مع د. صلاح أثناء مناقشة رسالة دكتوراه لفهد الحسينى من البحرين
مع د. صلاح أثناء مناقشة رسالة دكتوراه لفهد الحسينى من البحرين


د.أمانى فؤاد تكتب : الذى عاش ثلاثة أعمار

أخبار الأدب

السبت، 17 ديسمبر 2022 - 12:45 م

فى الأسابيع الماضية، انشغل عقْل ووجدان الناقد والمفكِّر الكبير د. صلاح فضل بالموت، وتكرر حديثه عنه، فى كل زيارة كان يقُص نقاشاتِه الممتدةَ منذ سنوات - مع صديق عمره د. عز الدين إسماعيل، والشاعر الكبير: صلاح عبد الصبور - حوْل الموت، هذه الحقيقة الوجودية الغامضة والمحيِّرة، كما كان يستشهد ببعض الأبيات الشِّعرية القديمة لأبى العلاء المعرى والمتنبي، ويفسِّرها، فى استحضار فائق من ذاكرة شِعرية زاخرة، وكلَّما تغيَّرت بوصلة الحوار؛ جهة تفاصيل رسائل ماجستير ودكتوراة خاصة ببعض طلَّابه، أو أيِّ موضوعات أخرى، يتجاوز الكلام سريعًا، ثم يعاوِد حديثه عن الموت، وكيف يراه.


كان كلَّما التقينا قبل مرضه الأخير؛ يسألنى مباشرة:«ما هو جديدك؟»، فى ماذا تقرأين، يروقُنى حفْركِ فى موروثات العقل الجمعي، وخاصة فيما يتعلَّق بقضايا المرأة، كان ينصحنى بـ«مسافة أمان»، كما كان يسمِّيها؛ أى ألَّا أصدُم الوعى الجمعى بطرْح يمَسُّ ثوابتهم، حتى لو أنها بائدة وقديمة.

وكان يرى أنه على الكاتب أن يحرص على أرضية مشترَكة، يقف فيها مع قارئه من أجْل أن يلتقيا على أرض واحدة، فيحدث ما ننشُده من التأثير والتأثر، أرضية بإمكانها أن تجمعَهما دون أن تغلَّق النوافذ والأبواب بينهما.

وكان يرى أن القضاء على المساحة المشترَكة تلك لغير صالح الكاتب ولا المتلقي. كنت - وإن اختلفت معه نسبيًّا وخاصة فيما يتعلَّق بطرُق مواجهة الوعى الراكد، وإعلان موقف الكاتب دون إمساك العصا من المنتصَف - أظلُّ أُكِن الاحترام لرؤيته للأمور.


لقد ظَل ذِهن أستاذنا وناقدنا د. فضل حتى اللحظة الأخيرة يقِظًا، ومرتَّبًا منهجيًّا، حاضرًا مع كل تفاصيل ما يشغله، وبالرغم من أن الآلام وآثار المرض كانت قد أنهكت جسده؛ فإن روحَه ظَلَّت وثَّابة، تفكِّر فى الميتافيزيقا بوعى عميق، ومصير الإنسان بعد النهاية، والبدايات الأخرى إن وُجدت.


ضحك حين حكيتُ له أن لديَّ قِطًّا ذكيا كثيرًا ما ظننت أنه كان صيدليًّا ماهرًا فى حياة أخرى؛ لتعلُّقه وفضوله الكبير تجاه الأدوية، ومايرافقها من روشتات. ذو إرادة حديدية؛ عندما يريد شيئًا يظلُّ وراءه، معبِّرًا عن احتياجاته فى إصرار.

وأتذكر وقتهاأنه سألني:أين ستذهب طاقة روحى فى هذا الكون فى تصوُّرِك أماني؟ فكرت لبُرهة وقلت: ربما ستكون فى الجبال الشامخة، أو البحر، أو الأشجار الشاهقة.


وتعجَّبت كثيرًا فى الشهور الأخيرة من تحوُّلات الإنسان، كيف يؤثر الجسد -سليمًا أو معتلًّا- فى توجيه الحياة وتغيير نظامها للنقيض تمامًا، كنت أغبط د. صلاح فضل على قدراته الفذة.

فى الحضور الدائم والمتجدِّد فى الوقت، كان يستولد من اليوم الواحد ثلاثة أيام، وذلك حين يملأ الساعات بالقراءة فى كل جديد ومتابعته، وخاصة النصوص السردية، وأحيانًا الشِّعر، والتفكير، وبلورة الرؤى، وكتابة المقالات،وتنظيم الأنشطة والمؤتمرات والمشاركة فيها، اللقاءات المتعددة مع بَشَر من كل المجالات ومختلَف الاهتمامات.

وأخبرته ذات يوم إنه بنهْجه هذا مع الوقت، عاش أكثر من ثلاثة أعمار، بكل ما يمكن أن يكتسبه الإنسان داخلهم من معارفَ وتجاربَ، وبلورة تصورات وأفكار. عشق صلاح فضل الحياة والبَشر والحكايات، عشق الكتابة واللغة الجميلة، كانت الأسفار والأماكن الغريبة بثقافتها تجدِّد روحه ورتابة الأيام، عشق أيضًا الأفكار الجديدة المبتكَرة فى مجالات شتَّى.


استطاعت ابنته - وصديقتى الراحلة د. نهلة صلاح فضل - أن تنقل له الشغف بكل الابتكارات التكنولوجية، التى تيسِّر حياة الإنسان، وحين كنت أمازحهما بأنهما صارا رهينة للتشيُّؤ وشهوة الاقتناء، كان يلقى ضاحكًا تَبِعة التشيؤ هذه عليها مباشرة، ابنته التى وصَف رحيلها بإنه يوم انكساره.

ورحيل روحه قبْل جسده عن هذه الحياة. أحسب أيضًا أن معارك د. صلاح فضل الأخيرة - منذ تولَّى رئاسة مجمع اللغة العربية فى نوفمبر 2020، ووضَع خططه لتحديثه، وجعَل العربية الصافية، الخالية من التعقيدات ملتصقة بالتعليم والناس وقضايا المجتمع، ثم المعارضة الشديدة التى وجدها- أثَّرت على مزاجه العام، أرهقته المقاومة والمشاحنات التى واجهها بصبر كبير.


وفى ظهيرة أحد أيام يناير عام 2014، تلقيت مكالمة وأنامتَّجِهة لعملي، وإذا بصوته ذى الإيقاع الهادئ المنضبِط يقول: أنا صلاح فضل، وأكمل مباشرة، منذ ما يقرب من عشْر سنوات لم أقرأ بحثًا نقديًّا بروعة وجمال ما قرأت لك اليوم، عمل متكامِل وجريء فى تناوُل الموروث.

ويستند على ثقافة عميقة، ولغة واضحة، سلِسة دون وُعورة، واسترسل يصِف البحث، ويتحدث عن المعايير التى استند إليها ليكوِّن رأيه، طلب أن أرسِل له الإيميل الخاص بي؛ لأنه كتَب ملاحظاتِه، ويريد أن يُرسلها.

وكنت قد قدَّمت هذا البحث ضمن أبحاث الترقى لنَيْل درجة أستاذ مساعد، فى المكالمة نفسها عرَض عليَّ الانضمام لعضوية جمعية النقد الأدبي، لم أكن أعرفه شخصيًّا إلا عن طريق كُتبه التى تتلمذت عليها، والمقالات النقدية التى كنت أقرأها له فى جريدة الأهرام بصفة دورية.

وشعرت بسعادة بالغة بهذا الثناء الجميل على عملى النقدي، فهو استحسان لم يصدر من أستاذ عادي، لكنه من الناقد والمفكر الكبير د. صلاح فضل، رددت وقتها قائلة: حصلت اليوم على شهادة دكتوراة ثانية أستاذنا كبير نقاد المصريين والعرب.

وعلى مدار ثمانى سنوات كان أستاذا وصديقًا وأبًا لى ولعائلتى كلها، وجدًّا لولدي، عملنا معًا كثيرًا، وتناقشنا طويلًا، اتفقنا واختلفنا، تعلَّمت منه، واستفدت من خبراته فى الحياة، وذكائه فى قراءة المشهد الثقافى المصرى والعربي، عاونته أحيانًا.

وناوَشت أفكاره غالبًا، قال كثيرًا: إنه هو الآخَر استفاد من نقاشاتنا، وفتح آفاقًا على مناظير مختلفة من رؤية الحقائق، كان يروقه الفكر اليَقِظ المتمرِّد، أو كما كان يسميه الأفكار بروح الشباب الثائر.
أقص هذه الواقعة؛ لأُشير إلى جانب من إنسانيات صلاح فضل وأستاذيته التى شملت الكثيرين، مواقف الدعم والتشجيع التى تكررت مع معظم الباحثين.

وكُتاب السرديات الروائية والقصصية فى مصر والعالم العربي، والشعراء أيضًا، وخاصة بعد أن صار محكمًا فى برنامج أمير الشعراء لتسعة مواسم كاملة، طيلة خمسة عشَر عاما، ودون أن يكون بينه وبين أيِّ كاتب أو شاعر سابق معرفة فى الأغلب، هذا البرنامج الشعرى الذى رأى فيه إنه عودة للاهتمام بالشعر العربى العمودى بأوزانه وقافيته.

والشعر خشى عليه من الغياب والاندثار بعد أن اجتاحت الرواية الزمن والأدب وفاعليات الاحتفاء، الاهتمام بهذا النوع الشعرى لم يمنع صلاح فضل أن يكتب أجمل مقالاته وكتبه فى شعر التفعيلة وأيضا شعر العامية المصرية،أستاذية صلاح فضل وعشقه للتميُّز كانت تدعوه لدعْم كل صاحب قلم مبدع حقيقي،فكان يشجِّع ويضيء الطرُق أمام المبدعين باختلاف تياراتهم.

 

اعتدَّ د. صلاح فضل بتكوينه المعرفى والثقافى والأدبي، وجمْعه بين دراسة آداب الحضارة الشرقية العربية، والحضارة الغربية، وعيْشه بتلافيف هذه الأخيرة، منخرِطًا بين أناسها وثقافتهم منذ أول بعثته 1965 حتى حصوله على الدكتوراة 1972 ثم أستاذا زائرا فى المكسيك حتى 1977.

ومستشارا ثقافيا، ثم مديرا للمعهد المصرى للدراسات الإسلامية فى مدريد حتى 1985، هذه الفترة الممتدة جعلته مواكبا لكل ما يصدر فى الغرب من اتجاهات نقدية حديثة،ولذا كان يحكى ضاحكا: إنه بيده يملك صكَّ مرور الكُتاب لعالَم الإبداع، ثقة فى تمكُّنه العِلمى واتساع معرفته بتيارات ومدارس النقد العالمي، وذائقته المثقفة، وأيضًا نزاهته، وكان قد تأثَّر بهذا الأمر من أستاذه لويس عوض، وكان يقول إنه مَجازًا استلم منه هذا الصك.


تناقَش معى مَرات حول أن ثقافتنا العربية تأكل نفسها، فلا يبقى منها شيء، وحين استوضحته قال: إن حقيقة التراكم المعرفى الذى يؤدِّى لتغيير نوعيٍّ لا يتوافر فى ثقافتنا، فنحن بارعون فى استحداث عروض منفردة، يستهوينا القضاء على من كانوا قبْلها، والتعتيم عليهم، لدينا شهوة الانفراد على ساحة كل مجال.

ولذا نفتقر فى علومنا ومناهجنا لحركة من الديالكتيك الحقيقي، هذا الجدل الذى يُحدِث دفْعًا وتطورًا. كان يرى أيضًا أننا فى مصر لا نقرأ بعضنا البعض، نقادًا ومبدعين وكُتاباً، وأن أكبر نِسَب قراءة لكتبه واقتناء لمؤلفاته تحدث فى بلاد المغرب والعراق والشام والخليج، وكان سعيدًا أن أساتذة النقد ومناهجه يدرِّسون كتبه فى معظم أقطار الوطن العربي.


وقريبًا، قبْل مرضه الأخير، كنا فى أحد اللقاءات الثقافية، نناقش أسباب تطوُّر المجتمعات، وقيام الدول المدنية، ووسائل وآليات القضاء على الإرهاب والخطابات الرجعية المتشددة، وعوامل ازدهار الأدب وحركية الحياة الفكرية والعلمية.

وقال د. فضل: تحدَّثت مِرارًا،وطيلة عقود،عن دور الحرية فى بنية المجتمعات، دورها فى تجدُّد وازدهار مجالات الفكر والإبداع والتطور العلمي، دور الديمقراطية فى بناء مجتمعات مستقرة تتطلع إلى المستقبل. ثم أضاف: أدركت الآن- وتطوُّرًا لمقولاتى وأفكاري- أن الحرية وحدها لا تكفي، وأنها مع التنمية، التنمية بكل صورها، محوران متلازمان لبناء الدولة المستقلة.


وكان لاختيارات د. صلاح فضل بعض المعايير، التى حرَص على التميُّز والتفرد فيها، فلقد اختار أن يكتب المقال النقدى فقط فى الصحف، وغالبًا ما كان يدور حول عمل سردى أو ديوان شِعري، ولم يكتب إلا نادرًا فى الشأن العام.

ورغم أنه انخرط فى قضاياه، وكان حاضرًا فى قلب المواقف المصيرية، كانضمامه للجنة الخمسين 2014، حين كتابة دستور مصر بعد ثورة يناير 2011، ومشاركته فى صياغة هذه البنود والمواد التى كانت مسار مداولات واختلافات.

وأيضًا فى كتابة وثائق الأزهر، التى تم إقرار بعضها، وتم التعتيم على بعضها الآخَر، ولم تصدر، وخاصة ما تعلَّق بوثيقة المرأة وحقوقها، ولقد شهد له الجميع فى كيف كان يجد لهم الحلول، ويصوغ أعقد المسائل فى لغة دالة وشفافة.

وحين سألتُه: لماذا هذا الاختيار الذى يجعل موضوعات مقالك محدودة، رغم اهتماماتك بكل قضايا الشأن العام والثقافة؟ رد قائلا: إنه سمع إحصائية ذات يوم جعلته يبتعد عن الكتابة فى الشأن العام، وأراد أن يحتفظ لنفسه بالمغايرة والتميز، أوضح: إن أحد أصدقائه أحصى مقالات الشأن العام وعدد كُتابها.

وقال إنه يصدر صباح كل يوم فى مصر فقط-وقت هذه الحادثة -ما يقرب من 80 مقالًا فى كل صباح لــ 80 كاتبًا، جميعهم يكتب ضمن مقالات الرأى فى الشأن العام، وهى ذاتها نفْس الموضوعات التى يتحدث عنها الجميع.

ويكررون ذات ما يطرحون؛ فاختار هو منطقة تُميِّزه، وكتب فى فلكها، وقتها رأيت فى اختياره منظورًا يُحترم، رغم اختلاف معالجات كتابة المقال فى الشأن العام، حين تصدر عن ناقد يجمع بين الرؤى الفكرية والفنية الأدبية.


وأدرك د. صلاح فضل قيمة الناقد الحقيقي، الموضوعي، وقدَّر دوره فى المشهد الإبداعي، وأعلى من جهده، وطالَب بتقديره على نحو جيد ومناسب، وفرَض على الجميع النظر باحترام للجهد النقدي،كما تعجَّب من موقف المبدعين من النقاد.

وأشار لحساسة العلاقة والتباسها،وأشار لعدم رضاء الكاتب الدائم، إلا إذا كان ما يصدر من الناقد لصالح النَّص ومبدعه، ولذا أكبَر الصدق والموضوعية دون التفات لما يُثار من هجوم يتقصَّده.


وعشق التميُّز، وأخلص لعمله؛فألزم نفسه بالتفرغ يوميًّا لقراءاته، دون انقطاع لساعات طويلة، ثم بلورة أفكاره النقدية فى نقاط والكتابة حولها وهو ما ترك انتاجا غزيرا وصل لأكثر من خمسة وأربعين مؤلفا، شغله أيضا توجيه الباحثين الذين استكملوا معه دراساتهم فى الماجستير والدكتوراة من مصر.

وكل الناطقين بالعربية، واشتغل أكثر من خمسة وستين عامًا دون كلَل، ودون توقُّف عن تطوير منظومته المعرفية، الأدبية والنقدية، إلى أن أنهك قدرةَ متابعته الدؤوبةَ المرضُ، كان يقرأ ويكتب ويتابع كل ما يصدر فى مصر والإقليم العربي، وأيضًا العالمي، لوقت قريب، ولم يكن هناك من النقاد من يتابع المشهد النقدى ويكتب عن أحدث الإصدارات فى الرواية بقدر جهْد د. فضل.


وكثيرًا ما تأملت نقاشات د. صلاح فضل مع طلبة الدراسات العليا فى معهد الدراسات العربية، ولمست قدرته الفائقة على بلورة شتات أفكار ورغبات شباب الباحثين،واندهشت من قُدرته على استيعاب طرْح الآخَر من حوله، يتركهم يتحدثون ويفصحون عن رغباتهم فى دراسة موضوعات بعينها، يتحدثون عن بعض الظواهر التى لاحظوها وتشغلهم.

ويتحدَّثون وهو يستمع فى صمت، إلى أن يشعر ببداية تكرار الباحث لما يقول، فيشرع يمسك بقلمه؛ ليبلور كل ماقاله الدارس ويعيد صياغته بصورة منهجية منظَّمة، تنُم عن عقلية منطقية واضحة الأفكار، ثم يشارك الباحث كتابة خطة منهجية تراتبية، ثم يبدأ فى طرْح الأسئلة التى تفتح محاور فصول البحث وموضوعاته.

وكيفية الكتابة فيها، وسريعًا ما يقترح للباحث مصادره ومجموعة من المراجع، أحيانًا شعرت أن د. فضل يُعلى من شأن كُتبه كمراجع لرسائل الماجستير والدكتوراة، لكن بعد قراءة معظم منتجه النقدي؛ اكتشفت أنه لم يكن يذكُر إلا القليل،لتنوُّع الموضوعات والمعالَجات التى كَتَب بها.


إن صياغة ما يبدو شتاتًا يتدافع، وترتيبه ووضْعه فى صورة ممنهجة ذهنيًا، وأيضًا اللغة المطواعة التى هذَّبها د. صلاح لتُعبِّر عن ذهنيته البحثية، هى القدرة ذاتها التى جعلت الجميع يلجأون إليه، ويثقون فيه، وفى حُسن تقديره، وتطويعه للغة، وهو مايبرر اختياره فى لجنة الخمسين لكتابة الدستور المصري، وأيضًا وثائق الأزهر بعد الثورة.


وهذه القدرات الذهنية والفكرية واللغوية - التى نادرًا ما تجتمع فى شخصية واحدة - مكَّنته من التميُّز، ساعدته أيضًا خبرة السنوات التى قضاها فى وظائف دبلوماسية فى المكسيك وأسبانيا، أكسبته الدبلوماسية القوة الناعمة الهادئة، التى تستمع وتحاوِر فى محاولة لإيجاد نقاط تلاقٍ لا اختلاف.

ربما وبعض المراوغة التى تجنِّب الإنسان الصدام، وأذكر أننى سألته وأنا أقرأ وثائق الأزهر، من أين لك معرفة تلك المصطلحات الحقوقية والدستورية التى كُتبت بها بنود الدستور والوثائق؛فحكى لى تجربته وهو لم يزَل صبيًّا مع عمه، الذى التحق بكلية الحقوق.

وكيف أن عمه كان يعجب بقراءته وصوته؛ فكان يدعوه لقراءة مواد القانون التى يدرسها فى جامعته، ويقتصر دوره على الاستماع إليه، يقول د. فضل إنه منذ ذلك الوقت استقرَّت فى ذهنه مواد كلية الحقوق، وراقته، وعلَّمته الكثير من الحياة والقدرة على فهمها.


وتعلمت من د. صلاح فضل ألا أكون صريعة لأوهامى وأحلامي، التى تتوقع الكثير من الآخَرين، كان يدرك النفس البشرية وقدْر الأطماع بها، وقدْر تحوُّلاتها ومتغيراتها، تعلمت منه مرونة الفكر والتسامح مع تحولات البَشر، أن نهب لنأخذ، حتى مع أولادنا الذين نعتبرهم امتدادًا لنا وأجزاء منا، كان يقول: لكل إنسان عالمه، وذكاؤنا ينحصر فى تهيئة نقاط التلاقي، والعطاء، والحفاظ على القدْر الذى يريحنا مع الآخَرين.


لا أحسب أن منجَز د. صلاح فضل النقدى والفكرى قابِل للإحاطة به، ولا النفاد مع الأيام، وأتمنى بالفعل ألا تأكل ثقافتنا ومنتجنا النقدى بعضه البعض، ولذا أدعو لقراءة منجَز أستاذنا مَرات ومَرات، والبناء فوقه بما يتسق وتاريخية الحياة وتغيُّر أحوالها.

اقرأ ايضًا | جامعة القاهرة تنعي صلاح فضل رئيس مجمع اللغة العربية

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة