د.سيد إسماعيل ضيف الله يكتب :أحمد مرسى و ليبرالية ابن الأصول
د.سيد إسماعيل ضيف الله يكتب :أحمد مرسى و ليبرالية ابن الأصول


د.سيد إسماعيل ضيف الله يكتب :أحمد مرسى و ليبرالية ابن الأصول

أخبار الأدب

السبت، 30 يوليه 2022 - 03:48 م

رباه عبد الحميد يونس على نفسية أبطال السير المعتزين بأنفسهم ،وربته سهير القلماوى على محبة شهرازد  للحياة فراح يجمع من أفواه الصيادين أغانيهم وهم يسعون للرزق ،  ومن أفواه النسوة مراثيهم الخالدة اللائى يخففن بها آلام التفكير فى  مصير الإنسان المحتوم.


أستاذى أحمد مرسى رحمة الله عليه لم يكن أستاذًا لى بما كتب فى مجال الأدب الشعبى فحسب، بل أعتقد أننى أسعد أبناء جيلى حظًا أننى عرفت عنه مبكرًا ما لم يعرفه الكثيرون حتى الآن. الأمر الذى جعل لأستاذيته مكانة خاصة فى قلبى وعقلى وبوصلة لسلوكى قدر ما أستطيع. لا يوجد إنسان كبير بمثل كاريزما أحمد مرسى دون أنن يكون له خصوم كثر سواء عن حقد أوتنافس شريف أو عن جهل به. وللتاريخ أكتب شهادتى فى مشاهد آملا أن تكون كلماتى محفزة لك عزيزى القارىء بالدعاء له ولكل من توفاهم الله من أساتذتى بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة، فهم تاج رأسى وقناديل مصر المضيئة والتى لا تنطفىء برحيل الأجساد.

 1
كان من حسن المقادير أن أتطوع فى عام 1997 تقريبا لمحو أمية بعض الصبية العاملين فى صنع الفخار بمركز الجيل بالفسطاط الذى كان يرأسه ويديره أحد أبرز المعارضين اليسار لنظام مبارك وأستاذ العلوم السياسية البارز ورائد حركة الطلبة فى السبعيينات الأستاذ الدكتور أحمد عبد الله رزة.

وإلى جوار محو الأمية حاولت أن اعلم بعض الصبية تمثيل أحد مشاهد السيرة الهلالية. ذات اليوم تجاذبت مع الدكتور أحمد عبد الله رزة أطراف الحديث عن حركة الطلبة ورمزها والسادات وموقفه من المثقفين وموقف المثقفين منه ..إلخ.

وكان معروفًا أن الدكتور أحمد مرسى كان أقرب أساتذة قسم اللغة العربية وقتئذ للرئيس السادات إن لم يكن أقرب الأكاديمين إليه وإلى السيدة الدكتورة جيهان السادات. ما ذكره دكتور أحمد عبد الله رزة كان أول درس لى فى الحياة العملية: لا تصدق كل ما يقال ولا كل ما ترى.

أكد لى دكتور أحمد عبد الله رزة أنه يكن كل تقدير واحترام للدكتور أحمد مرسى لأنه كان أكثر غيرة وحرصًا على الحريات الأكاديمية وعلى حرية التعبير من أغلب المعارضين للسادات الذين تراهم بعيونك وتسمعهم بآذانك يصرخون بخطب رنانة ومواقفهم الفعلية مخزية. وبحسب دكتور رزة فقد سعى دكتور مرسى بكل ما يستطيع للوقوف بجانب الطلاب والأساتذة دون أن يحسب  لأى عواقب سياسية على مستقبله السياسى أى حساب.


2
فى عام 2001 كتبت أول كتاب لى بعنوان «الآخر فى الثقافة الشعبية.. الفولكلور وحقوق الإنسان» بتحفيز من الشاعر المرحوم حلمى سالم، وأتذكر عبارته المحفزة خفيفة الظل « اكتب كتاب وخذ لك ألفين جنيه من المركز بدل ما تقعد تصحح بهم لغة سنة ومش هشتوفهم!».


نعم كنت أعمل فى تصحيح اللغة العربية بالقطعة فى مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، وكان حلمى سالم مديرًا للنشر بالمكان، وكان كثير من  المبدعين والأكاديميين يزورون حلمى سالم آملين نشر كتبهم فى ذلك المركز الحقوقى .

المهم استكثر بعض العاملين بالمركز أن يصبح مصحح اللغة العربية مؤلفًا ويحصل على الفين جنيه مكافأة، فأوعزوا لمدير المركز أن يطلب مقدمة للكتاب أو تقرير صلاحية من أستاذ معروف فى الأدب الشعبى ورشح أحدهم المرحوم الأستاذ عبد الحميد حواس. والأستاذ حواس بدوره لم يعجبه الكتاب ورفضه بل وزاد أن المؤلف سليط اللسان يتطاول على أساتذته بالسب والقذف وأن الكتاب لا علاقة له بالأدب الشعبي.


وكان الأستاذ حواس يشير لفكرة وردت فى مقدمة الكتاب مفادها أن الفولكلوريين فى عقد الخمسينيات اهتموا بالشعب كرد فعل لظرف تاريخى وسياسى مرتبط بثورة يوليو، وهو ما سبق أن أسماه عبد الحميد يونس الانتفاع الأيديولوجى بمواد الفولكلور. فالدافع القومى والإطار الأيديولوجى الماركسى كان يحكمان أغلب الفوللكوريين فى هذه الفترة، وهو نوع من الاستعمال الذرائعى للشعب وأدبه وفنونه.


كان موقف حلمى سالم صعبًا، كيف يمكن أن يقف لجوار شاب مبتديء صرف شهورًا فى كتابة كتابه الأول بأقل الخسائر الممكنة، لم يطلب منى حلمى سالم تغيير حرف، ولم يستسلم لرغبة إدارة المركز فى صرف النظر عن الكتاب، وافترح أن يرسل المركز للاستاذ الدكتور أحمد مرسى ليكتب له مقدمة. وقد كان. بل وجاءت بعنوان «سيد إسماعيل ومغامرته. ويكفى لتعرف ماذا تعنى الأستاذية أن تقرأ خاتمة مقدمة أستاذى الدكتور أحمد مرسى لكتابى «الآخر فى الثقافة الشعبية»:
« هل أقول إنى سعيد بمغامرة «سيد إسماعيل» ..
نعم أنا سعيد بها، حفيٌ بصاحبها، رغم اختلافى معه فى بعض الأمور، وهذا أمر طبيعي.. يؤكد ثراء المغامرة ويحسب لسيّد..
لا أدرى، ما إذا كان من حقى أن أقول لـ «سيد إسماعيل» اكتب وغامر، ودعنا نحتلف ، فهذا دليل حياة وتعبير عن الاحترام... احترام المغامرة ، للحرية» أعتقد أن هذا من حقي».


3
فى عام 2004 ، وبعد عثرات عديدة على مدى سبع سنوات فى الحياة، استطعت الجلوس أمام الدكتور سيد البحراوى والدكتور أحمد مرسى والأستاذ صفوت كمال والدكتور خيرى دومة لمناقشة رسالتى «آليات السرد بين الشفاهية والكتابية دراسة فى السيرة الهلالية ورواية مراعى القتل»، وبينما تمتلىء قاعة مدرج 78 بأهلى  الذين جاءوا فرحين بأول ابن لهم فى العائلة يحصل على ماجستير.

وفى لحظات ارتفعت دقات قلوب أهلى وفار الدم فى عروقهم مع بدء المناقشة بكلمة أستاذى ومشرفى دكتور سيد البحراوى الذى كان يتمنى الرسالة على نحو آخر غير ما صارت إليه، وأرجع ذلك لاشتغالى بالمركز الحقوقى مشيرًا لموقفه الرافض للتمويلات !!


بعد المناقشة، وقبل صدور الحكم يلمح أحمد مرسى امرأة صعيدية فى عيونها دموع محبوسة، ويعرف أنها أمى، فيأتى إليها :
- إزيك يا أم السيد.
- الحمد لله. الله يخليك يا دكتور.
قوليلى، لما كنا بتغنى لسيد علشان ينام كنت بتقوليله إيه؟
• كنت بقوله:
• نام يا سيد نام 
• وادبح لك جوزين حمام.
-طيب  يا بنت الأصول، غنى له وطمنيه. يا زين ما ربيتى. 


4
ابن الأصول مصطلح مصرى لا علاقة له بالأيديولوجيات، وقد يراه البعض يعبر عن وعى عنصرى إذا ما أُستخدم ليشير لحسب ونسب، وثراء عائلى، وتميز طبقى. لكنى لا أفهمه على هذا النحو. أحمد مرسى ابن أصول، لأنه تربى على الأصول فى عائلة مصرية بسيطة تعرف الأصول. والأصول هى القواعد التى توافق جوهر العرف المجتمعى فى كل شأن من شئونه، هى ليست قواعد مكتوبة لكنها محفوظة فى القلوب، لا يحيد عنها سوى من لم يحسن أهله تربيته عليها. ومن تربى على طبلية أبيه يعرف الأصول، يعرف للناس أقدارهم وينزلهم منازلهم. ابن الأصول ليبرالى بالضرورة إذا استخدمنا المصطلحات السياسية، فهو يعرف حدوده ولا يتعداها ويحفظ للآخرين حقوقهم ، ويقف إلى جانب الضعيف دون استعلاء أو تكبر، ويعرف لنفسه قدرها دون تواضغ زائف لأنه معتز بذاته كابن أصول لم يصل لما وصل إليه إلا بكدّه وجهده واجتهاده. 


رحم الله أحمد مرسى ابن الأصول الليبرالى الذى رباه عبد الحميد يونس على نفسية أبطال السير المعتزين بأنفسهم وربته سهير القلماوى على محبة شهرازد  للحياة فراح يجمع من أفواه الصيادين أغانيهم وهم يسعون للرزق،  ومن أفواه النسوة مراثيهم الخالدة اللائى يخففن بها آلام التفكير فى  مصير الإنسان المحتوم.
- أستاذ النقد والأدب العربى بالجامعة الأمريكية فى القاهرة.

اقرأ يضا | د. مصطفى جاد يكتب: المتجدد.. صاحب الحضور الطاغي

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة