الأديب بهاء طاهر : غياب (الونس)
الأديب بهاء طاهر : غياب (الونس)


الأديب بهاء طاهر: غياب «الونس»

أخبار الأدب

الأحد، 06 نوفمبر 2022 - 01:54 م

في ظهور نادر وعزيز بالقياس إلى فترة احتجابه التي امتدت لنحو ستة أعوام أطل الأستاذ بهاء في فبراير قبل الماضي عبر فيديو قصير أعدته ابنته (يسر).

وجه فيه الشكر (لمن أحبوه) وخصني بالذكر أنا والصديقة الروائية سحر الموجي لأننا قبلنا دعوة الأستاذة ليال الرستم من مكتبة ديوان للمشاركة في احتفال افتراضي أعدته المكتبة لأجل عيد ميلاده.

وكانت المناسبة عزيزة، لكنها خلعت القلب خلعا وجعلتنا وجها لوجه مع حالته الصحية التى أنكرناها كثيرا، وتواطأنا جميعا على تجاهلها ونسيانها لمقاومة نسيانه.

نجحت عائلة الأستاذ في الحفاظ على صورته التي نعرفها، أنيقة كما أرادها دائما حيث لم يكن يطل إلا وهو في الـ(بهاء) وبالمثل حرص من أحبوه على احترام عزلته ليضمنوا له أياما هادئة خالية من لعبة «تبادل الألم».. فلم تكن مشاركتي مع سحر في الاحتفال بـ(بهاء) هي الأولى، فقد اختارنا قبل تسع سنوات لنشاركه الظهور في برنامج تليفزيوني كان يقدمه الكاتب الكبير عبد الله السناوي، على شاشة قناة التحرير.

واختار معنا الناقد البارز الصديق محمد بدوي، قبل أن ندخل استديو التصوير ضحكنا حين قال للسناوى (أنا جبت ناس بيحبونى علشان الكلام يبقى خفيف، والامتحان يبقى ساهل)، وخلال الحلقة حكينا كيف عرفنا بهاء طاهر وقلت إن مسيرتى المهنية ارتبطت به ارتباطا وثيقا، فأول مقال كتبته بغرض النشر كان حول أعماله الكاملة حين صدرت فى طبعتها الأولى.

كنت قبلها قد وقعت في غرام كتاباته عندما قرأت «أنا الملك جئت» ثم «بالأمس حلمت بك» حين صدرتا فى سلسلة مختارات فصول التي كانت رفيعة القيمة ويندر أن تجد فيها عملا ضعيفا، فقد حكمتها ذائقة إبراهيم أصلان الفنية وصرامة سامى خشبة ووعيه النقدي الحاد. 

أذكر إلى اليوم الأثر الذى تركته داخلي الكثير من قصصه بفضل تركيزها الرهيف على الفجوة بين الثقافات، وتناولها لندوب الفقر كعنوان لقهر لا ينتهي، وقرأت بعدها مجموعة «الخطوبة» وأحببت منها قصة «المظاهرة» التي شاعت كموضوع للدرس النقدي.

والمؤكد أن اكتشاف «قالت ضحى» كان محطة فاصلة في وعى جيلى بأكمله، ساعدتنا الرواية على أن نضع المشروع الناصري في إطاره الصحيح، وأتاحت لنا الفرصة لمراجعته على خلفية قصة حب من نوع لا يمكن تفاديه.


كانت «ضحى» بطلة بمواصفات مختلفة، طبعت أرواحنا بـ «الحنين» وأمدتنا بروح شعرية تحول معها اسم بهاء طاهر إلى ماركة مسجلة، لذا ظلت موضوعا لنقاشات لا تنتهى داخل شلة الجامعة التى ضمت أسماء صارت فاعلة فى المشهد الأدبى بعدها مثل ياسر عبد اللطيف والشاعر أحمد يمانى والشاعرة جيهان عمر والروائى حمدى الجزار والمسرحي الراحل محمد أبو السعود والناشط عبد الناصر إسماعيل «جوني».

دارت الرواية في طبعة روايات الهلال بين أيدى هؤلاء وغيرهم لذلك لم يكن غريبا أن يرشحنى ياسر عبد اللطيف لأكتب عنها بعد تخرجنا هى وبقية أعمال بهاء طاهر حين صدرت عن دار الهلال.

وقدمني ياسر للناقد إبراهيم منصور الذى لم أكن أعرفه، ودلني على بيته في المعادي لأحصل على النسخة وأكتب عنها لباب كان يحررها لمجلة «الهلال» تحت عنوان «من الهلال الى الهلال»، وكعادته التي عرفناها بعدها لم يكمل منصور تجربة العمل المنتظم واختلف مع رئيس تحرير الهلال ولذلك لم ينشر المقال لكنه احتفظ به وسلمه لبهاء عندما جاء من جنيف فى إجازة.

وقرأ بهاء المقال وأرسل في طلبي وأوصاني إبراهيم منصور بالذهاب إليه في الموعد المحدد لأن بهاء (راجل سويسري) قلت له «يعنى إيه» ورد قائلا «مواعيده مضبوطة.

وذهبت وفى رأسي الجملة الأولى في «الخطوبة» وهى أول سطر في الأعمال الكاملة (كنت قد اعتنيت بكل شيء) ومثلما فعل البطل فعلت، اعتنيت بكل شيء، حلقت ذقنى وكويت هدومى ولمعت حذائي، وخلال اللقاء عرفت أن هذه الجملة تفسر المسار الذى رسمه بهاء طاهر لنفسه ولحياته ولمواقفه، فالأصل هو العناية والتأمل.ولم أفاجأ بصورته على مقهى زهرة البستان وهو يرتدى بدلة أنيقة وكاملة، أعجبه وصف كاتب العناية المركزة الذى اخترته عنوانا لمقالى وقال لى «بالفعل لا أضع كلمة فى غير موضعها».

جلسنا جلسة طويلة جدا استكملناها فى تمشية حانية على النيل وصلت بنا إلى بيته فى الزمالك ثم جلسنا مرة أخرى على مقهى عمر الخيام المجاور لالتقاط الأنفاس ثم أشار لى إلى البناية وقال «هذا هو بيتي، ابقى تعالى» ثم واظبت بعدها على الحضور فى المواعيد التى نحددها بدقة على التليفون.

وبعد سنوات استقراره في مصر ساعدتنى فترة العمل بضاحية الزمالك على تنمية علاقتى معه، اتصل ونلتقى إما بالمقهى أو فى مكتبة ديوان ثم جاءت مرحلة قهوة «الحارة المزنوقة» بعد ثورة يناير حيث كان حريصا على تكوين رؤية حول ما يجري.

وكان حرصه على اللقاء مع السياسيين وأصحاب الرأي أكبر بكثير من حرصه على مقابلة الأدباء، وخلال تلك الفترة كان أدبه قد شاع ووجدت رواية «واحة الغروب» نجاحا استثنائيا بسبب جائزة البوكر وتحويلها لمسلسل شهير لكنى بقيت مخلصا لـ «ضحى» وكان يقول لى (أنت مش ناوى تخونها بقى) ونضحك.

ورغم مئات الروايات التي قرأتها ظلت «قالت ضحى» رواية فارقة فى روحي، وبعد غياب الأستاذ بقيت أبحث عنها لأربعة أيام متواصلة إلى أن وصلت إلى النسخة التى أحملها معى منذ عام 1992 ووجدت فيها تعليقا نقديا كتبته بانفعال فى صدر صفحتها الأولى «هذه واحدة من أهم الروايات التى قرأتها فى حياتي» (كان عمرى 22 عاما) «حيث تحتفى بالألم الخاص لصالح الألم العام وترفض اليقين وتبدد النبوءة».

خلت نظرتى لـ»ضحى» من القسوة والإدانة ورأيتها ضحية، فهى الوحيدة التى تنتهى بـ «التبدد».وشأن بعض أبناء جيلى تمنيت لو أحببت فتاة تشبهها، أو لو انجبت فتاة لها نفس الاسم لكن صديق عمرى أشرف عبد الشافى فعلها وتزوج قبلى وأنجب فتاة رقيقة أعطاها الاسم الكودى لبطلتنا المفضلة، تلك البطلة القادمة من خيبة الأمل. 

وفي مقدمته الرائعة لـ «خالتى صفية والدير» حكى بهاء طاهر عن السحر الذى خلقته الرواية، وعن الأشعار التى كتبت فيها، لكنى أنظر لها بطريقة أخرى بعد أن تغيرت الخبرات والخيارات. 

علمتنا الرواية ( لا أحب هذه الجملة) لكن هذا ما جرى بالفعل، علمتنا بالفعل ووضعت إطارا لأحلامنا وهواجسنا وكوابيسنا التى تكررت، حين تحدث معى الراحل عن أمه الصعيدية ذات يوم، تحدثت أيضا عن أمى الصعيدية وذكرته بالمشهد الفاتن داخل الرواية للأم التى تشكو قهرها للدجاجات التى تربيها على السطح، طفرت دمعة من عينه وقال «على فكرة لم أكن أتحدث عن أمى التى كانت امرأة قوية».

تعلمت من الرواية ما قاله بطلها «أن أكره القهر، قهر الإنسان بالفقر وقهره بالخوف وأهم من ذلك قهره بالجهل، أن يعيش ويموت دون أن يعرف أن فى الدنيا علما فاته وجمالا فاته وحياة لم يعشها أبدا».

ومثل البطل أيضا عايشت نوبات من «خيبة الأمل» لكن الإنسان لا يملك إلا أن يراوده الأمل فى أنه ربما بمعجزة ما ستورق من جديد تلك الشجرة التى سقطت فى الأرض وماتت، ستصل رسالة ما، مكالمة ما، سيلقى الوجه الذى هجره فجأة فى الطريق فتبتسم العيون وتتعانق الأيدى ويرجع كل شيء».

في هامش الرواية كنت أكتب تعليقاتى واختلف مع المؤلف دون أن أملك الحلم حتى برؤيته، فالرجل كان هناك فى البعيد مهاجرا إلى بلد بارد لا تصل أحلامى إليه لكنها الكتابة بكرمها وألمها ساعدتنى على بناء صداقة كاملة ولدت فى عالم مواز ثم وجدت على الأرض طريقا لتتحقق.

يتملكنى الآن حزن غامر، تحرر من الكتابة وامتد إلى ما خلفها بفضل المعانى المستبطنة والجروح التى لا تزال غائرة والتى تخلق الشعور العميق بمعنى الصحبة وقيمة (الونس) وهذا بالضبط ما أشعر به الآن أن ما سأفقده هو (الونس) لأن بهاء طاهر ببساطة كان رجلا تأتنس له وتتطمئن وأنت معه.

اقرأ ايضا | الأديب بهاء طاهر: ابن رفاعة الطهطاوى.. وثقافة الحرية

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة