صلاح جاهين
صلاح جاهين


د.حسين محمود يكتب: قراءة في رباعيات جاهين

أخبار الأدب

السبت، 01 أكتوبر 2022 - 04:31 م

قرأت قبل بضع سنين رباعيات صلاح جاهين، وسمعتها ملحنة من الشيخ سيد مكاوى، ولكنني ظللت متعلقا بالقراءة الأولى لها، والتى قدم لها الروائى القدير يحيى حقى. لفت نظري عند القراءة الأولى للرباعيات أنها ليست شذرات فنية شعرية موسيقية مما يمكن أن نتوقعه من شاعرية شاعر بقامة صلاح جاهين، وليست متناثرة كما قد يوحى بها نشرها على حلقات فى مجلة أسبوعية، بل هى أقرب إلى سرد أوتوبيوجرافى، ولكنها أوتوبيوجرافيا فلسفية، لا تعرض أو تستعرض أحداث حياته كما وقعت، وإنما كما فكر فيها، تفكيره فى وجوده نفسه، ومحاولة منه لتفسير هذه الأحداث التى لم يفصح عنها، ولكننا قد نتصورها من وراء هذا الفكر، وهو بذلك يضمن لعمله الأدبى الفنى شموخا لا يموت. 


واستقر فى خلدى أنها ليست مجرد أشعار بديعة اللفظ والمبنى، وإنما هى رواية «الوجود» ذاته، وأن شاعرنا الشعبى المغرق فى التعبير المدهش عن واقعه وواقعنا، إنما فى حقيقة الأمر وجودى الفلسفة، متأثرا، ربما، بقراءته لكامو وسارتر ونيتشه. 


يثير الدهشة أيضا موقف يحيى حقى من الرباعيات، فهو يراها أفضل القوالب للشاعر الفيلسوف الذى يريد أن يعرض علينا مذهبه، لا فى بحث فقهى، بل فى ومضات متألقة، فلا أدرى السبب الذى دفع تفكير حقى إلى «البحث الفقهى»، فهل هناك صلة بين الفقه وشعر صلاح جاهين وفلسفته؟ وهل كانت رباعيات الخيام كذلك أيضا؟ 
أعتقد أن لماحية يحيى حقى وإحساسه المرهف بما يقرأ من شعر، هو ما جعله يستشف وجود علاقة بين فلسفة جاهين والفقه، وهو الأمر نفسه الذى تكرر مع عمر الخيام بعد نشر رباعياته الأشهر والأقدم، ولكن أهل زمانه رموه بالكفر والزندقة، الذى لم يمنع، حتى المتدينين، من الإعجاب بشعره إلى حد الافتتان، حتى أن بعض المتصوفين، وكانوا من أعدى أعدائه، اتخذ من هذا الشعر أورادا يرتلونها فى طقوسهم. 


ولم يتكرر هذا الموقف فى استقبال شعر جاهين، فلم يرمه أحد بالكفر والزندقة، ربما لأنه فى هذه الرباعيات لا يبدو كافرا صريحا، ولا مؤمنا صريحا، رغم أنه كان قدريا إلى حد كبير. 
وكما تنم رباعيات الخيام، فى رأى حقى، عن أنها لم تتشكل إلا بعد أن استقر صاحبها على رأى فى الحياة، كذلك أرى أن رباعيات جاهين تنم عن اكتمال وتمام رؤيته بنهايته من كتابة آخر قصيدة فيها، ولم يظهر هذا الاكتمال عند نشرها فى حلقات، ولذلك لا تظهر فى لحن وغناء سيد مكاوى، ثم غناء على الحجار من بعده، فقد ظهرت متناثرة هنا وهناك، وجاء لحنها متقطع غير متصل، والتعبير الموسيقى عن كل قصيدة مختلف عن الأخرى، رغم أن العمل واحد، متصلة أجزاؤه عضويا فيما بينها. 


وأتصور أن نشر الرباعيات فى كتاب هو الذى أفصح عن بنيتها المتكاملة، حسابيا وهندسيا، وشعريا وسرديا. تكشف الرباعيات الكاملة عن بناء سردى دقيق وتصاعد درامى ذكى، يبدأ من نقطة محددة وينتهى فى نقطة محددة، بينهما تصاعد حتى ذروة الصراع، وهو صراع ليس بين شخصيات مرسومة، وإنما صراع شاعر متألم حائر فيلسوف مع الحياة كلها، بكل أبعادها وأشخاصها وأحداثها. 


لنأخذ مثلا واحدا، وربما تحين فرصة أخرى فى المستقبل للتعمق أكثر فى هذه القراءة: 
تبدأ الرباعية بمقطوعة كأنها فتح الستار فى عرض مسرحى: 
مع إن كل الخلق من أصل طين 
ولكهم بينزلوا مغمضين 
بعد الدقايق والشهور والسنين 
تلاقى ناس أشرار وناس طيبين.
عجبى!
تحتاج كلمة «عجبى» إلى تحليل منفصل، فلها مدلول أكثر من شعرى وأكثر من تراثى، بل فلسفى ممتد، باعتبارها تعبر عن شىء غير عادى، وعن استغراب مؤكد من المعادلة الجبرية الواردة فى الرباعية السابقة عليها. 


أما هنا فنشير إلى الافتتاحية التى تهيئ القارئ لدخول العرض الذى يقدم قصة الخلق، كل الخلق، وأنهم من أصل واحد، ولكنهم بفعل الزمن يتمايزون ويختلفون ويبدؤون صراع الحياة. 
ثم نلمس التصاعد عندما يستأنف الشاعر فى الرباعية التالية معالجة تيمة الزمن، عندما يقول: 
عجبى علیك.. عجبى علیك یا زمن
یا بو البِدَع یا مبكيِّ عینى دَمًا
ازاى أنا اختار لروحى طریق!
وأنا اللى داخل فى الحیاة مرغمًا
عجبى !!
يربط الشاعر الرباعيتين بكلمة «عجبى»، ليؤكد على عنصرين مهمين فى تعبيره الشاعرى، أولهما المعنى الخاص لكلمة «عجبى» والثانى هو الاتصال وعدم الانقطاع القصيدى. وفى معالجته للزمن اتصال لما قبله أيضا، فالزمن الذى يغير الخلق فى الرباعية الأولى هو:
أبو البدع ، ذلك الذى ينشئ أشياء لم تكن موجودة، ولكنها تتوالد بما يشبه السحر أو على الأقل يبعث على العجب. 
هو الذى أبكاه، أى أنه لم يكن من أسرار سعادته، وإنما مفتتح لمأساته، لأن بكاءه لم يكن دمعا، وإنما دم. دم الضحية والقربان. 
أنه الدافع على الاختيار العبثى، اختيار من جاء إلى الدنيا مجبرا غير مختار. 
هل هذه هى أزمة الشاعر التى سوف تتصاعد رويدا رويدا حتى تصل إلى اكتمالها وتمامها، ونتوقع أن ما بين البداية والنهاية خط متصاعد. يقول جاهين قبل أن يسدل الستار:
قالوا ابن آدم روح وبدنه كفن 
قالوا لأ بدن. قالوا لأ دا روح فى بدن
رفرف فؤادى مع الرايات فى الهوا 
أنا قلت لأ.. روح فى بدن فى وطن
ربما أصل إلى نتيجة عجول وهى أن رباعيات جاهين، تتساوى فى ذلك مع رباعيات الخيام، هى صور وجود وحياة غير قابلة للاجتزاء ، ولا يصح، ولا يصلح إلا أن نقرأها كاملة، حتى لا نقع فى خطأ التصنيف الفقهى بالكفر والزندقة، أو الزهد والإيمان اليقينى، وهى ليست هذا ولا ذاك، قدر ما هى معركة عنيفة وسرية بين إنسان وعالمه، وربما كان البيت الأخير فيها إعلانا لعزمه مفارقة الجسد، بعد أن انكسرت الروح وأصبح الوطن منتكسا بعد 1967. 

اقرأ ايضا

في ذكرى ميلاده.. تعرف على أشهر رباعيات عمر الخيام

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة