بهاء طاهر يتوسط مى التلمسانى ومنتصر القفاش
بهاء طاهر يتوسط مى التلمسانى ومنتصر القفاش


الأديب بهاء طاهر: دخول القلب من باب الحنان

أخبار الأدب

الأحد، 06 نوفمبر 2022 - 02:28 م

يستقبلك بهاء طاهر بحنان وخفة. السر فى النظرة وفى الابتسامة. ويرحل عنك متمهلا، كأنك عزيز يرفض مغادرته. 
وتشعر فى وجوده برسوخ وطمأنينة وفى حديثه بصدق آسر وفى صمته بحضور متأمل. يتابعك ولا يلح عليك. يبتسم لك ولا ينتظر أن ترد الابتسام. لا يغيب عن أصدقائه وأصفيائه ومتابعيه وجمهوره العريض أن مظهره الأنيق وابتسامته الساحرة ونظرته المتأملة هى سر أسرار حياته على هذه الأرض. سر جلبه معه من الأقصر موطن الأجداد الذين رد إليهم بعض صنيعهم ببيت تديره الآن وزارة الثقافة. السر الذى ظل أمينا عليه حتى رحيله مع غروب شمس أكتوبر، منهكا من المرض، صافيا من الضغائن، متمهلا كعادته.

كان هذا استقباله لي، منذ سنوات بعيدة، عائدا لأرض الوطن بعد أن صدرت له رواية «الحب فى المنفى». لم أقرأ له شيئا قبل هذه الرواية ولا أذكر كيف التقينا لأول مرة، كل ما أذكره أنه استقبلنى كإبنة، كصديقة، بالمودة والابتسامة المعهودة التى لا تبين أسنانه، لكنها تتسع للكون. لا يستثنى منها إلا قليلا. لم أكن قد هاجرت بعد.

ولكنى بوحى من أحداث الرواية التى تدور بعضها فى جنيف حيث أقام وعمل واستقر زوجا لستيفكا فائقة الأناقة والجمال، بوحى منها وعلى الرغم من فارق العمر بيننا، انتميت إلى ما يقول عن المنفى قبل منفاي. أدركت أنه يتحدث أيضا عن غربة المثقف فى بلاده، عن غربته هنا وهناك.


لدى ذكريات مشابهة عن لقاءاتى الأولى بإدوار الخراط، صنع الله إبراهيم، إبراهيم أصلان، محمد البساطي، لطيفة الزيات، رضوى عاشور. لدى من المشاعر والأحاسيس التى تخص كل استقبال عابر وكل رحيل حزين الكثير، ما بين الشعور باستثناء اللحظات التى جمعتنا، والندم على أنها مضت ولم تمتد بما يكفى فى الزمن.


تختلط الصور أحيانا، لكن يكفينى أنها ترتبط بعصر كامل من الاكتشاف والمحبة. التسعينات المجيدة، زمن ما قبل الهجرة. استقبلنى كل هؤلاء بدرجات متفاوتة من الفرح والاحتفاء، وامتدت خطوط المحبة بيننا حتى أصبحت جزءا من عائلة. الأفكار والطموحات متشابهة. المسارات الفكرية متقاربة، والانتماء لفكرة الوطن الكبير، مصر والعالم، راسخة فى الكتابة وفى الحياة. 


ويا للحظ، حين خصنى بهاء وكذلك أدوار العزيز، بمكانة الابنة والصديقة المقربة، أدخلانى البيت والتقيت بالأبناء أو البنات، زرت المكتبة، واصطحبت الولدين لزيارة الأستاذين، ودارت أحاديث هنية يغمرها ضوء نهايات النهار المحبب، تارة فى بيت أدوار وتارة فى بيت بهاء، الواقعين فى جزيرة الزمالك.


بعد الهجرة إلى كندا فى نهاية التسعينيات، عدت ركضا لهذين البيتين، بانتظام فى فترات العطلة. أفكر الآن أن الزيارات المتفرقة لا تتعدى العشرين، ولا تتجاوز الساعتين فى كل مرة، فكيف تركت هذا الأثر على روحي؟ كيف يكون الانتماء لأسرة لا تربطنى بها صلة الدم، أسرة إدوار وأسرة بهاء، على هذا القدر من العمق؟ رحل إدوار مبكرا، بعد سنوات من المرض والغياب، وكذلك رحل بهاء، مخلفا تلك الغصة التى يعرفها المهاجرون، غصة الندم على فرص اللقاء الضائعة. ذكرنى رحيل كل منهما برحيل أبي. ثلاثتهم بعد مرض طويل وعزلة. العزلة التى تفرضها ذاكرة (تظل حية فى مكان خفى من النفس) تقول بضرورة الاختفاء عن الساحة العامة والامتناع عن الظهور. 


التقينا أنا وبهاء فى مناسبات عديدة خارج مصر. لا ينقطع الحديث ولا نمل من التجوال. فى معرض الحديث، يقول قرأت روايتك «هليوبوليس» وأصابتنى دهشة، يقول سأتحدث عنها فى مهرجان الأدب فى مانتوفا، بإيطاليا. وأقول قرأت «نقطة النور».

واستمتعت بها، فيدعونى للحديث عنها فى المهرجان نفسه. يا لصفاء تلك العلاقة الروحية بين الجد والحفيد، ويا لجمال تلك البلاغة الرهيفة التى بحث عنها ووجدها كامنة فى تراثه العربى الفلسفى فأفرد لها مساحات يخجل منها بعض الكتاب اليوم بدعوى النأى عن السنتمنتالية. 


أن تحفر مسارا كهذا يا بهاء فى قلب التيارات السائدة وقتها أسرنى بشدة، أن تكون أنت نفسك كما عودتنى هادئا مستقيما كعود البان وصلبا فى الوقت ذاته، كان بالنسبة لى درسا فى الحياة انعكس على الكتابة. لو تعلم كم يأسرنى اتساقك بين المعيش والمكتوب! بل تعلم، فكم تحدثنا فى جولتنا عبر مدينة مانتوفا الساحرة عن تلك الرواية التى لا تقل سحرا عن صاحبها. وكان حديثنا سرا نلقيه فى وجه الأبدية.

ستصل هذه الرواية للناس فى كل زمان ومكان، فى اعتقادى البسيط، ستمد خطوطا حريرية بين «الحب فى المنفي» و«خالتى صفية والدير» بشكل لا يتوقعه أحد، وربما يظل البعض يذكرون قصصك، أنا الملك جئت، والخطوبة.

وغيرها وكأنها جميعا حلقات فى بحثك عن معنى لحركة الإنسان على الأرض ودراما الخير والشر، وسعى الإنسان للتحرر من الهلاك الذى ينتظره فى الخارج والداخل. ألم يكن هذا سعيك نفسه، فيما أدركته من رحلة خروجك من مصر وعودتك إليها؟


ثم التقينا فى جنيف بعد سنوات، ضمن وفد يمثل مصر فى معرض جنيف الدولى للكتاب. دعينا للحديث على المنصة نفسها باللغة الفرنسية. أذكر أن الحديث كان عاما، عن الكتابة ومشروعاتنا القادمة. هل تحدثت عن «خالتى صفية والدير»؟ مرة أخرى تخوننى الذاكرة، وأذكر فقط أنى بعد قراءتها هاتفتك من كندا، أخبرتك عن ولعى بهذا العالم الفريد، عالم الأقصر الذى وصفته بصدق وعذوبة.

وأحببت شخصية صفية القوية وصراعها فى عالم الرجال من أجل الانتقام. لم أقرأ أعمالك بترتيب تاريخ صدورها، ولم تصلنى إلا متأخرا فى مسار القراءة، وربما لذلك أحببت كثافتها واقتصادها فى الأسلوب، فى زمن كنت قد تشبعت فيه بقراءة الأعمال الكلاسيكية لكبار الروائيين المصريين.

وربما كان لإعادة طبع أعمالك أثر فى استمرارها عبر الأجيال، وأيضا اقتباس بعضها للشاشة الصغيرة سمح بانتشار أكبر لرقعة قرائك. لكن ما كان يفرحك فى ظنى لم يكن الانتشار، بقدر ما كان تأمل العمل فى شكل جديد، بالصوت والصورة، فى علاقة جديدة بالعالم. 


كيف فاتنى أن أسألك يا بهاء عن رأيك فى المسلسلات المأخوذة عن خالتى صفية، وواحة الغروب؟ افتتنت بهذين العملين، وأسعدنى أن يكونا ناجحين على الشاشة الصغيرة وأن تدخل شخصياتك قلوب الناس من باب الميديا.


أنت الذى تدخل القلب من باب الحنان، ترحل بعد أن مهدت الأرض للرحيل، متمهلا يا بهاء، آمنا فى اعتقادي، فقد تركت أثرا على هذه الأرض لا يغيب. وفى قلبي، فى استقبالك وفى ترحالك، تركت علامة.

 

اقرأ أيضا | الأديب بهاء طاهر: غياب «الونس»
 

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة