بهاء طاهر وصافي ناز كاظم
بهاء طاهر وصافي ناز كاظم


بهاء طاهر: الصورة التى لم يفسدها توقيت صافى ناز الخاطئ

أخبار الأدب

السبت، 05 نوفمبر 2022 - 02:07 م

تُعوّل نظرية التلقى على المنظور الذاتى بوصفه المنطلقَ الأساسى فى التحديد الموضوعى، إذ لا وجود لأى موضوع أو ظاهرة خارج الذات المدرِكة. والذاتية هنا تعنى خلاصة تجربة القارئ ومعارفه وخبراته التى تتحكم فى مشاعره وأحاسيسه وأفكاره التى يتلقى على أساسها نصًّا أدبيًا، أو عملا فنيًا أو خلاف ذلك من منتجات الحياة ومواقفها.

فهل تؤثر معرفة القارئ بالكاتب على طبيعة تلقيه لأعماله؟ هذا سؤال شغلنى لفترة، وعَلا صوتُه داخلى عندما عملت بالصحافة الثقافية واستمعت إلى حكايات الأدباء والمثقفين عن أدباء آخرين أو تجاربهم المباشرة معهم. وعلا الصوت أكثر عندما التقيت بعدد من الكتّاب والأدباء والشعراء فصار بينى وبينهم تواصل وتعامل مباشر، أو جرت العلاقة فى مجرى المعرفة والصداقة، فصارت عندى صورة للشخص لا يمكن بسهولة فصلها عما يُنتجه أو فصل ما يُنتجه عنه. 

تأثير المعرفة فى التلقى أمر لا مفر من التعرض له، سلبًا أو إيجابًا. ولعل القول الذى يردده الكثيرون عن «حجاب المجايلة» الذى يفرض حالة من تقليل أو تضخيم الشأن، وأحيانا الإنكار، وربما الصراع بين المبدعين المنتمين إلى زمن إنتاج واحد، تجعل أحدهم لا يُقدّر الآخر حق قدره؛ هذا القول ابن هذه الحالةِ نفسها التى تتناولها نظرية التلقى فى إطارها العام. 

فالمعرفة بأحوال الشخص ومعايشته عن قرب لا شك تترك أثرها على حالة تلقى أعماله. ثمة استدعاءات قسرية لتفاصيل شخصيته الواقعية ومواقفه فى الحياة، تحدث خلال تلقى منتجه الفنى، فتنتقل بحالة التلقى إلى مساحة أخرى، تجعلها فى حاجة إلى جهد إضافى مختلف، فقط، من أجل العودة بها إلى حالة التلقى الطبيعية، إن كان الأمر ممكنًا.


الأمر أشبه بما يحدث من استنكار الأقارب، وأفراد الأسرة، أو زملاء مقاعد الدراسة، على فلان -الذى يعرفونه فى إطار صورة ذهنية محددة- أن يصبح فى مشهد آخر صاحب هذه التجربة أو غيرها من التجارب المقدرة فى إطارها الفنى أو الإبداعى. أو على النقيض؛ ما قد يفعله هؤلاء من تضخيم صورة هذا الزميل أو القريب، تقديرًا حقيقيًا لما جمعه بهم من لحظات، أو إعلاءً لذواتهم عبر إعلاء شأن من تربطه بهم هذه الصلات. 

خارج نظرية التلقى، ثمة مثل شعبى يقول «ما عدوك إلا ابن كارك»- والكار تحوير للفظة كارير Career الإنجليزية- يلخص كيف تتحول «زمالة الكار» إلى منافسة تستدعى عدم الاعتراف بتفوق المنافس أو على الأقل عدم إعلان هذا الاعتراف. 

التعقيد الذى تضيفه فكرة الزمالة فى حقل إنتاج واحد بما يخلقه من منافسة، وما يثيره من مشاعر غيرة وعداوة بين أبناء الكار الواحد فى الزمن الواحد، يعيدنا إلى داخل نظرية التلقى، خاصة حين نضع عنصر الزمن فى الاعتبار؛ فالأحوال فى جيل الستينيات والأجيال السابقة عليه واللاحقة له -قبل سقوط حراس البوابات وانتهاء حالة السيطرة على مصادر الانتشار الإعلامى وتحقق الشهرة ونيل الاعتراف... تختلف كليًا عن أحوال العصر اللاحق الذى تعددت فيه وسائل النشر والانتشار والتعبير بشكل سمح بتعدد الأصوات وتفتيت الشهرة وتعدد الجماهير، فتفتت أيضًا حلبات التنافس وتنوعت.

بالسلب أو بالإيجاب... هذا شَرَكٌ نفسى -من النفس البشرية- لا تنجو منه إلا القلة، حتى ممن تحصنوا بالدراسات الأكاديمية، وكان لهم نصيب من الدراسة والقراءة والعقل الناقد. ينجو فقط من ينأى بنفسه عن عمد ووعى وبدافع أخلاقى ومهنى بحت عن الإدلاء برأيه إذا خالطته هذه العاطفة، إذا انتبه إليها، والانتباه نفسه وعى وفعل سَوى.

ومن منا السوي؟ أو على أقل تقدير أن يتجنب التظاهر برأيه فى أوقات لا تسمح للناس بالاتكاء على حسن النوايا. من لم يتجنب ذلك لا مفر من اتهامه -فى أدنى الحدود- بعدم التوفيق فى اختيار الوقت، وهو عدم توفيق راجع بلا شك إلى خضوعه لسيطرة هذه العاطفة السلبية التى تحكم عملية التلقى وتنفى عن رأيه الحد المناسب من الموضوعية. 

الأمر الذى عزز رغبتى فى الاستعانة بهذا المدخل بينما أحشد نفسى للكتابة عن الإديب الراحل الكبير بهاء طاهر، هو لعبة «سرقة الكاميرا» التى مارستها -بقصد أو من دون قصد- الكاتبة والناقدة الأستاذة صافى ناز كاظم، التى تصدَّرَ تعليقُها عن شخصِ وإنتاج الأديب الراحل -الذى كتبته على موقعها الشخصى للتواصل الاجتماعي- واجهةَ حدث رحيله، فصار كل حديث عن الرجل أو عن إنتاجه فاتحة لحديث عن هذه العبارات وعن صاحبتها.


وسرقة الكاميرا لعبة يمارسها «عتاولة» التمثيل من أصحاب الخبرة لسرقة انتباه المشاهدين وتوجيهها إليهم خلال أداء مشهد تمثيلى، عبر إتقان اختيار الوقت أو زاوية الحركة لقول جملتهم فى السيناريو أو تلوينها أو الخروج حتى عن النص بمهارة تجعل المشهد كله لصالحهم.

ولا قيمة لهذه اللعبة إلا إذا كان الممثل الذى يسعى لسرقة المشهد قديرًا، من المشهود لهم فى فنه. ولا يتحقق الصدى اللازم منها إلا إذا كان الممثل على الطرف الآخر أيضًا من العيار الثقيل.


إذن، من حيث لا تحتسب الكاتبة القديرة صافى ناز كاظم فقد أدلت بشهادتها، التى يختلف تأويلها عن المقصود المباشر لمفرداتها، إذ تقول ضمنًا: هذا أديب متحقق ذائع الصيت، له حضور ثقيل إنسانيًا وإبداعيا جدير بمحاولة سرقة المشهد منه، بوعى أو من دون وعى. 


لم أستطع تجاوز هذه الفكرة أيضًا، لأن الحياة جمعتنى ببهاء طاهر الإنسان من مدخل شديد الرهافة، قد يبدو للكثيرين بسيطًا، ولكنه صبغ علاقتى به إلى الأبد بصبغة لا يمكن تجاوزها، بحيث صار كل رأى لى فى ما كتب، مشوبًا بالصورة التى تأسست خارج الكتابة، صورة تدمغ حالة التلقى بما لا يمكن تجنبه من مشاعر وانطباعات؟
أفكر الآن إذا ما كان علىَّ إظهار الامتنان للأستاذة القديرة صافى ناز كاظم لأنها بعبارتها فتحت لى باب نقل هذه التجربة الشخصية فى كتابة داخل ملف يحتفى بالراحل الكبير! فلولا اختيارها الخاطئ للتوقيت لما امتلكت هذه الشجاعة.

ولقد كان سؤالى بسيطًا: من أى زاوية أكتب عن بهاء طاهر؟ من زاوية القارئ – المستمتع، الذى قرأ تقريبًا كل منتجه القصصى والروائى والنقدى، وحفظ اسمه من كثرة ترديده مقرونًا بروائع المسرح فى الإذاعة التى أدمن متابعتها فى صباه خلال أيام المذاكرة؟ أم من زاوية القارئ -الكاتب، الذى يقرأ هادفًا الإلمام برموز النوع الفنى الذى يُنتج فيه أو يكتب عنه؟

وهل يمكن أن أفعل ذلك بمعزل عن خبرة التعامل المباشر مع الرجل التى حدثت فى لحظة فارقة من مراحل تجربتى فى الحياة؟ ماذا لو أننى قرأت تجربته فأحببتها بدافع من هذا الموقف؟

وماذا لو أننى أحببتها لأنها بالفعل كما أحسستها تجربة شديدة الرهافة توحى بانشغال حقيقى بالقضايا التى يعالجها وبلغة سلسة خالية من الإحساس الرسولى الذى شاب تجارب الكثيرين من رواد الكتابة القصصية والروائية من جيل الرواد والأساتذة، وجعلنا نستقبل الكثير منها من باب «المعرفة بالشيء» أكثر من باب الاستمتاع والتأثر به؟ 


يبقى فقط أن ألخص القصة البسيطة التى جمعتنى بالإنسان بهاء طاهر، الذى كان إلى جوار إبداعه الفارق، شخصًا شديد التحضر والإنسانية.
 سنة 1996، وكنت أنهيت الدراسة الجامعية قبل شهور قليلة، قرأت عن مسابقة تنظمها أخبار الأدب للقصة القصيرة بالتعاون مع القوات المسلحة المصرية فى مجال أدب الحرب. مررت بجريدة الأخبار وتركت قصتى «عرنوس يُصلب من جديد» فى الاستقبال ورحلت. وصلنى بعد فترة خطاب من الشئون المعنوية بأننى من الفائزين، ودعوة لحضور حفل توزيع الجوائز وموعده ومكانه. 


فى الحفل فوجئت بأن لجنة التحكيم ضمت نخبة من الكبار، الأستاذ بهاء طاهر، والأستاذ جمال الغيطانى، والأستاذ إبراهيم أصلان، وغيرهم، وتسلمنا الجوائز من يد الأستاذ سعد الدين وهبة.


مما لا أنساه ليلتها حوار الأستاذين جمال الغيطانى وبهاء طاهر المتبادل بينهما حول قصتى الفائزة خلال الجلسة التى جمعت الفائزين بلجنة التحكيم، فى أعقاب توزيع الجوائز. يتحدث كل فائز سريعًا عن نفسه وتجربته مع تعليق أو أكثر من بعض أعضاء اللجنة. 


حينما جاء دورى وقلت اسمى وعنوان قصتى، تبادل الأستاذان الغيطانى وطاهر نظرةً شعرت أنها ذات مغزى فارتبكت، وكنت بالكاد غادرت عامى الثانى والعشرين. لاحظ الأخير انتباهى للنظرة فبادر بالقول إنه أراد تصنيف القصة فى مركز متقدم تقديرًا لتقنيتها المختلفة وشحنة الشعرية العالية فيها.

ولكنه وجد أن الأستاذ الغيطانى للسبب نفسه قد فكر فى استثنائها من التحكيم ومنحها شهادة تقدير. وكان أن اتفقا بعد تشاور منحها مكانة الوسط، فكانت فى المركز العاشر بين عشرين قصة. 


هذا أول الخيط، أن ينتبه الأستاذ بهاء طاهر إلى ما أثارته النظرة التلقائية فى نفسى فيبادر بالتوضيح. ثم جاء ما لا يُنسى منه. بعد انتهاء الحفل، دعانى لزيارته فى مكتبه باتحاد الكتّاب فى وسط الأسبوع وأن أصحب معى نماذج من كتاباتى.

وعند أول وسط أسبوع كنت هناك. فى مكتبه طلب لى قهوة، استقبلنى هاشًّا باسمًا، كأننا صديقان، طلب لى القهوة، وقال إن احتجت غيرها فاطلب. ثم جلس لساعتين تقريبًا يقرأ ما أحضرته من نماذج شعر وقصة. لم يعلق، سحب استمارة التحاق بالاتحاد، عبأها بما طلب منى من بيانات، كتب توصية.

وقال سأستكمل اجراءات العضوية، وكانت تشترط توصية عضوين آخرين من الاتحاد لأننى لم أكن نشرت كتبا بعد. كتب لى رقم منزله وقال: كلمنى يوم كذا. فعلت، فقال لي: مبروك، الغيطانى والأسوانى وقعا على الطلب، يوم كذا تمر بمقر الاتحاد لتجد اسمك على لوحة العضويات الجديدة. وهو ما حدث.  وما زلت أحتفظ ببطاقة عضوية منتسب إلى اتحاد كتاب مصر بصورة طفل فى الثانوية العامة.


ربما فقط لكى يكتمل المشهد، بعد سنوات طويلة سنة 2008 زرت الأستاذ بهاء طاهر فى روتانا الشاطئ فى أبوظبى حين حضر لتسلم أول جائزة للبوكر، حكيت له القصة سريعًا أثناء الجلسة فى بهو الفندق، ابتسم ابتسامته التى تقطر خجلًا جميلًا وقال: كنت أقوم بواجبى. فهل يجود الزمان بمثل بهاء طاهر؟

اقرأ ايضا | درس الأستاذ بهاء طاهر

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة