:
إزاى أشتغل قدامك على المسرح وأنا لما باسمعك بأرمى طربوشى على الأرض من فرط الطرب لا يا ست منيرة أنا أفضل أسمعك بس.
واستطعت إقناعه بعد جهد واشترط علىَّ أنه لا يكون مسئولاً إذا ما غلط على المسرح، فقبلت شرطه، وفى أول ليلة ونحن ملتحمون فى الغناء صاح قائلا آه، وانتهزت فرصة تصفيق الناس وسألته:
- جرى إيه يا صالح خليك فى دورك.
قال لى أنا اشترطت عليك من قبل وصوتك أطربنى، غصب عنى، واعملى بقى اللى تعمليه ارفضينى أو اخصمى من ماهيتى.
واعتزلت المسرح والغناء فى الوقت المناسب فى قمة مجدى – أطفات الأضواء حولى بيدى وتركت جمهورى يعيش إلى اليوم فى الحلم الجميل الذى كنت أنقله إليه بأغاننى. 
افترقنا أحباء عشاقاً كما عشنا دائماً، وعندما يحن هذا الجمهور إلىَّ يعود إلى مجموعة رسائلى إليه التى يحتفظ بها إلى اسطواناتى الكثيرة المسجلة.


اقرأ ايضا | عزة كامل تكتب: قبل أن تقرأ المذكرات: منيرة.. البدايات والمسيرة

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة