الأديب بهاء طاهر
الأديب بهاء طاهر


الأديب بهاء طاهر: فن الاعتراض

أخبار الأدب

السبت، 05 نوفمبر 2022 - 03:25 م

«الدنيا التى أحلم بها نغم لا عِراك..»
ربما كانت هذه العبارة التى كتبها بهاء طاهر فى روايته « قالت ضحى»، هى الفكرة التى تجلّت حولها حكمته طوال حياته، والوتد الذى استند إليه مشروعه الأدبى بدايةً من الستينيات وحتى رحيله قبل أيام. 


فإذا اعتبرنا النغم الذى يقصده يتمثل ضمنيًا فى الخير، الأمل، العدل، المحبة وغيرها من المعانى الإنسانية، فإن العِراك على النحو الآخر يتمثل فى الشر، اليأس، الظلم، الكراهية وغيرها من المعانى المضادة. وربما يكون هذا الانسجام الذى خلقه بهاء طاهر بين كل تلك الثنائيات فى أعماله هو السبب الأساسى فى جعل مشروعه الأدبى صادقًا ومتفردًا، مشروعًا يعتبر الحب مكونًا أساسيًا لمادته فى الوقت الذى رأى فيه كتاب كثيرون الكتابة عن الحب فكرة تخصم من أعمالهم أكثر مما تضيف إليها.

كنتُ أتمشى فى محطة الرمل قبل عدة سنوات حين وقعت عيناى لأول مرة على المجموعة القصصية «بالأمس حلمت بك»، وكانت من أول النصوص التى قرأتها لبهاء طاهر. تعلقتُ بالكتاب لدرجة أننى صرتُ أحمله معى فى كل مكان؛ أقرأه فى المواصلات، فى المقاهى، فى عيادة الطبيب وأحيانًا فى العمل.

وكنتُ مغرمة بالقصص القصيرة وقتها وتعلمتُ منه كيف يستطيع كاتب خلق قصة متماسكة من أحداث يومية شديدة العادية. كانت تجربتى الأولى فى التعرف على فن خلق الدهشة من المألوف؛ الدهشة التى لا تتكئ هنا أبدًا على الفكرة المبهرة، بل على إيقاع النص؛ المبهر فى هدوئه وعذوبته.

والذى لابد وأن ينعكس بشاعريته الواضحة داخلك وأنت تقرأ. كان الأمر فى ذلك الوقت أشبه بعصفور يهمس فى أذنك برقة، لا يغويك برومانسية زائفة كما يبدو الأمر، على العكس تمامًا، بل يُخبرك الحقيقة كاملة لكنه يؤطرها بقصة حب، كأنه يؤطر مرآة مثبتة فى الشارع بفصوص من الألماس! 


يقول: "وعندما قابلتُ فتحى سألنى إن كنت قد قرأت فى الكتاب، قلت: لا، هزّ رأسه فى حزن وقال: خسارة، روحك شفافة، ثم دفع سبابته فى صدرى وقال: يمكن أن ينبت بستان فى صدرك. قلت له: إن صدرى مثقل بما فيه الكفاية. فقال: فى هذه التربة ينبت البستان. دفعتُ سبابتى فى صدره وقلت: يكفى بستان واحد فى المكتب، وانصرفتُ عنه."


ويقول: «هناك زهور لكل وقت وليس الربيع فقط».
وفى رأيى إن بهاء طاهر قد استطاع أن يكون زهرة تنبت فى فصل الخريف؛ يتربع داخل مساحة شديدة الخصوصية لا ينافسه فيها أحد، ذلك لأنه أصرّ ببساطة أن يزرع عاطفة فى كل حكاية.

أو أحيانا خيط عاطفة مثل تلك التى نشأت بين بطل قصته بالأمس حلمت بك و"آن ماري" فتاة مكتب البريد، أو حبًا متأججًا مثل الذى كان بين بطل الحب فى المنفى و" بريچيت شيفر"، أو حبًا منكسرًا مثل الذى كان بين البطل و"ضحى"، أو حبًا متوترًا ومرتبكًا مثل الذى بين بطل واحة الغروب وزوجته "كاثرين".. قادرًا من خلال كل هذه النصوص أن يخترع صيغًا مختلفة للاعتراض على الظلم والقهر والألم والغربة والخوف وكل أشكال المعاناة دون أن يُحرّض ولا مرة على فقدان الأمل. 


حتى ضياع الأحلام، لم تخلو الكتابة عنها من صياغة لأحلام جديدة. وما إن أنظر إلى مشروع بهاء طاهر كاملاً، ليس مشروعه الأدبى وحسب بل والإنسانى أيضًا، حتى يُخيل إلى أنه لم يُعانِ من أزمة نفسية أبدًا! حيث كان يقينه بوجود الأمل تحت ظل كل الأزمات التى عاصرها يصارع الأفكار السلبية التى خلقتها حالة اليأس من تحقق العدل فى البلاد إثر فشل الثورات وانعدام الثقة فى السلطة، يصارعها وجهًا لوجه، فيقول: «طلب العدل مرض.

ولكنه المرض الوحيد الذى لا يُصيب الحيوانات». ويقول: «قد لا ينقذ من يطلب العدل العالم ولكنه ينقذ نفسه» ويقول: «كان عيدًا وانتهى. كان كابوسًا وانتهى. «كان ما كان، وانتهى». ويقول: «إن الهزيمة لا تنزع البطولة من الثوار».


تجعلنى تلك الأفكار أتساءل: هل يأس بهاء طاهر من حال بلاده فى يوم من الأيام؟! 
ربما! لكنه لم يُعلن عن يأسه حتى آخر حياته؛ لأنه كان حكيمًا، نبيلاً، حنونًا بأولئك الذين صنعت الأيام جروحًا غائرةً فى نفوسهم، رفيقًا حتى باليائسين الذين لا يعرفهم، أولئك الذين قرأوا له بحثًا عن مخرج من ذلك الحزن وذلك اليأس، فقد كان يُمثل بالنسبة إليهم مصدرًا لضوء ما فى نهاية النفق "النور نور لأن ضوءه يُبدد ظلمة النفس ويجلو البصيرة."

وفى المقابل كان بهاء طاهر يعبر بعمق ووعى شديدين عن حياتهم ، بكلمات يمكنك أن تسمعها كل يوم فى الشارع، فى البيت، فى العمل.. يكتب كلمات بسيطة عن حياة معقدة، يعكس حقيقة واقعهم دون أن يُشارك فى وأد أحلامهم؛ مثل طبيب قرّر أن يغسل الجرح بالماء لا بالكولونيا، حتى وهو يعلم أن الماء لن يُطهر الجرح كما ينبغي. يفعل ذلك كى لا يؤلم صاحبه مثلما تألم هو من قبل، ثم يُضمد مكان الجرح برفق. 


كان بهاء طاهر من أكثر الكتاب براعة فى كتابة حكايات الآخرين على أنها حكايته، وليس العكس كما يفعل معظم الكتاب فى اجترار مخزون حياتهم من تفاصيل ومشاعر وعكسه على أبطال حكاياتهم، فعند قراءتك لنصوصه لن تشعر أبدًا بأنه يقاوم أن يكون حاضرًا فى الحكاية بكل تفاصيله الشخصية، حتى يُهيئ للقارئ بأن معظم نصوصه مرآة لحياة كاتبها.

وفى نفس الوقت هو من أكثر الكتاب الذىن اعتمدوا على طرح أفكاره وآرائه وقناعاته على ألسنة أبطاله، بانسيابية تلفت إلى أن كاتبها يمتلك الحكمة ويقرأ واقع الحياة عالمًا بكل الأمور دون أن يتباهى يومًا أنه يعلمها، وبشاعرية تحقن كل اعتراض على حال ما بنوع من المحبة.


فى اليوم الذى عرفتُ فيه خبر رحيله سحبتُ روايته «قالت ضحى» من رف المكتبة، فتحتُها فوجدتُ بين الصفحات وردةً مجففة لا أتذكر متى وضعتُها هنا، ولا متى قطفتها أو تلقيتها من أحدهم، ولا مَن أهدانى إياها! فقط تذكرتُ آخر قصة قرأتها له وكانت قد نُشرت منذ فترة فى إحدى الصحف الإلكترونية.

وتعجبتُ حينها من أنه ما يزال يستطيع بعد كل تلك السنوات أن يكتب عن الحب! يكتب عنه بعذوبة وصدق وطزاجة شاب فى العشرينات لازال أمامه عمرا ليختبر عشرات القصص، ليحب ويسعد بحبه أو يُخفق. 


ربما كان مُحقًا حين كتب: «الإنسان لا يُقرر أن يحب، الإنسان يحب، هذا هو الأمر."، وحين عبّر عن الالتباس فى الحب فقال: "لا أعرف أسماء الزهور ولكنى أحبها، لا أفهمك تمامًا ولكنى أحبك.»، ربما كان بهاء طاهر حقًا هو زهرة الخريف التى ليس لها مثيل، وربما لو لم يُطعّم حكاياته بكل قصص الحب تلك، لما ترك خلفه كل ذلك الأثر الحانى.

اقرأ ايضا | بهاء طاهر: الصورة التى لم يفسدها توقيت صافى ناز الخاطئ

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة