اخبار الادب
اخبار الادب


أمل نصر الجندى تكتب :بين الجبل والمقبرة

أخبار الأدب

الأحد، 17 يوليه 2022 - 04:03 م

بسببٍ من ملامحى الدقيقة، وجسمى الضئيل كانا يناديانى «سمسمة» أمِّى وأبى الذى صار أبى بعد أول مشوارٍ اصطحبنى إليه، يوم جنازة أبى الذى جئتُ من صلبه من أجل أن يبتعد بى عن لاطمات الخدود، وشاقات الجيوب، والسواد الذى عمّ أرجاء البيت فجأة، فضجّ كلُّ ركنٍ فيه بالصراخ بينما أبى ساكن فى مكانه، ولا أدرى كيف استطاع الموت وسط هذا الضحيج!
حملنى أبى الجديد على ظهر حِمارهِ من دون «بردعة» ورغم أن ظهر الحمار ظل يوجعنى فى حوضى لأيام تالية إلا أنَّى أحسستُ بسعادةٍ لم أعشها من قبل، فها أنا أفعل ما مُنِعتُ منه طيلةَ حياة أبى.


لكنى شعرتُ على الرَّغم من أنَّ الأرض التى زرناها بدت شاسعة، وجميلة بأن الهواء يحمل سرًا قابضًا، وكان ينظر نحوى بعينين تلمعان بعصبية ليثٍ وقعَ على فريسته.


جلسنا معًا، ولاحظت كم نحن متقاربان فى الحجم، وأنه هزيل لن يصلح زوجًا جديدًا لأمى إذا ما قورن بحجمها. لم يتكلم إلا قليلًا، وابتسم لشىء أبعد منى ما جعلنى ألتفت لأرى أهل القرية يحملون النعش، ويسيرون باتجاه المقابر التى تعلو عنها عدة أمتارٍ، فوق منطقة جبلية نحتوا خلالها سلمًا ليمكنهم من الصعود فبنوا هناك مقابرهم.


 وحين راح يلوّح للنعشِ مغمغمًا: «مع السلامة». سمعتُ صوتَ أبى ينادينى، يحثنى على العودة للبيت وألا أصاحب هذا الرجل أبدًا، وألا أدع أمى تفتح له بابًا، فنهضت فزعة وأخبرته بما قال أبى الذى مرَّ لتوِّه كى يُدفن فراح يعانقنى ضاحكًا، ويبالغ فى تقبيلى، ثم بدأ يحدِّد بعصاه مربعًا حول المكان الذى جلستُ فيه ويرسم بداخلهِ علامةَ جدول الضرب!


وقد أصبح يزورنا بشكلٍ يومى، يحمل إلينا الحلوى والفساتين الجديدة، يرسل أخته لتساعد أمى فى أعمال المنزل، وتتقصى منها عن أشياءٍ مثل كم عمرى، ومتى قد تبدأ فترة حيضى، وهل بالفعل أنِّى أكُلِّم الأموات، ومتى آخر مرةٍ حدثَ ذلك؟

ولأنه يخصُّنى بالتدليل، ويصحبنى معه إلى السوق، ويشترى لى أى شىء تقع عليه عينى، تقت بشدة إلى أن يطلب أمَّى للزواج، وكانت قد وقعت فى غرامه لشوشتها.


 ولم يتوقف المارَّة عن الضحكِ منا كلما مررنا بطريق ويدى فى يده، واشتد إعجابى به لأنه يمشى بنظرٍ مستقيمٍ كأنَّه لا ينتبه لوجودهم ولا يرد على ما يقولون، ففعلت الأمر ذاتهِ حيالَ صوت أبى الميِّت وقد صوَّر لى أن ما أحبه يشكل خطرًا فقط لأنه يغار من أبى الجديد!


وازدادت فرحتى عندما أخبرنى بأننا سنصعد الجبل، متجهين إلى القطاعِ الآخر من القرية لكننا قطعنا المسافة بين القبور فوق طريق صخرى يغطيه تراب أحمر، وتخيلت لبرهة أن أبى وقبره لم يكونا هناك. كما لم ننزل السلم الذى يفضى إلى الجهة الأخرى واتجهنا إلى بيتٍ صغير.


دخلنا وبدأ يخبر الرجل الذى استقبلنا أنَّه يشكو ألمًا أسفل رأسه، وعنقه، وخلف عينيه، فراح يتلو بعض كلماتٍ وطمأنه بأنه سيشفى فى القريب قبل أن يتوجه إلىَّ قائلًا بأننى «مرصودة»، ونصحنى بأن يتلو من أجلى فوافقت، وكنت أشعر بخدرٍ فى قدمى اللتين مددتهما تحت ملاءة بيضاء.


 بدأ رأسى يثقل بينما جلسنا طويلًا يمسك جبهتى بيد، ويقبض على عنقى بيد أخرى ويتمتم، ولم أشعر بشىء إلا عندما استفقت كأن أحدًا ما لكزنى لأصحو، فتناهى إلى صوتهما واضحًا بأنى الفتاة المنشودة وما دمت عذراء حديثة الحيض، فسأكون أجمل هدية تُقدَّم من أجل حصولهم على ما يريدون، ظننت أنى ما زلت «غمرانة»، أقصد فاقدة للوعى!


ثم رأيتُ أبى كأنه غادرَ قبره ليحرسنى، جلسنا إلى جوار بعضنا أمامهما بالتقابل، وبدأ رأسى يتحوَّل إلى ما يشبه صندوقًا زجاجيًّا خاليًا تمامًا إلا من هيئة المخ الملتف حول نفسه، يعوم بين صحوٍ ووهم، فى غرفةٍ حارَّةٍ، نصف مظلمة، تملؤها تمتمات وروائح ثقيلة، كادت أن تملك سطوة على حواسى، سألنى: 
- هل ترين امرأة مجنحة؟
- رجلًا يضم إلى صدره مفتاحًا ذهبيًا؟
- عجلة تلمع؟
فمدَّ أبى يدُه داخل رأسى، سحبَ ما فيه، ضمَّه إلى حجرهِ، وبقى يرد: «لا» على كل سؤالٍ بينما يخرج الصوت من فمى.

اقرأ ايضا | أشرف قاسم يكتب: يطل على ربوع القدس سندسها «إلى روح الشهيدة شيرين أبو عاقلة»


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة