اللوحات للفنان: محمود سعيد
اللوحات للفنان: محمود سعيد


عبد الله بن محمد يكتب : صلاة المغرب

أخبار الأدب

السبت، 22 أكتوبر 2022 - 03:54 م

أبحثُ عن مسجدِ السيدة زينب. لم أذهبْ إلى هناكَ من قبل. الشوارعُ مزدحمة، والفوانيسُ والزينةُ فى كل مكان. قدماى تؤلماننى من السيرِ الطويل. ها هو المسجدُ أخيرًا يقفُ أمامى شامخًا (كم هو عظيم!)؛ أنظرُ إلى قبته المنتفخة كامرأة حبلى، ومئذنته الطويلة التى تكاد تصل للسماء. أتمنى لو ألمس قمتها العالية.


(تعالَ فى حضنى يا كمال. بتسألني: كنتِ فين؟، كنت فى السيدة زينب يا حبيبى؛ عند المسجد. حفيدة الرسول.. السيدة زينب، فى ضريحها بركة ما بعدها بركة، كفاية وقوفك قصاد الضريح وتدعى فيتقبل الله دعاك. دعيت لك كتير يا نن عينى).


يلفتُ نظرى قبتان صغيرتان أمام المسجد. أسألُ بلهفةٍ عجوزًا سمينة تجلسُ عند السورِ الحديدى بجوارِ البوابةِ الحديدية وكأنها قبةً من القباب:


هو دا ضريح السيدة زينب؟
لأ يا ابنى، دول ضريحين، للعتريس والعيدروس..
وقبل أن أعرفَ من هما، تضعُ العجوزُ كُتيبًا صغيرًا فى حجمِ إصبعين أو أصغر فى يدى مكتوبٌ عليه (القرآن الكريم). أنظرُ إلى الكتيبِ ثم إليها دونَ حركة، فتقولُ فى توسلٍ بوجهها الأبيض: «ادينى حاجة لله يا ابني..». أخبرها بعد لحظةٍ أن ما فى جيبى بالكادِ يكفى المواصلات. تتناولُ العجوزُ الكتيبَ فورًا وتلتفتُ إلى الناحيةِ الأخرى وكأنى غير موجود.


المسجدُ مغلق؛ لم تعُد المساجدَ تُفتح غير وقتِ الصلاة منعًا للتجمعات (لعن اللهُ الكورونا!). أتساءلُ عن ميعادِ صلاةِ المغرب. لا أعرفُ على وجهِ التحديد، فأنا لا أصلى عادةً؛ لكن، على أيةِ حال، الشمسُ على وشكِ الغروب.


أعطى ظهرى للمسجدِ وأعبرُ الطريق. أسيرُ مستكشفًا المكان، وأتفرجُ على النساءِ وبعضهن يشترين الملابسَ وأخريات يشترين حاجاتِ رمضان.


أخرِجُ آخرَ سيجارةٍ من جيبِ بنطلونى الجينز الكحلى وأشعلها. أدخلُ خلفَ امرأةٍ ترتدى عباءةً ضيقةً تظهرُ تفاصيلها، أدخلُ خلفها شارعًا جانبيًا فيه الكثير من بائعى الملابس الحريمى، وسوبر ماركت صغير، ومسجد على الطرازِ القديم. أتوقفُ أمامه للحظاتٍ، وأتأمله دون هدف.


ثم، أعودُ من حيث أتيت...
يتغيرُ لونُ الثلاثِ قباب والمئذنة للونِ الأخضر. أتأملها وأتذكر حديث جدتى عن المسجد، وعن حفيدةِ الرسول، السيدة زينب، وضريحها المبارك، وعن الدعاءِ الذى لا يُرد أبدًا فى هذا المكان.
- الله أكبر الله أكبر.. الله أكبر الله أكبر.


أبتسمُ مع تكبيراتِ المؤذن. (أخيرًا سأدخل المسجد. أخيرًا سألتقى بحفيدة الرسول) أسحبُ نفسًا أخيرًا من السيجارةِ التى أشعلتها منذ قليل، ثم ألقيها على الأرض. وقبل أن أتجه ناحية المسجد، تمرُ المرأةُ ذات العباءةِ الضيقةِ من أمامى ومعها شنطة ممتلئة بالملابس فيما أظن، فلا أستطيع إلا أن أتبعها بعينين جائعتين. تقفُ عند عصارةِ قصبٍ على يسارى وتطلبُ كوبًا كبيرًا.

تجلسُ على كرسى بلاستيكى فتملأُ بردفيها جانبى الكرسى. يناولها العصارُ السمين كوبَ القصبِ المنفوخ وعيناه على صدرها المنتصب أمامها، فتأخذه منه واقفةً نصف وقفة (آه!)، ثم تجلسُ مرةً أخرى على الكرسي. تضعُ الكوبَ على شفتيها الغليظتين، وتبدأُ فى تجرعِ القصب، فتأتى عليه مرةً واحدة.


يباغتنى صوتُ المؤذنِ بالإقامة: «الله أكبر الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله». أنظرُ للمسجدِ بقبابه الثلاث ومئذنته العالية، ثم إليها وهى تدفعُ الحساب، ثم للمسجدِ مرةً أخرى. أعبرُ الطريقَ ناحية المسجد، وأتجه نحو البوابةِ الحديدية. أرنو للعجوزِ السمينة.

وأعبرُ البوابةَ فى صمت. أقفُ أمام مدخلِ المسجد، وأخلعُ حذائى الأبيضَ غير النظيف. أحمله، وأدخلُ متأملًا القناديلَ المتدليةَ من سماءِ المسجد. أسألُ الرجلَ الواقفَ على اليسارِ عند دولابِ الأحذيةِ عن الميضة. يخبرنى باقتضابٍ أنها مغلقة!


سمع الله لمن حمد.
أنظرُ للناسِ وهم يصلون. أرددُ معهم: «ربنا ولك الحمد». أخرجُ من المسجدِ متحسرًا. وأجلسُ على الدرجِ أمام البوابةِ، وأنتعلُ حذائى الأبيضَ غير النظيف. يركضُ نفرٌ ناحية البوابةِ ليلحقوا الركعةَ الثانية. يخلعون أحذيتهم بسرعةٍ ويدخلون. يتوقفُ أحدهم أمامى، يرتدى قميصًا مُقلمًا وبنطلونًا قماشيًا ويضع فوق أنفه نظارة بإطارٍ معدنى. يسألنى:
أنت خرجت وماصليتش ليه؟
مش متوضي، والميضة مقفولة..
فيصيحُ بنبرةٍ غاضبة:
أقلع جزمتك وقم صلى!
أخبره للمرةِ الثانية أنى لستُ على وضوءٍ، وأن الصلاةَ بغيرِ وضوءٍ حرام، هكذا قالَ الشيخُ فى خطبةِ الجمعةِ الماضية. يصيحُ بنبرةٍ أكثر شراسة:
باقولك قم صلى، ماتخليش الشيطان يرجعك!
أردُ بنبرةٍ خافتة، وأنا أنظر إليه من أسفل: حرام!، فيسألنى بنفسِ النبرة الشرسة:
أنت مُحدث؟
لأ..
على جنابة؟
لأ..
لم أفهمْ معنى الكلمتين، لكنى شعرتُ أنه يتهمنى بالسوء، فنفيتُ فورًا دون تفكير. يصرخُ فى وجهى حانقًا:
يبقى قم، ماتخليش الشيطان يسيطر عليك..
لم أقتنع، ولم أقم.


أنظرُ له صامتًا وهو يصيحُ أمام بوابةِ المسجدِ. يحاولُ إدخالى عنوة. أبتسم. أتذكرُ جدتى وحديثها عن المسجد، وعن حفيدةِ الرسول، السيدة زينب، وضريحها المبارك، وعن الدعاءِ الذى لا يرد أبدًا فى هذا المكان.


أدعو اللهَ أن ينتهى كل ذلك..
يجذبنى الرجلُ ذو القميصِ المُقلمِ والبنطلونِ القماشى والنظارةِ ذات الإطارِ المعدنى، وهو يصيحُ محاولًا إدخالى..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. السلام عليكم ورحمة الله.

اقرأ ايضا | في ظلال مساجد الأضرحة .. تعرف على مسجد حفيدة الرسول السيدة عائشة

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة