أليخاندرو ثامبرا
أليخاندرو ثامبرا


أليخاندرو ثامبرا: الأدب وهمّ الهوية

أخبار الأدب

السبت، 10 ديسمبر 2022 - 03:22 م

يومياتى عبارة عن كتابة رديئة دون أثر لتكلف أدبي. وأحياناً أُعيد قراءتها بعناية لأحبط نفسي؛ كى لا أنسى من أريد أن أكون، أو ما أود فعله، مهما مرت السنون. أحب أن أذّكر نفسى من حين لآخر بقدرتنا الهائلة على النسيان.

أظن أن اتجاهى إلى النثر متعلق بهزيمة الشعر. ولا أقصد أننى أخفقت، بل عجزت عن التعبير عن الأشياء التى أردت قولها من خلال الشعر.

يعتبر أليخاندرو ثامبرا أحد أهم الأصوات الأدبية الشابة فى تشيلي، وهو خليفة أسماء كبيرة بدءًا من إيزابيل الليندى وإرنستو ساباتو، ومرورًا بأنطونيو سكارميتا، وليس انتهاءً بروبرتو بولانيو. هذا الماضى الأدبى الكبير، المتسق مع تاريخ أمريكا اللاتينية، يصعّب مهمة الكتاب ويسهلها فى الوقت نفسه، فهو يمده بمعين لا ينضب، وفى الوقت ذاته يفرض عليه تجاوزه. من هنا تأتى أهمية ثامبرا، قدرته على خلق صوت يخصه، وتجاوزه للقضايا الكبرى المطروقة من أجيال سابقة. هنا حوار معه.

حينما نصف الأدب المكتوب فى تشيلى اليوم، يمثل أمامنا فكرتان متكررتان. فقد كُتب الكثير عن جيل المؤلفين الذين عاصرت طفولتهم فترة الدكتاتورية العسكرية الأخيرة، ووصفتهم الكاتبة نونا فرنانديث بالجيل «اليتيم نسبياً».

اقرأ أيضا| د. لمياء الشريف تكتب: لا شيء حقيقي

ومن ناحية أخرى، ثمة شعور أن الكُتّاب المعاصرين فى أمريكا اللاتينية يشغلون اليوم مشهداً أدبياً متعولماً. وقد صرحت الناقدة باتريسيا إيسبينوثا أن وجود أو غياب «التقاليد الأدبية القومية» عاد إلى طاولة النقاش. ما موقفك بشأن هذه المسألة بالنظر إلى أن أعمالك تُعد تشيلية فى صميم جوهرها؟
وأعتقد ذلك أيضاً، برغم أننى فى أسوأ موقف، إن جاز لى القول، لأننى تشيلي. أظن أن الأدب برمته هو قومى وشخصى فى آن واحد. شخصى وقومي. خاص وعام. ولا أرى سبباً يمنع الحديث عن الأدب فيما يتعلق بالقومى والإقليمي. كل شيء يعتمد على ما لا يمكن اختزاله فى الكتابة. وأتصور أن هذا الأساس المتعذر اختزاله هو شخصى وجمعي. أود أن أرصد الاختلاف بينهما باستخدام اللغة ذاتها. 

فتشغل اللغة حيزاً بارزاً فى كتاباتك، وأسلوبك النثرى تشيلى بصورة مميزة، دون غموض أو إبهام. وأتذكر عبارة وردت فى أكثر الروايات التشيلية رمزية فى التسعينيات «مشاعر سيئة» لألبرتو فوجيت، تقول إن التشيليين يتحدثون الإسبانية مثلما يتحدث الأستراليون الإنجليزية. صف لنا معالجتك للغة فى أعمالك؟
الكلمات الواردة فى أعمالى هى كلمات أريد قولها، أو التى سأستخدمها فى ظروف معينة. وأسلوبى فى الكتابة مرتبط بالشفهية والتوق إلى اللغة المحكية. كتبى حافلة بالرغبة فى الحديث والإصغاء، عوضاً عن الكتابة والقراءة.


 فكان أول أعمالك المجموعتين الشعريتين «مكان بلا جدوى» و»تنقلات». لكنك تشتهر اليوم برواياتك. هل تضع حداً فاصلاً بين الشكلين؟ هل ثمة دافع معين لانتقالك من الشعر إلى النثر؟
وتركت قصائد إزرا باوند أثراً كبيراً فى أعمالى الأولى التى تعد قصائد تصويرية. إننى شاعر بالتكوين، ومعظم قراءاتى تمحورت حول الشعر التشيلي. لم أقرأ الكثير من النثر المعاصر.

بل الكلاسيكيات. لطالما كانت بيئتى شعرية، وما زالت كذلك. لا تثير كتابة الروايات اهتمام معظم أصدقائى الشعراء اليوم. أظن أن اتجاهى إلى النثر متعلق بهزيمة الشعر. ولا أقصد أننى أخفقت، بل عجزت عن التعبير عن الأشياء التى أردت قولها من خلال الشعر.

وبالإضافة إلى أن قصائدى يغلب عليها الطابع السردي. لذا لم أر فارقاً كبيراً بين شعرى ونثري. لم أتوقف يوماً عن كتابة الشعر، لكن لم يدر فى خلدى أن أغدو كاتباً. كنت أطمح إلى أن أكون معلماً. لكنى شرعت أيضاً فى كتابة اليوميات منذ وقت مبكر. ولسنوات حتى الآن واصلت تدوين كل شيء يحدث.

 هل تعيد قراءة يومياتك؟
ولقد ذكر ماريو ليبريرو ذات مرة أن اليوميات هى أدب السأم. ويومياتى عبارة عن كتابة رديئة دون أثر لتكلف أدبي. وأحياناً أُعيد قراءتها بعناية لأحبط نفسي؛ كى لا أنسى من أريد أن أكون، أو ما أود فعله، مهما مرت السنون. أحب أن أذّكر نفسى من حين لآخر بقدرتنا الهائلة على النسيان.

 فهل ثمة رابط بين عملية الكتابة والشكل فى أعمالك؟ رواياتك بالأخص تبدو معقدة البناء. هل تبدأ بنصوص كبيرة وتجزؤها، أم تجمعها فقرة تلو الفقرة؟
وعملية الكتابة تتغير على الدوام، وكل كتاب يوحى بشكله. «بونساى» كانت رواية تجميع ثم تشذيب. وفى إحدى المراحل كانت عدة كتب متباينة فى آن واحد. «الحياة السرية للأشجار» كانت أشبه برواية سيمفونية تتصاعد كنغمات كريشندو. حينما أكتب أرتاب كثيراً فى مشاعري.

ولقد كتبت كلاريس ليسبكتور عبارة معبرة فى نص عظيم تقول: «إن الأمر يتحقق بسهولة تامة، لابد من أن أرتاب». كان عليّ أن أجتهد فى البحث عن أسلوب «أشكال العودة للمنزل». كنت أتجول لعدة سنوات والرواية داخل رأسى قبل أن أخط الفقرة الأولى منها وأعثر على العنوان. ثم بدأت من الصفر، وكتبتها فى دفعة واحدة. لكن تلك النسخة اشتملت بلا ريب على جميع النسخ الذهنية السابقة.

ولأمد طويل اشتهرت أمريكا اللاتينية بما يُسمى بـ «رواية البووم» فى عصر الازدهار، كتب مثل «مائة عام من العزلة» لجابرييل جارثيا ماركيز و»حوار فى الكاتدرائية« لماريو بارجس يوسا، استهدفت تمثيل الزمن والمكان.

ففى القرن الحادى والعشرين، تبدو الرواية أصغر وأكثر تشظياً، لكنها أيضاً متشعبة بصورة لافتة. هل تشكل أعمالك مجموعة مترابطة ومتصلة؟ هل ثمة علاقة واضحة بين بطلى «بونساي» و«الحياة السرية للأشجار»، خوليان وخوليو؟
وقد يفهم القارئ رواياتى باعتبارها مجموعة متصلة. إن هاتين الروايتين مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً، وأعتقد أن «الحياة السرية للأشجار» رواية مكتوبة ضد «بونساي». لقد كتب خوليان، بطل «الحياة السرية للأشجار»، رواية «بونساي» شاعراً بالفخر والسرور لتدوينه هذا الكتاب القصير والغريب.

وأراد أن يريه لزوجته، لكن زوجته لم تعد قط إلى المنزل، وهذا أهم بكثير من الرواية التى كتبها. من جانب آخر، لست واثقاً فى ما يتعلق بالروايات العظيمة فى أمريكا اللاتينية، أو ما يُسمى بـ «رواية الديكتاتور» إنها تفترض مستوى عالياً من القصدية والتمثيل.

ولطالما كنت مرتاباً فى العبارات الزائفة كتلك العبارات. إن «أشكال العودة للمنزل» ليست رواية عن الأحداث نفسها، بل عن أساليب معالجة أحداث معينة. لكنى لست واثقاً دوماً بشأن مقصدى حينما أشرع فى الكتابة. دائماً أبدأ بصورة، ثم أتصور عملية الكتابة كنافذة على مساحة غير متعدية، واستسلام الذات إلى المجهول. إن الكتاب لا يشبه البتة الفكرة التى بدأت بها.

فى جميع كتاباتك، ولا سيما رواياتك، ثمة علاقة ديناميكية بين الماضى والحاضر. يحضرنى تحديداً تلك الفقرة البديعة فى «أشكال العودة للمنزل»، حيث يسير البطل مع صديقته كلاوديا ويمران بجانب الاستاد الوطني. ويشرع البطل فى ربط عدة مستويات متباينة من الذكريات بالمساحة المادية حوله.

وفى الوقت نفسه يجرى حواراً فى الحاضر. لقد نجحت، فى صفحتين فحسب، فى دمج خمس فترات سردية على الأقل. فهناك لحظة المشى والمحادثة الحالية. فضلاً عن الذكريات الشخصية للبطل بخصوص التحاقه بالجامعة المجاورة. بالإضافة إلى التاريخ الجمعى للاستاد الوطنى كموقع تعذيب إبان حكم الديكتاتور بينوتشيه.

وإلى جانب ذكريات كلاوديا الأولى عن الاستاد، وحضورها حفلة أطفال مع أبويها. وأخيراً قصة الوالدين، حينما اصطحبا ابنتهما إلى الحفل، اضطرا إلى النظر باضطراب إلى الاستاد المزدان والضاج بضحكات الأطفال.

وفى الوقت نفسه كان الحزن يعتصر قلبيهما بسبب التاريخ الأسود للمكان. تبدو عملية وضع الزمان والمكان والذوات فى طبقات عنصراً أساسياً لفهم أعمالك.
لقد ظهر هذا المشهد بشكل طبيعى للغاية فى الكتاب. أما وقد ذكرت الآن وضع خمسة تواريخ مختلفة فى طبقات، لابد أن أقول إننى لم أفكر فى الأمر بهذا الشكل، لأنه بكل بساطة شىء جاء من محاولتنا لتشكيل الماضى فى شبابنا. فكرة أن الماضى ليس ماضينا.

وشعور عدم الملاءمة المصاحب للكتابة حوله تيمة متكررة فى كتبي. أتذكر حينما كنت بسن الثانية عشرة، وكنت أضطر إلى السفر مسافة كبيرة يومياً للوصول إلى المعهد القومى، حيث كنت أذهب إلى المدرسة فى وسط البلد بسانتياجو، كنت انتظر أحياناً والديّ للمغادرة فى الصباح، ثم أمضى إلى وسط البلد وليس إلى المدرسة.

كنت أحب التجوال بمفردى فى المدينة، محاولاً فهم ما يحدث حولي. لم يكن بالضرورة موقفاً سياسياً، بل ما يحدث فى الحياة، فى الشارع، الغاص بأناس يختلفون تماماً عن الذين أعرفهم، برغم أنهم ليسوا كذلك.

وثم أتذكر يوماً بعينه، كنت على وشك الإجهاش بالبكاء دونما سبب، ثم أدركت فجأة للمرة الأولى أن كل هؤلاء الناس لديهم حياة ومشكلات خاصة. جميعهم يصلون إلى منازلهم جائعين، ويجلسون لتناول شطيرة.

أو ربما يجلسون وينتظرون وصول أفراد أسرهم إلى المنزل، ثم يتناولون العشاء معاً. (بالطبع حينما أخبرك بهذا الآن يبدو نوعاً من التجلي، لكن الأشياء ليست هكذا فى الحياة الواقعية، ليست خطية كما فى المسلسلات التلفزيونية).

وأظن أن هذا الشعور حاضر بقوة فى كتبي. ربما لا يجدر بى أن أخبرك بهذا، لكنى بلغت الإدراك ذاته آلاف المرات فى أعمالي؛ إنه نهاية «أشكال العودة للمنزل»، والفرضية التى بنُيت عليها «بونساي».

 والتأمل فى شرعية الألم الذى ينعش القصة الأخيرة فى «وثائقى». إنه شعور وضع نفسك مكان الآخرين. قد تبدو عبارة مبتذلة اليوم. لكننى أقصد استحالة وضع نفسك مكان الآخر.

مكان شخص تعرض للتعذيب، أو مكان أبناء ضحايا حقيقيين. كل هذا يخلق مناخاً من التردد حيث الحقيقة والمصداقية عالقتان فى بحث لا ينقطع. إن الأمر يشبه اكتشاف أن الماضى لم يكن بالشكل الذى ظننت أنك مررت به. وهذا أمر مؤلم وملتبس، لأنه يمكن أن يغير كلية تصورك عن ذاتك والماضي.

 تنبض رواياتك بحضور الموسيقى والأدب. فى جميع أعمالك ثمة اهتمام قوى بالكتب والقراءة وتأثير الأدب فى الهوية والعلاقات. كيف يعمل التناص فى كتاباتك؟
وأظن أن «بونساي» هى أكثر رواياتى ارتباطاً بالرغبة فى القراءة والربط بين العوالم الموازية للواقع والقراءة. كما أنها تتناول إحباط القراءة. إنها عن الأدب باعتباره وهماً دائماً للهوية، يخونك دوماً لأنه يرغمك على البحث فى ذاتك عن شيء ما، شيء لا يقدمه بالكامل فى البداية.

وإنه يدفعك للتنقيب عن شيء لن تجده أبداً، وفى الوقت نفسه يقنعك بضرورة العثور عليه. لذا أرى أن وجود الكُتّاب والموسيقى فى «بونساي» كان أمراً طبيعياً، تشعب فى ما بعد فى جميع الاتجاهات.

وإن الكتب تترك أثراً على المرء، كما تصير مألوفة. إننى مدين لمن لم ألتق بهم. لقد اتخذت قرارات مهمة فى حياتى بسبب جوستاف فلوبير مثلاً. يبدو كلامى مثيراً للسخرية، وأراهن أن فلوبير كان ليسخر مني! 

و ثمة حضور قوى لكُتّاب بعينهم فى رواياتك، لا سيما ماريو ليبريرو وكلاريس ليسبكتور.
وأنا شغوف بقراءة أعمال ماريو ليبريرو، كما أنها ألهمتني. إنه يرتبط فى ذهنى دائماً بخوليو رامون ريبيرو لأنى أقرأ لهما فى الوقت ذاته. وبالرغم من أنهما يختلفان تمام الاختلاف، فإن ثمة إحساسًا مشتركًا بينهما.

وبالإضافة إلى حس الفكاهة. كما أنى طالعت أعمال كلاريس ليسبكتور منذ فترة مبكرة من حياتي. وأول ما قرأته لها كان قصة بعنوان «الحب». أعجبنى التغلغل السيكولوجى وحس الفكاهة المبنى على الملاحظة الدقيقة، مثل فكاهة فلوبير.

 ومن الواضح أن الحس الساخر مهم لفهم أعمالك.
وأنا مهتم بالفُكاهة بالمعنى العريض للكلمة، وليس مجرد المرح الهزلى المثير للضحكات الرنانة. بل الفكاهة النابعة من إحساس المسافة التى تسمح لك بفهم ذاتك. لا أظن أننى فقدت يوماً  إحساسى بالفكاهة. لقد كانت دوماً موجودة فى مكان ما.

ولكن خلال فترة المراهقة تناولت الشعر بجدية بالغة. وكانت كتابة الروايات ضرورة لاستعادة حس الفكاهة. لو كانت السخرية تعمل على مقياس من واحد إلى عشرة، والتهكم هو عشرة، من المهم اكتشاف المستوى الأول من السخرية. لابد أن يكون المرء قادراً على الذهاب صعوداً وهبوطاً بين المستويات، قبل أن ينحرف بغتة نحو اتجاه آخر.

وهل نأخذ أنفسنا بجدية أكثر من اللازم؟ هل نحن بحاجة إلى المزيد من الضحك فى الأدب؟
ولا أظن أن الأدب يمكن أن يوجد دون هذا الشرط الأول من التباعد الذى نطلق عليه الفكاهة، بالمعنى الواسع للكلمة. ومن المنطلق ذاته، لا يمكن أن تتعلم شيئاً عن ذاتك إن لم تتراجع قليلاً عن هذا المنطلق، قصة مريحة لا تنفك ترويها لنفسك وللآخرين.

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة