أوكتابيو باث يكتب :قبل النوم
أوكتابيو باث يكتب :قبل النوم


أوكتابيو باث يكتب: قبل النوم

أخبار الأدب

الأحد، 17 يوليه 2022 - 01:54 م

أحملك كشىء ينتمى لعصر آخر، وُجِد يوماً ما بالصدفة ونتحسسه بأياد جهولة. هل أنت جزء من ديانة ما، أم صاحب قوى خارقة اختفت بالفعل، أم حامل لغضابات أو لعنات تلاشت بفعل الزمن، أم إصبع فى قدم عدد من الشهداء؟

يغزونا حضوره حتى يحتل صدارة اهتماماتنا بلا وعى، دون أن يكترث لرفض عقولنا، يُعلن عن جماله- المفزع بعض الشىء- الخطر على نظام حياتنا المحدود، المبنى على خيارات شائكة، كجدار دائرى يحمى يقينين أو ثلاثة. هكذا أنت. لقد سكنت صدرى وكجرس هوائى تطلق أفكارا، وذكريات، ورغبات. فى خفاء وبصمت تطل أحيانا عبر عينى لترى العالم الخارجي؛ حينئذ أشعر بنظرات الأشياء التى تتأملها.

وهى تتفحصنى ويتملكُنى خجل لا متناه وخذلان عظيم. لكن الآن، هل تسمعني؟ الآن سوف ألفظك، سوف أتخلص منك للأبد. لا تحاول الهرب. لن تستطيع. لا تتحرك، أتوسل إليك: يمكن أن يكلّفك ذلك ثمنا باهظا. ابق هادئا: أرغب فى سماع نبضك الفارغ.

وتأْمُل وجهك عديم الملامح. أين أنت؟ لا تختبئ. لا تخف. لماذا تلتزم الصمت؟ لا، لن أفعل بك شيئًا، كانت مجرد مزحة. أتفهم؟ أنفعل أحيانا، دمائى حامية، أنطق بكلمات يتوجب على طلب الغفران بعدها. هكذا طبعى. والحياة. أنت لا تعرفها. ماذا تعرف أنت عن الحياة.

وأنت فى حبس دائم واختفاء؟ وهكذا يكون من السهل التحلى بالعقل. فبالداخل، لا يوجد ما يزعجك. الشارع شىء آخر: يقومون بركلك، يبتسمون لك، يسرقونك. لا يشبعون. والآن بما أن صمتك يثبت لى بأنك قد غفرت لى، اسمح لى بأن أوجه لك سؤالاً. أنا متأكد أنك ستجيب عليه بوضوح وبساطة، مثلما يستجيب المرء لرفيق بعد غياب طويل.

من الواضح أن كلمة غياب ليست الأكثر ملاءمة، لكن يجب أن أعترف لك بأن حُضورك الذى لا يُطاق يشبه ما يسمونه «خواء الغياب». خواء حضورك، حضورك الخاوى! لا أراك أبدا، لا أشعر بك، لا أسمعك. لماذا تحْضر دون ضجيج؟ تظل صامتا طيلة ساعات، مختفيا فى ثنايا ما. لا أظن أننى أطلب الكثير. لا أطلب منك الكثير: علامة، إيماءة صغيرة.

حركة عين، اهتماما من النوع الذى لا يكلف من يمنحه شيئا ويملأ من يستقبله سرور. لا أطلب، أتوسل. أقبل بوضعى وأعرف حدود ما يمكن أن أصل إليه. أعترف بأنك الأقوى والأمهر: تخترق من فرجة الحزن أو ثغرة الفرحة، تستفيد من النوم ومن السهر، من المرآة ومن الحائط، من القُبلة ومن العبْرة. أعرف أنى أنتمى إليك، وأنك ستكون بجانبى يوم موتى وساعتها ستمتلكنى. لماذا الانتظار طويلا؟ أحذرك من الآن: لا تنتظر الموت فى ساحة المعركة، ولا ميتة مجرم، ولا شهيد. سيكون هناك ألم بسيط، مصحوبا بالهلع المعتاد، وهذيان بسيط، وإشراقات متأخرة بلا عاقبة. هل تسمعني؟ لا أراك، تُخفى وجهك دائما. سأبوح لك بسر- كما ترى، لا أحمل لك ضغينة.

ومتأكد أنك يوما ما ستحطم هذا الصمت عديم المعنى-: بعد الحياة لسنوات طويلة... على الرغم من شعورى بأننى لم أعش أبدا، وبأن الزمن هو من عاش بى، هذا الزمن المزدرى والقاسى الذى لم يتوقف أبدا، الذى لم يمنحنى أى إشارة، وتجاهلنى دائما. ربما أكون خجولاً بشكل مبالغ فيه.

ولم أمتلك الشجاعة لأنقض عليه من عنقه وأقول له: أنا أيضا موجود، مثل الموظف الصغير الذى يستوقف المدير العام بإحدى الطرقات ويقول له «صباح الخير، أنا أيضا»، لكن، أمام الإعجاب بالآخر، يخرس الموظف الصغير، لأنه سرعان ما يدرك عدم فائدة إشارته: ليس لديه ما يقوله لرئيسه. هكذا أنا: ليس لدى ما أقوله للزمن.

وهو أيضا ليس لديه ما يقوله لى. والآن، بعد كل هذا الاستطراد الطويل، أظن أننا أكثر قربا لما كنت سأقوله لك: بعد أن عشت سنوات طويلة -انتظر، لا تكن قليل الصبر، ولا تتمن الهرب: يجب أن تسمعنى حتى النهاية- بعد سنوات طويلة، قلت لنفسي: لمن، إن لم يكن له، أستطيع أن أحكى أموري؟ فى الواقع -لا أخجل من قوله وأنت لا يجب أن تحمر خجلا- ليس لى غيرك. أنت. لا تظن أنى أرغب فى إثارة شفقتك؛ وأنا أعلن حقيقة ما، أعضد أمرا ما ليس أكثر. وأنت، من تملك؟ هل تنتمى لأحد كما أنتمى إليك؟ أم تفضل أن يكون السؤال بصيغة، هل لديك شخص آخر كما أنت بالنسبة لي؟ رباه، يمتعض وجهك، تلتزم الصمت، أتفهم ذلك: اتضح لى أيضا إمكانية أن تنتمى لآخر.

والذى بدوره ينتمى لآخر، إلى ما لا نهاية. لا تقلق: لا أتحدث مع غيرك. إلا إذا كنت، فى هذه اللحظة، تقول نفس الشيء لشخص ثالث صامت، والذى بدوره... لا، إن كنت أنت آخر: فمن أكون أنا؟ أعيد عليك السؤال مجددا، أنت، من تملك، لا أحد، سواى. أنت أيضاً وحيد، وعانيت من طفولة وحيدة وملتهبة. تحدثك الينابيع كلها.

وتطيعك كل الطيور- والآن.. لا تقاطعنى. سأبدأ من الأول: عندما عرفتك- نعم، أتفهم جيدا دهشتك وأتنبأ بما ستقوله لي: فى الحقيقة لا أعرفك، لم أرك أبدا، لا أعرف من تكون. حقا. فى أزمنة سابقة ظننت أنك ذلك الطموح الذى يشنف به آباؤنا وأصدقاؤنا أسماعنا، بكيان ومعنويات- كيان ومعنويات يتضخمان.

وينموان بقوة الاحتكاك، حتى يأتى شخص ما بدبوس دقيق ويفجر كيس الصديد الصغير- فيما بعد ظننتك تلك الفكرة التى خرجت يوما ما من رأسى منطلقة للعالم: ثم خلطتها بحبى لخوانا، وماريا، ودولورس؛ وبإيمانى بخوليان، وأوجوستين، ورودريجو. ظننت بعد ذلك أنك شيء سحيق جدا وسابق علىّ، ربما كنْتَ حياتى قبل أن أولد. ببساطة، كنت الحياة.

أو من الأفضل، الطاقة الدافئة التى تهب الحياة بعد أن ترحل. كنت ذكرى الحياة. قادتنى هذه الفكرة لأخرى: مفادها أن أمى لم تكن رحما بل لحدا، وسكرة موت طيلة تسعة أشهر من الحبس. استطعتُ إبعاد تلك الأفكار. بقليل من التبصر عرفت أنك لست ذكرى ولا حتى نسيان: لا أشعر بأنك من كنت بل من سأكون، ومن أكون الآن.


وعندما أريد استعجالك، تهرب منى، حينئذ أشعر وكأنك غياب. فى النهاية، لا أعرفك، لم أرك أبدا، لكن لم أشعر أبدا بأننى وحيد، بدونك. لهذا يجب أن تتقبل تلك العبارة- هل تتذكرها: «متى تعرفتُ عليها؟»-كتعبير مجازى، كمصدر لغوى. حقا تصاحبنى دوما، دائما هناك دائما من هو معى.

ولكى أبوح بكل شيء مرة واحدة: من أنت؟ لا فائدة من الاختباء أكثر من هذا. استمرت هذه اللعبة طويلا. ألا تعى بأننى يمكن أن أموت الآن؟ فإذا متّ، لن يكون لحياتك معنى. فأنا حياتك ومعنى حياتك. أم إنه على العكس: هل أنت معنى حياتي؟ تكلم، قل شيئا، هل ما زلتَ تكرهنى لأننى هددت بإلقائك من النافذة؟ قلتُ ذلك كى أحطم غرورك.

وبقيت صامتا. إنك جبان. هل تتذكر عندما سببتُك؟ وعندما تقيأتُ عليك؟ وعندما كان عليك أن تنظر بتلك العيون التى لا تُغمض أبدا كيف كنت أنام مع تلك العجوز الشمطاء والتى تتحدث عن الانتحار؟  أرنى وجهك، أين أنت؟ فى الواقع، لا شيء من ذلك يهمنى. أنا متعب، هذا كل شيء. أشعر بالنعاس. ألا تجهدك هذه المناقشات السرمدية، كما لو كنا زوجين، استمرا بالجدال حتى الخامسة صباحاً.

وهما متورما الجفون، فوق سرير غير مرتب، يتجادلان بشأن مشكلة وقعت منذ عشرين عاما؟ هيا ننام. قل لى تُصبح على خير، كن لطيفاً بعض الشىء. فأنت محكوم عليك بالعيش معى وعليك أن تجتهد فى جعل الحياة أكثر احتمالاً. لا تهز كتفيك. الزم الصمت إذا رغبت، لكن لا تبتعد. لا أريد أن أظل وحيدا: منذ أن بُحت بمعاناتى وأنا أكثر تعاسة.

ربما كانت السعادة مثل رغوة تيار الحياة المؤلم، الذى يغطى أرواحنا بوفرة جسدية. الموجة تنسحب الآن، ولا يبقى شىء من ذلك الذى جعلنا نتألم كثيراً. لا شىء سواك. إننا وحيدان. أنت وحيد. لا تنظر إلى: أغمض عينيك، كى أستطيع أن أغُمِضهما أنا أيضاً. فلم أزل غير معتاد على نظرتك بلا عيون. 

اقرأ يضا | أحمد عبد اللطيف يكتب : د. وائل فاروق:السرد العربى يقيم علاقة مع زائف

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة