صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه


د. إبراهيم منصور يكتب : قلبٌ على قِبْلَتَين: حين يسدد الشعر دينه للأرض!

أخبار الأدب

السبت، 12 نوفمبر 2022 - 01:08 م

محمد السيد إسماعيل شاعر مُجيد حقا، ولا أرى أحدا ظلمه، أو غمطه حقه، بل هو الذى أساء لشعره حين جعله فى المرتبة الثانية من اهتماماته وانشغالاته، لذلك عامله المتلقى على أنه شاعر أكاديمي.

حصد الشاعر محمد السيد إسماعيل عددا كبيرا من الجوائز الأدبية من مجمع اللغة العربية، وصندوق التنمية الثقافى، ودائرة الإبداع فى  الشارقة، ومنها جائزة فى  المسرح من اتحاد الكتاب.
 محمد السيد إسماعيل ليس شاعرا فحسب، بل هو كاتب مسرحى، له أربع مسرحيات منشورة، كما أنه يحمل درجة الدكتوراه فى  النقد الأدبى، وهو مؤلف يكتب مقالات كثيرة جدا فى  نقد القصة والشعر، ينشرها فى الصحف والمجلات والدوريات العربية والمصرية ورقية وإلكترونية، ونشرت له ستة كتب فى  النقد الأدبي. آخر هذه الكتب، كتاب بعنوان «رؤية التشكيل» عن القصيدة العربية المعاصرة، وعقد له حفل توقيع وندوة لناقشته فى  المركز الدولى للكتاب بالقاهرة، يوم ١١ أغسطس ٢٠٢٢م. وأخيرا حصد جائزة فى  النقد الأدبى من اتحاد الكتاب ٢٠٢٢م.

فى نوفمبر ١٩٨١م كتب محمد السيد إسماعيل قصيدة بعنوان «حوارية الأرض» قال فى مطلعها:  كنت أرغبُ أن أتقدم كى أمدَّ لها فى سماء الظهيرة ظلا  وسيفا به تستردُّ القيامة كنت أرغبُ أن أتقدم  غير أن الجوادَ الذى يصهل تحتى تخاذل  فمِنْ دوننا تستظلُ المسافة ومن دوننا رايةٌ للخليفة» القصيدة التى اتخذت من الجواد والسيف أدوات لحرب، تستحضر زمن الخليفة، كل خليفة، لكن الأهم أنها تتخذ من أبى الطيب المتنبى (٣٠١- ٣٥٣هجرية) قناعا، وتعود القصيدة لأبيات المتنبى التى قالها فى عام ٣٤٢ هجرية، فى مدح سيف الدولة:
لياليّ بعد الظاعنين شُكولُ        طوالٌ، وليلُ العاشقين طويلُ
يُبِنَّ لى البدْرَ الذى لا أريدُهُ         ويخفينَ بدرا ما إليه سبيلُ.


فيعيد الشاعر صياغة البيتين على النحو التالي:
أراضيّ تحت الظالمين شكولُ   حريق، وبؤسى بينها سيطولُ
يُبنّ لى الشيءَ الذى لا أُريدهُ   ويخفين حُلما ما إليه وصولُ
 لقد استبدل الشاعر المعاصر الأرض بالليالى فى قصيدة المتنبي، كما استبدل الظالمين بالظاعنين، على أية حال هناك تهويم فى فضاء غير محدود، لا يبرره حداثة سن الشاعر، بل قلة خبرته، لأن سن التاسعة عشرة لا تكون سنا متأخرة لقول الشعر الجيد، لكن الشاعر عندنا الآن عادة يبدأ بعد سن العشرين، ثم يتطور وربما وصل إلى الثلاثين قبل أن يقول شعرا جيدا.

  محمد السيد إسماعيل (مواليد أول أبريل ١٩٦٢م)  تخرج فى كلية دار العلوم، فهو مثل محمود حسن إسماعيل (١٩١٠- ١٩٧٧م) الذى جاء من قرية النخيلة فى أسيوط، والتحق بكلية دار العلوم، وكان يكتب الشعر قبل أن يلتحق بالجامعة، لكن محمود حسن إسماعيل عاش مدة طويلة يسمع عن شوقى (١٨٦٨- ١٩٣٢م) أمير الشعراء، يقرأ شعره، وحين نزل القاهرة لأول مرة عام ١٩٣٢ وجد نفسه أمام جنازة شوقي، فشارك فيها، ثم كتب قصيدة بهذه المناسبة بعنوان (مأتم الطبيعة) يرثى أمير الشعراء وبرثائه رثى الشاعرية، فجعل الطبيعة فى حزنها على شوقى تقيم مأتما.

أما محمد السيد إسماعيل، فقد جاء من قرية طحانوب محافظة القليوبية القريبة جدا من القاهرة، فلما استقر فى دراسته، لم يعد هناك شاعر يملأ سماءها، فقد مات صلاح عبد الصبور (١٩٣١- ١٩٨١) وأصبح أمل دنقل طريح الفراش، ثم مات دنقل (١٩٤٢- ١٩٨٣م) فبقى محمود درويش (١٩٣٥- ٢٠٠٨م).

وكانت قضية الأرض وبقايا النفير القديم منذ ١٩٦٧، و١٩٧٣، هى ما أحب الشاعر أن ينخرط فيه، أحب أن يكون شعره مثل شعر المتنبى علوا فى المقام ومدحا للبطولة، ودفعا للعدوان، كان ذلك معناه أن يبقى الشعر كما كان عند شوقى وعند أمل دنقل وعند محمود درويش، شعر القضية، والقضية هى الأرض، لذلك تكرر ذكر لفظ الأرض عشرات المرات فى ديوانه الأول وعنوانه «كائنات فى انتظار البعث» على نحو لافت جدا.


كان الشاعر محمد السيد إسماعيل فى سن التاسعة عشرة حين نشر فى مجلة (إضاءة ٧٧)  قصيدته الأولى «حوارية الأرض» المذكورة، فهو من جيل ثلاثة من الشعراء هم الآن فى أول الصف بين شعراء قصيدة النثر فى مصر والعالم العربى هم: سمير درويش ومحمود قرنى وإبراهيم داوود، فقد ولد الأول عام ١٩٦٠ والثانى والثالث عام ١٩٦١، هؤلاء الشعراء الثلاثة.

وإن قدروا تجربة محمود درويش وأمل دنقل، فإنهم كانوا أكثرا ميلا للتأثر فى قصائدهم الأولى بالشاعر محمد عفيفى مطر (١٩٣٥- ٢٠١٠م) الذى كان شاعرا ملتزما أيضا، ولكن يبدو أن الشعر الذى تطلع الشعراء لكتابته فى مطلع الثمانينيات.

وما بعدها، لم يكن فقط حائرا فى موقفه من المجتمع، بل إنه قد وجد نفسه يكاد يخاصم المجتمع، وقد خاصمه المجتمع حتى اليوم على الأرجح، لأسباب قد لا تتعلق بالشعر وحده، بل بالثقافة عموما.


قصيدة أخرى فى ديوان «كائنات فى انتظار البعث» فيها تهويم أيضا، لكنها تتخذ من أمل دنقل مجالا للمحاكاة أو تتخذه قناعا، القصيدة بعنوان «تداعيات البكاء بين يدى أمل دنقل» وأمل دنقل مغرم بالمتنبي، يتخذه قناعا أيضا، كما أنه مثل سائر أدباء الصعيد، يرى فى محمود حسن إسماعيل أبا له، فهو يخاطبه بقوله: 
« واحد من جنودك يا سيدى * قطعوا يوم مؤتة منى اليدين/  فاحتضنت لواءك بالمرفقين/ واحتسبت لوجهك مستشهدي» ثم يقول أمل مخاطبا إسماعيل: « قل لي، فإنى أناديك من زمن الشعراء الأناشيد، للشعراء السجاجيد» .


كل الشواهد تؤكد أن الشاعر محمد السيد إسماعيل قد بدأ مشواره الشعرى وهو يعرف للشعر دوره فى التعبئة للمقاومة، والتصوير فى هذا الشعر يعلى من مكانته فى المجتمع لدوره التبشيرى ولدوره التحريضى. 

لقد انخرط محمد السيد إسماعيل فى حركة التجديد التى قادها حلمى سالم (١٩٥١- ٢٠١٢) ومن بعده الشعراء المذكورون من شعراء قصيدة النثر، فأخرج أربع مجموعات شعرية بعد ديوانه الأول، نحا فيها نحو قصيدة النثر، وآخر تلك الدواوين هو ديوان «قيامة الماء»  وكتبت قصائده بين ٢٠٠٦ و٢٠١٠، وهو بذلك شاعر مُقِلّ، سواء فى عدد الدواوين أو فى عدد القصائد.  


ديوان «قيامة الماء» ديوان صغير مثل سائر دواوين الشاعر، وقسمه إلى ٥٠ «مقطّعة» ، جعل لكل مقطعة رقما، بدون عناوين، ولا أدرى لم صنع هذا؟ إلا أن يكون محاكاة وتقليدا لبعض زملائه من شعراء الجيل، فقد جاءت تلك المقطوعات فى ثلاثة أنماط بنائية هى: 
الحوارية Dialogue 
التوقيعات أو الإيبجرام Epigrams
الصورة المشهدية 
لكن الشاعر يزعم أن الديوان قصيدة واحدة لهذا لم يضع له فهرسا كما أخبرنى عبر اتصالى الهاتفى معه. لقد غلبت تجربة الانتفاضة الفلسطينية (انتفاضة الحجارة) فى غزة على موضوع الديوان. لكن المدى الزمنى الذى كتبت فيه القصائد، وكذلك التباين البنائى المتنوع الذى أشرت إليه، كلاهما ينفى أن تكون هذه قصيدة واحدة. 

بقى الشاعر على عهده فى الارتباط بالتراث، فهو يبنى القطعة رقم ٣١ على بيت تميم بن مُقبل (ت ٦٥٧م):
ما أطيبَ العيشَ لو أن الفتى حجرٌ     تنبو الحوادثُ عنه وهوَ ملمومُ فقال: ليت الفتى حجر/ كى تنزل السماء عند رأسه ويداعب أقدامه البحر/ ليت الفتى حجر.   


وهناك محاولة لبناء جملة شعرية جديدة فوق مقولة الشاعر القديم، لكن الحجر هنا ارتبط بالطفل الفلسطيني.لفقد كانت قضية الأرض حاضرة فى ديوان «قيامة الماء»، فكتب الشاعر عن «أطفال الحجارة» فى فلسطين:
لابد أنه كان يفكر بوضوح شديد
لأنه عندما افتقد صلابة أبيه
قرر أن يذهب إلى «الحجر»
  هذا نقد جديد موجه لأصحاب القضية الفلسطينية، وهم الفلسطينيون بأجيالهم المتوالية من ناحية، وسائر العرب من ناحية أخرى، فالفكرة التى دفعت الطفل لكى يمسك بالحجر لكى يقذفه تجاه العدو الغاصب، كانت رمزية تذكرنا بالحجر الذى قذفه إدوارد سعيد (١٩٣٥- ٢٠٠٣م) من جنوب لبنان تجاه أرض فلسطين المحتلة.

ولكن الشاعر قد أهمته فعلا فكرة المقاومة الرمزية حتى خصص قسما معتبرا من ديوانه الشعرى لكى يمجد عمل المناضلة الأمريكية الشابة «راشيل كوريRachel corrie « (١٩٧٩- ٢٠٠٣م) الناشطة والمدونة التى وقفت فى وجه الجرافات الإسرائيلية أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، فى محاولة يائسة لمنع تلك الجرافات من هدم بيوت الفلسطينيين.

ولكن الجرافات دهست الفتاة الأمريكية فى غير رحمة، فخصص لها الشاعر القطعة رقم ٣٣، ثم أفرد لها المقطوعات ٤٣ و٤٤و ٤٥ و٤٦ من الديوان، مسجلا شطرا من رسائلها التى كانت ترسلها بالبريد الإلكترونى إلى ذويها فى الولايات المتحدة، وبعد حادث قتلها المأساوى قدمت فى لندن مسرحية عن نضالها بعنوان «اسمى راشيل» «My Name Is Rachel»تخليدا لذكراها وتقديرا لدورها الإنسانى العظيم، وكأنى بالشاعر محمد السيد إسماعيل يسدد دينا عليه تجاه «الأرض» فاختار أن يكتب صياغته الخاصة للحدث وللرسائل، فكتب نصا طويلا متماسكا فى تلك المقطوعات الأربع:
مضى الآن أسبوعان / وساعة واحدة / وأنا فى فلسطين
كيف تصف الكلمات كل هذه الأطنان الهائلة من الموت
بالأمس فقط / قتلت دبابة إسرائيلية طفلا فى الثامنة من العمر
إن هذا السجل هو سردية راشيل يعيد الشاعر تسجيلها، لتكون عملا رمزيا منه، مثلما كان قذف الحجر من قبل إدوارد سعيد عملا رمزيا للتضامن مع الفلسطينيين فى غزة.

لقد أهدى الشاعر ديوانه «إلى هؤلاء الذين يصعدون بفلسطين إلى غايتها الدانية» 
فكانت «مجموعة راشيل» وكذلك مجموعة أطفال الحجارة، تمثلان نصين متماسكين فى ديوان «قيامة الوقت» لكننا لو تمعنا فى المقطوعة رقم (٢)  لوجدنا صورة لفتاة أخرى غير «راشيل كورى» فتاة كأنها شقيقة الشاعر:
«أنتِ أختى / كل شيء فيكِ يشبهنى
عيناك الواسعتان / جبهتك السمراء
شعرك الثقيل الذى ترفعه الرياح عاليا
ساعدك القوى / دخولك البيت بالقدم اليمنى»
هذه الفتاة نفسها سوف تقابلنا فى المقطوعة رقم (٢٨) :
ما الذى يعجلُها / وقد تعهدتْ كل شيء بالحنين:
حظيرة الدجاج أعلى السطح / آية الكرسي
فأسُ أبيها الذى ظل فى مكانه عشرين عاما
صورةُ الشيخ الجليل الذى آثر أن يسكن الفضاء»
فهل جعل الشاعر من راشيل كورى أختا له، أم جعل منها محبوبة ومعشوقة؟ فهو يخاطبها بالأخت كما كان كاتب «نشيد الأنشاد» من كتب العهد القديم، يخاطب الفتاة الجميلة فى الإصحاح الرابع « قد سَبيتِ قلبى يا أختى العروس، قد سبيتِ قلبى بإحدى عينيك، بقلادةٍ واحدة من عنقك، ما أحسن حبّكِ يا أختى العروس» 
أما المقطوعة رقم (٤٩) ففيها خطاب عاشق لمعشوق، لكن العاشق يعتب على المعشوق:
«أحِبُّكِ
«فإن تَكُ ساءَتْكِ منى خليقةٌ / فسلّى ثيابكِ من ثيابى» عنوة
وواصلى خروجك الذى نسجت ثوبه»
يعود الشاعر ليحتمى بالتراث، فهذا بيت امرئ القيس، من معلقته:
وإن كنتِ قد ساءتكِ منى خليقةٌ  فسلّى ثيابيَ من ثيابك تنسلي
العجيب أن بيت امرئ القيس هذا يخاطب فيه فاطمة بنت العبيد بن ثعلبة من عذرة، قبيلة الشعراء أصحاب الحب العذري، فكأنه لا ينتمى لأبيات الغزل الحسي، فالشاعر القديم يخاطب امرأة قد خاصمته وتريد القطيعة معه، ومن الواضح الجلى يبدو أنها تتدلل عليه، وشاعرنا المعاصر، يتكيء عليه، أو يتناص معه، لكنه يطلب من المعشوقة أن تشتد فى الخصومة ولا  تتدلل، بل تقطع العلاقة «عنوة» أى فى شدة وحزم، لعله أيقن أنه لا قبل له بتحمل العتاب، فالصلة مقطوعة «كآية لا أستطيع حملها».

إن تعدد أبنية المقطوعات، قد أعطى للنص صفة التجديد، وأبعده عن «شعر المناسبات» ففى المقطوعة القصيرة رقم (٨) التى هى مجرد «توقيعة» أو «إيبجرام» يقول الشاعر:
«من رآنى فقد رآنى حقا.
فإن «السلطان» 
لا يتشبه بى»
هنا نجد التناصّ يتكىء على حديث نبوى شريف «من رآنى فى المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل فى صورتي» ولكن الشاعر قلب النص رأسا على عقب، فقد خرج النبى (صلى الله عليه وسلم) من الصورة كليا، ليصبح الخطاب بين اثنين لا ندرى كنههما، ولنا أن نؤولهما كيفما نشاء، لكن العبرة أن الشاعر قد جعل من التراث أساسا لديوانه، فكان القرآن الكريم، والكتاب المقدس، والحديث النبوى الشريف، والشعر العربى القديم، والشعر العربى الحديث، منابع لثقافة الشاعر، ومتكأ يبنى عليه صوره وعباراته، لكنه لم يكن يلجأ لهذه النصوص على نحو آلي، أو عن  عجز، بل كان على وعى بهذه النصوص التى أثرت نصه أيّما ثراء.

 إن محمد السيد إسماعيل شاعر مُجيد حقا، ولا أرى أحدا ظلمه، أو غمطه حقه، بل هو الذى أساء لشعره حين جعله فى المرتبة الثانية من اهتماماته وانشغالاته، لذلك عامله المتلقى على أنه شاعر أكاديمي، يفتقر للموهبة.

وهذا غير صحيح بالمرة، فهو شاعر موهوب، جدير بأن يدرج من شعره فى المختارات الشعرية التى تعبر عن شعراء الثمانينيات فى مصر والأقطار العربية، وإذا كان أصحاب تلك المختارات قد أهملوه فذلك فى ظنى راجع إلى أنه مُقِلٌّ فى النشر، حد الإهمال، مع أن فى مسيرته الشعرية ما يدل على التدفق، والقدرة على الكتابة على فترات متقاربة جدا، فقد أنجز ديوانه «تدريبات يومية» فى بضعة أشهر.

لذلك نرجو أن يدفع  بدواوينه جميعها المطبوع منها والمخطوط، إلى دار نشر، فنراها فى مجلد واحد قريبا، لكى يظهر للقراء وللنقاد جميعا، صورة حقيقية وواضحة عن منجزه الشعرى الأصيل.  

اقرأ ايضا | أمينة النقاش تكتب: فى حوار نادر نجيب محفوظ: أدين الإرهاب لا المنجزات فى ثورة يوليو

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة