آنى إرنو
آنى إرنو


آنى إرنو: رواياتى لم تكن إلا مقاربات غامضة للواقع

أخبار الأدب

السبت، 15 أكتوبر 2022 - 03:39 م

لقد سكبت إرنو عمراً من الصور والذكريات فى أعمالها التى اتسمت بذاتية مفرطة، منتزعة بذلك مكانة خاصة فى الأدب الفرنسى

تكمن الكتابة بالنسبة لـ «آنى إرنو» فى إبراز التجارب الحية وتسليط الضوء عليها، لاسيما تجارب النساء، حتى إن عالمة الاجتماع والروائية كريستين ديترز قارنت تأثير إرنو فى حياة النساء الفرنسيات بالتأثير الذى تركته سيمون دى بوفوار فى الأجيال السابقة. فى عام 1974 نشرت إرنو روايتها الأولى «الخزائن الفارغة».

وهى قصة قوية عن ترعرعها فى أسرة من الطبقة العاملة فى نورماندي. كانت إرنو وقتذاك قد اطلعت على كتابات عالم الاجتماع بيير بورديو ونظريته الخاصة بإعادة الإنتاج الاجتماعي. تركيزبورديو على الطرائق التى يستثنى بها النظام التعليمى أطفال الطبقة العاملة لمس وتراً حساساً عند إرنو، ففهمت مشاعر الخجل والعار التى انتابتها كونها طالبة مبتعثة، ذات خلفية مغايرة لأقرانها من أبناء الطبقة البرجوازية.


إن أكثر اللحظات حميمية فى الحياة مرهونة دائماً بالظروف التى تحدث فيها. تعبر روايات إرنو عن هذه الحقيقة من خلال استقصائها للشخصى الذى يميط اللثام عن التاريخى فى الوقت ذاته. ويتجلى ذلك فى »الخزائن الفارغة«،التى تناولت كذلك عملية الإجهاض السرية التى خضعت لها إبان سنواتها الجامعية. تقر الرواية أن كثيراً من النساء العاملات قد لجأن إلى عمليات الإجهاض بشكل سرى وأحياناً بطريقة تعرض حياتهن للخطر قبل تغيير القوانين فى فرنسا عام 1975.بيد أن الظفر بقانون منصف لا يسهل عملية البوح فتقول: «حينما يُسن قانون جديد يقضى على التمييز، يجنح الضحايا السابقون إلى التزام الصمت بحجة أن الأمر بات منتهياً الآن. لذا يظل ما حدث محاطاً أيضاً بستار من السرية كما فى السابق». 


وطد أسلوب إرنو القوى والمميز مكانتها الأدبية باعتبارها كاتبة صريحة لا تساوم ولا تهادن. وفى ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين تصدرت المشهد الأدبى بأعمالها المنتمية للسيرة الذاتية مثل رواية «المكان»،التى فازت عنها بجائزة رينودو فى عام 1984. فى هذاالكتاب تسرد إرنو علاقتها بوالدها بأسلوب تقريرى صريح أقرب إلى التحليل فتكتب محذرة القراء: «لا ذكريات غنائية، ولا عروض منتصرة للسخرية، هذا الأسلوب المحايد يحدث بصورة طبيعية».


الماضى هو المادة الخام لإرنو لكنها أيضاً تعودإلى حاضرها. وبرغم أنها تعد كاتبة سيرة غير عادية، فإنها لا تثق بذاكرتها. فتشعر أحياناً كأنها تنظر إلى نفسها فى صورة فوتوغرافية قديمة أو فى مشهد من فيلم. إنها لا تتظاهر بأن بوسعها الوصول إلى الماضى بصورة مطلقة، بل تفرغه وتفككه، فتتساءل: «ما جدوى الكتابة إن لم تكن للنبش عن الأشياء»؟ فى روايتها «السنون»، التى نالت مديحاً جماعياً من النقاد، تمزج بين السيرة الذاتية وعلم الاجتماع والذاكرة الجمعية، مبرزة أهم التغيرات الاجتماعية والثقافية التى شهدتها منذ طفولتها فى أربعينيات القرن العشرين حتى نهايته.متقصية أثر المرور الحتمى للزمن، تستقى «السنون» مادتها من كل شيء، بداية من العبارات العامة وأغانى الإعلانات والرموز الأيقونية إلى الأحداث التاريخية والقصص الشخصية. 


تكتب إرنو من منظور مباشر عن موضوعات شتى لا تُعد «أدبية»، كالجنس، والوصمات، والمرض، والشيخوخة، والخرف، وإدمان الكحول. حينما نشرت رواية «الحدث» فى عام 2000 استجاب الإعلام الفرنسى بحذر كبير. كما لم يستشعر بعض النقاد ارتياحاً من الموضوع وفجاجة الأسلوب.

وقد اعترفت إرنو أنها تعمد تكشف النقاب عما تعنيه قوانين الإجهاض الفرنسية على أرض الواقع: »برغم تكرار ذكر الإجهاض فى روايات كثيرة، فإنها لم تعرض تفاصيل ما يحدث بالفعل. كأنما هناك فراغ بين اللحظة التى تعرف فيها الفتاة أنها حبلى وبين اللحظة التى ينتهى فيها الأمر.


تسهب الرواية بأسلوب دقيق وصارم فى وصف الجو العام للحكم الأخلاقى فى فرنسا إبان فترة الستينيات، حينما لم تكن لكلمة إجهاض «موضع فى اللغة».كما تصف مشاعر الوحدة والقنوط التى انتابت الكاتبة والحالة المروعة التى كادت تلقى فيها حتفها.إنها ليست رواية عن تجربتها الشخصية والجسدية المؤلمة فحسب، بل أيضاً عن مواقف المجتمع نحو النساء آنذاك، لاسيما نساء الطبقة العاملة.

وتتكشف عبر ردود الفعل المختلفة على مأزقها. فالأب، وهو طالب من الطبقة العاملة، يتركها وحدها، والأطباء لا يبدون التعاطف الكافى لخوفهم من القوانين، وبعض أصدقائها يستغلون ظروفها.وتقر إرنو فى مستهل الرواية أن »هذه القصة قد تثير حفيظة بعض القراء أو تنفرهم، وربما أيضا تُنعتب الرواية الكريهة». 


لقد سكبت إرنو عمراً من الصور والذكريات فى أعمالها التى اتسمت بذاتية مفرطة، منتزعة بذلك مكانة خاصة فى الأدب الفرنسى ليس فحسب لقدرتها على التنقيب عن الذكريات الشخصية، بل أيضاً لإظهارها كيفية تداخل هذه الذكريات مع التجربة الجمعية بطريقة خفية وغير مرئية. وفى مستهل تسعينيات القرن العشرين أذهلت الجميع بروايتها »عشق بسيط«،التى تحكى علاقتها الغرامية بدبلوماسى متزوج، مستكشفة الرغبة فى تفصيل فاتن وحسي، ومجرد من النزعة الأخلاقية.

فى تلك المرحلة، تخلصت إرنو من واجهة الخيال، ولاقى الكتاب، الذى بيع منه 200 ألف نسخة فى شهرين، انتقادات لاذعة من جانب المحافظين.بيد أن العديد من القراء وجدوا أنفسهم فيه، وغمروا إرنو برسائل يعترفون فيها بأنهم تمنوا لو كانوا قد كتبوه.


لم تكن الكتابة سهلة دوماً لإرنو: «كأنى لم أسطر كتاباً من قبل. لم تكن لرواية السنون أى فائدة عندما شرعت فى كتابة قصة فتاة».جل ما تخشاه إرنو أن تعجز عن النظر إلى داخلها وأن تعيد السنوات الكرة وتذوى ذكرياتها مثلما تلاشت من ذهن أمها جراء إصابتها بألزهايمر فتقول: «الحق أنى أتمنى الموت عن أن أفقد كل شيء رأيته وسمعته. إن الذاكرة بالنسبة لى معين لا ينضب أبداً».


كان الزمن حليف إرنو؛ فقلما تلقى أعمالها اليوم انتقادات فى العالم الأدبى الفرنسي، بل إن معظمها تُعد من الكلاسيكيات. وقد تُرجمت إلى ما يربو على 36 لغة، وتناولتها الكتب والأطروحات داخل فرنسا وخارجها. وبعد ما كان يُستخف بها فى البداية لكونها «مدرسة صغيرة من الإقليم»، ولأنها «امرأة تكتب عن نفسها»، صارت توصف اليوم بأنها «فوق النقد» و«الأسطورة الحية»، حتى إن بعض النقاد شبهها بمارجريت دوراس. هذه المكانة اكتسبتها بعد عمر مديد من العمل الدؤوب فى عملية التذكر واستكشاف مناطق جديدة فى أدب السيرة الذاتية.


لقد كرست آنى إرنو جهدها لمهمة واحدة وهى كشف النقاب عن حياتها. لكنها تتساءل دوماً فى كل عمل عن كيفية التيقن من صحة ذكرياتها: «سأجرؤ على القول إن أعمالى السابقة لم تكن إلا مقاربات غامضة للواقع». فى «قصة فتاة»، تتحدث عن وفاة والدتها. ثم تعود مجدداً إلى تلك اللحظة بعد عقد لاحق تقريباً فى رواية «أنا أستلقى فى الظلام» (1997).

وتعترف أن ذكرياتها غير مكتملة، وأنها لم تصف بصورة كاملة فظائع الخرف والتدهور المعرفى الذى أصاب أمها على المدى الطويل. فى هذه العودة الجديدة تتسلح بصوت ثابت ومتماسك؛ إنه صوت الأنا الباحثة والعلمية. ومن ثم تتقلص رواياتها إلى جوهر مكثف، فلا يمكن اعتبارها اعترافات بل ضرب من الابستمولوجيا الذاتية.  

اقرأ أيضا | الأكاديمية السويدية تعلن حيثيات فوز الكاتبة "آنى إرنو" بجائزة نوبل للآداب 2022


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة