محمد بغدادى يكتب : مكالمة أخيرة.. ولقاء
محمد بغدادى يكتب : مكالمة أخيرة.. ولقاء


محمد بغدادى يكتب : مكالمة أخيرة.. ولقاء

أخبار الأدب

الأحد، 07 أغسطس 2022 - 03:58 م

بدأ الدكتور أحمد مرسى ينقل المأثوات الشعبية من الشارع المصرى والقرية المصرية، إلى داخل المؤسسات العلمية الكبرى فى مصر، وفى خارجها، فجعلها مادة للدراسة الأكاديمية فى كبرى المؤسسات العلمية العربية والدولية

ليس للفارس النبيل نهاية، وليس لعشقنا له بداية، وما بينهما كانت الحياة مترعة بالجمال والثراء والإنسانية، إنه الدكتور أحمد مرسى الذى لا أعرف أين التقيت به، وكيف تعرفت عليه، ومتى كانت البداية. تتماهى علامات الطريق بين بداية تعرفنا على إنتاجه العلمى الغزير.

كباحث وأستاذ  أكاديمى جليل، وبين حضوره الإنسانى النبيل فى حياتنا، عرفت الدكتور أحمد مرسى قبل أن نلتقى، منذ أن أبهرتنى أطروحاته العلمية وأبحاثه المتفردة عبر مؤلفاته العديدة التى كانت تؤسس لعلم جديد، وتؤنس غربتى حين وقعت فى غرام شعر العامية والأدب الشعبى، والرسوم الشعبية، عبر السيَّر والحكايات الشعبية، والأغانى والبكائيات والمواويل الشعبية، فقرأنا كتبه الزاخرة بالعلم والمتعة، والسبق والتفرد: «الأغنية الشعبية فى البرلس.

المأثورات الشعبية الأدبية فى الفيوم، دراسات فى الفولكلور، الأغنية الشعبية، مقدمة فى الفولكلور، الفولكلور والإسرائيليات، الخرافة فى حياتنا، الأغنية الشعبية: مدخل إلى دراستها، دراسة فى فن العديد، المأثورات الشفاهية (ترجمة)، الأدب الشعبى وفنونه، عالم نجيب محفوظ «.   وعبر عدة مناسبات ومؤتمرات وندوات أدبية وثقافية بدأت أتعرف على الدكتور أحمد مرسى منذ بداية الثمانينيات عبر صداقات مشتركة من خلال الخال عبد الرحمن الأبنودى، والدكتور جابر عصفور، والدكتور شمس الدين الحجاجى، وأساتذتنا: عبد الحميد حواس، ودكتور صفوت كمال وغيرهم. 


بالتأكيد كنت واحد من المحظوظين الذين أتيحت لهم فرصة الاقتراب من الدكتور أحمد مرسى العالم والإنسان بالقدر الذى يجعلنى أرى إشراقاته وتجلياته عن قرب، فعندما تدخل عالم الدكتور أحمد مرسى الحقيقى، فأنت هنا فى حضرة الإنسان المصرى الطيب الأصيل، الذى يحمل بداخله كل سمات الشخصية المصرية الحقيقية الأصيلة، ففى رحاب الدكتور أحمد مرسى ستجد كل شىء جميل: فهو محب للحياة، كريم وابن بلد، عمدة وشيخ عرب.

مدرك عن تجربة وعن وعلم طبيعة وأصالة البسطاء، يجيد قراءتهم، محبًا لهم يحترم كبيرهم وصغيرهم، يبحث بينهم عن الكنوز البشرية الحية، يحيطهم برعايته، يحنو عليهم يحافظ على خصوصيتهم، ويحميهم خشية الضياع، يقول لنا فى حواراته مأكدًا أهمية الحفاظ على التراث الثقافى (غير المادى) مقارنة بـ(التراث الثقافى المادى): «التراث الثقافى المادى يسهل استيعابه، فإذا كُسر تمثال يمكن أن نرممه مرة أخرى.

لكن التراث غير المادى لا يمكن بأى حال أن نستوعبه مرة أخرى، فحين يضيع فهو يضيع للأبد، فقد ذكر حكيم إفريقى:  «إذا مات راوى حكايات شعبية أفريقى فكأن مكتبة قد احترقت». لذلك فهو أحد حراس الوطن المخلصين.

وواحد من حراس التراث الإنسانى على مستوى العالم، فهو عالِم موسوعى، ومثقف مصرى وعربى كبير، تعرفه كل الأوساط العلمية فى مصر والعالم العربى وفى كبرى جامعات العالم والمؤسسات العلمية الدولية.


   فهو الذى تربى فى بيئة مصرية أصيلة داخل بيت والده العمدة فهو ابن الأصول، وفى بيئة علمية عريقة أيضًا، حيث والده الروحى عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين بقسم اللغة العربية بكلية الأداب جامعة القاهرة، والدكتورة سهير القلماوى التى استقبلته طالبًا ومعيدًا ومدرسًا وأستاذًا حتى صار رئيسًا لقسم اللغة العربية بكلية الآداب وجلس على مقعد طه حسين، وأستاذه الذى تبناه منذ البداية وغرس فيه كل القيم الجامعية وتقاليدها السامية الدكتور عبد الحميد يونس، أول أستاذ كرسى للأدب الشعبى بجامعة القاهرة، فانحاز بصدق علمى.

وأصالة إنسانية للبسطاء وفنون إبداعهم على كافة المستويات، وأدرك منذ وقت مبكر، أن هذا الشعب هو السبيكة المصرية السحرية الذى تكمن بداخله كل الفنون والحكمة والإبداع التلقائى والمأثورات الشعبية والحرف التقليدية.

وفى مبادرة علمية غير مسبوقة يؤكد الدكتور أحمد مرسى أنه رائد مؤسس للأدب الشعبى، حين قرر أن يخوض تجربة لم يسبقه إليها أحد، فكان أول باحث أكاديمى يقوم بدراسة المأثورات الشعبية الحية بمنطقة البرلس بمحافظته كفر الشيخ، وقام بعملية الجمع الميدانى لأغانى الصيادين والفلاحين، وأول من جمعها وصنفها.

وحصل على الماجستير فى الأغنية الشعبية بمنطقة البرلس عام 1963، ولم يتوقف الباحث المحب لتراث المصريين عند هذا الحد، فواصل بحب ودأب رحلة الجمع والتدوين والتسجيل بأدوات بدائية مرهقة، عندما حصل على أول رسالة دكتوراة فى المأثورات الشعبية والأدبية فى الفيوم، جامعًا ومسجلًا ومصنفًا الشعر الشعبى عند البدو، وجمع ما لم يجمعهُ أحد من قبل من الحكايات الشعبية والألغاز والنكات والبكائيات. 


ومن هنا بدأ الدكتور أحمد مرسى ينقل المأثوات الشعبية من الشارع المصرى والقرية المصرية، إلى داخل المؤسسات العلمية الكبرى فى مصر، وفى خارجها، فجعلها مادة للدراسة الأكاديمية فى كبرى المؤسسات العلمية العربية والدولية.

حتى صار فى موضع الفخر والإكبار من كبار أساتذة كلية الآداب ممن سبقوه، ومحل تقدير وإعزاز  داخل قسم اللغة العربية، وعبر هذه المسيرة تخرج على يديه جيل جديد، وقاد أجيالًا متعاقبة نحو أهمية تراثنا الشعبى الغنى بالحكمة والإبداع والجمال، فتتلمذ على يديه وأشرف على رسائل الماجستير والدكتورة أجيال وأجيال ودفعهم لأن يستكملوا ما بدأه لجمع وتتصنيف كنوز الأدب الشعبى والتراث، حتى شارك مع الدكتور أسعد نديم والدكتورة نوال المسيرى فى تأسيس الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية، التى تضم أضخم أرشيف للمأثورات الشعبية فى مصر وفى المنطقة العربية.


 كانت السنوات الأخيرة مضنية، ولكنه قاوم باستبسال، وبروح تواقة للحياة، لم يمنعه المرض العضال من مواصلة مسيرته، كعادته كان محًبا للحياة، وصلبا أمام شراسة المرض، فواظب على حضور الندوات والاجتماعات، وفى الفترة الأخيرة كنت اتصل به دائمًا، نعزى بعضنا البعض فى رموز وقامات مصرية حصدها وباء الكورونا اللعين، فيداعب مرضه متفائلا متمسكا بالحياة: «ما أعانى منه يا بغدادى يعتبر دور برد فى مواجهة شراسة الكورونا اللعينة».

وكان حديثه معى عبر مكالمتى الأخيرة قبل أن يشتد عليه المرض تمثل رؤية متكاملة تفسر ما يحدث على الساحة الدولية الآن، فقد كان يمتلك رؤية سياسية تنطلق من ثقافة موسوعية، وخبرات حياتية تؤكد سلامة رؤآه وبصيرته، فعندما تطرق الحديث بنا إلى عودة جائحة كورونا من جديد، قال لى: «أعتقد أن كثير من الدول لن تستمر فى المكانة نفسها التى كانت عليها من قبل، ولن يكون لها نفس الدور المؤثر، وربما سيستغرق ذلك وقتًا لكنه سيحدث يومًا ما.

وبالتأكيد ستظهر تحالفات جديدة، وتكتلات إقليمية قد تغير من شكل العالم الموجود الآن»، وكان رأى الدكتور أحمد مرسي: «أن النظم السياسية التى يعتبرها البعض النموذج الديمقراطى الأمثل، وهى القائمة على الأحزاب، على أساس أن ذلك قمة الممارسة الديموقراطية وشكلها المثالى، أظن أن هذه الدول ستشهد تغيرات جذرية، وربما ستفقد مصداقيتها.

ولعل المشهد المشتعل فى الولايات المتحدة الأمريكية الآن دليلا واضحا على ذلك، وأزعم أن جمعيات المجتمع المدنى ستقوى وسيكون لها دور فعال ومؤثر سياسيًا واجتماعيًا، وستتعدد وظائفها وتتسع وتصبح أكثر إسهامًا فى شؤون بلادها محليًا وعالميًا، كما أن البعض ممن تنبأوا  بنهاية (الدولة المركزية) ككيان متماسك، سيكون عليهم أن يعيدوا النظر فى نبوءاتهم، فقد أثبتت الجائحة الحالية أنه لا بديل عن (الدولة المركزية القوية) التى تجاوز دورها الأحزاب والتعدد العرقى والطائفى، وبناء على ذلك ستكتسب الدولة المركزية أسبابا جديدة لقوتها، ويتأكد وجودها وضرورته.

وربما ستظهر أليات جديدة، وتتغير مفاهيم الممارسات التقليدية للدولة، لكنها فى كل الأحوال ستظل موجودة ولا غنى عنها، لتمارس دورها سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا على نحو جديد، يوازن على نحو واضح بين الحرية الفردية، والمسئولية المجتمعية، بما لا يجور على حق الفرد، ولا يهدر حق المجتمع». 


فقلت له: هل هذا معناه أننا سنعود مجدادا للنظم الشمولية.. فقال: «ليس بالضرورة أن نعود للشكل التقليدى للدولة الشمولية، وأكرر (بما لا يجور على حق الفرد والمجتمع)، ولكن على مر التاريخ، سنجد أن العصور الذهبية للحضارات القديمة لم تزدهر إلا فى ظل حكومة مركزية قوية.

والأمثلة كثيرة، وإذا نظرنا للأسر الفرعونية القديمة سنجد أن فنون العمارة والهندسة والطب والفلك.، وغيرها من مظاهر الحضارة، لم تزدهر إلا فى ظل الحكومات المركزية القوية، ولا أعتقد أن روعة كل هذه الفنون والجداريات والنحت الفرعونى كان يتم بالقهر والسخرة كما يحلوا للبعض أن يقول ذلك، فلا يمكن للفنان المصرى القديم أن يبهر العالم بإبداعاته ورسومه وعمارته الملغزة، ومعابده الخالدة، وأهراماته الشامخة، بمثل هذه الروعة، والهندسة الكونية، وهذا الإعجاز العلمى المبهر، تحت ضغوط السخرة والقهر، فالفن إبداع تتجلى روعته حين يتنفس نسمات الحرية».


وقبل يومين من دخول أستاذنا الدكتور أحمد مرسى المستشفى ذهبنا لزيارته بالمنزل وكنت بصحبة الدكتورة نهلة إمام، كان يعانى من مشاكل فى التنفس، ولكنه كان كما عهدناه قويًا ومتماسكًا بالحياة وكرم الضيافة، تحدثنا معه قليلًا حتى لا نجهده، ورغم ذلك تحدث قائلًا: «التراث الشعبى مصاب بلعنة ما.

ويحتاج لطرد هذه الأرواح الشريرة، لأننا لم نقصر فى خدمة التراث، وأنا أرى أن العرب لم يجتمعوا على شىء سوى التراث الشعبى، كما أننا الثقافة الوحيدة فى العالم التى أنتجت سيرة بطلتها امرأة وهي: «الأميرة ذات الهمة»، وكانت أخر كلماته لنا: «أعتقد أننى أديت رسالتى على أكمل وجه، ووكنت ضمن رموز العالم الذين شاركوا عام 2003 فى صياغة اتفاقيتى اليونسكو المتعلقتين بـ «حفظ التراث، وتدعيم التنوع الثقافى».

وكانت أخر أمنياته: «أتمنى خروج باليه أبو زيد الهلالى أو الأميرة ذات الهمة، وأن الثقافة العربية هى الوحيدة التى أنتجت سيرة كاملة لامرأة، وإذا كانت هناك أوبرا عايدة، ففى المقابل يمكن أن تكون هناك أوبرا ذات الهمة، كما أن عروض الأوبرا هى فى الأساس مستقاة من التراث الشعبى.

وأن كورساكوف على سبيل المثال قدم ألف ليلة وليلة وسندباد وغيرهما من قصص التراث الشعبى، وبالتالى من المنطقى أن نكون نحن أولى بتراثنا وأن ننقله نحن إلى الأوبرا، رحم الله الدكتور أحمد مرسى، وعزائنا أنه ترك فينا كتيبة متكاملة من تلاميذه يكملون رسالته، ويستكملون رسالته النبيلة لحفظ وصون وحماية تراثنا من الضياع.

اقرأ ايضا | د. خالد أبو الليل يكتب: أحمد مرسى أسد دافع عن عرين الهوية المصرية


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة