منى قطان.. بريشة صلاح چاهين
منى قطان.. بريشة صلاح چاهين


منى قطان تكتب: صورة شخصية لزوجة شاعر

أخبار الأدب

السبت، 14 يناير 2023 - 01:37 م

كان مصريًّا، وتجرى فى عروقه بعض الدماء الألبانية؛ متسقًا مع ذاته، ويستطيع أن يعبر عنها بالعامية بفصاحة ندر أن يوجد لها مثيل فى الفصحى.

كانت أطول منه، ملامحها تقترب من مظهر الصبيان؛ أو كما يقول الطليان: «falsa magra». وكان هو بدينًا وشعره الخفيف فى طريقه للصلع. ومن حيث الروح، كان مرحًا واجتماعيًّا، بينما هى خجولة وصموت. كان الناس يجتمعون عنده، حيث يعمل فى مكتبه بمبنى جريدة الأهرام فى موقعها القديم، ليأتنسوا بصحبته.

وقد أتت ضمن هؤلاء، حين قدمتها له أمها (المرأة الوحيدة التى كانت تعمل محررة بالجريدة فى ذلك الوقت ومنذ أوائل الخمسينيات؛ لكن المكان ازدحم بعد ذلك بعشرات الصحفيين الزائدين عن الحاجة من النساء والرجال، والذين تعيَّن معظمهم بالواسطة والمحاباة).

وفى خلال شهرين، شعرا معًا بالحاجة إلى أن يرى أحدهما الآخر كل أسبوع، فى مكان بعيد عن زحام الناس. فصارا يتمشيان معًا فى شوارع القاهرة، أو يتواعدان للرقص فى مطاعم إيطالية بالإسكندرية يشعران فيها بالراحة والدفء الحميم.

وقد أثار دهشتها حين راقصته، لأنه تكشَّف على الرغم من بدنه الثقيل عن خفة فى الرقص كأنه ريشة. وأثناء ذلك، كانا يتحادثان طوال الوقت: عن نفسيهما، عن الحياة، عن الفن، عن كوكب الأرض! وظلَّا يتكلمان، حتى قررا أن يعيشا معًا، إلى الأبد.

وقد أسَرَّ لها، فى بعض تلك الأحاديث، أنه كان فى البداية فاقد البوصلة، وأنه ترك دراسته الجامعية قبل أن يكملها، مما أثار غضب والده وإحباطه. فقد أراد الأب أن يرى ابنه على صورته: قاضيًا أو محاميًا. كان مولوده الذكر الوحيد، الذى سيرث اسم العائلة، إلى جانب ثلاث من البنات، كانت كبراهن، الأصغر منه بعام، تضمر تنافسًا خفيًّا معه.

وإلى جانب الارتباط العاطفى العميق. وقد أنهت هى دراسة القانون لتفوز برضا الوالد. كان شاعرها - والضمير هنا لبطلة هذه الحكاية - يُسمِّى أخته بحب ودعابة «أبلة الناظرة»، لأنها كانت تعنفه أحيانًا لافتقاره للإحساس بالمسؤولية.

وقد نصحه أحد الأصدقاء بالزواج، لأن ذلك سوف يجبره على تحمل المسؤولية والاستقرار فى وظيفة. وعملًا بتلك النصيحة، تزوج بمدرسة رسم كانت فى السابق تعمل رسَّامة فى المجلة نفسها التى عمل بها فى بداية حياته الفنية.

وكانت أمه قبل ذاك بنحو ثلاثين عامًا تفاخر صاحباتها بأنها أنجبت أجمل ولد فى الدنيا. هكذا كان يحكى ساخرًا وهما معًا فى حلبة الرقص. بينما كانت تراه هى بعينين مختلفتين؛ ربما بنفس العينين اللتين رأته بهما أمه من ثلاثين عامًا. كان يقول لها: «تقرصيننى كما كانت أمى تفعل، تحت كوعي!».


وكانت سمنته تتناقض مع قامة أبيها الفارعة، وتمنحها إحساسًا بالدفء والراحة، وتغمرها سرًّا بإحساس عميق بالأمان. كانت تسأل نفسها أحيانًا: هل أنا على الأرض أم على سطح القمر؟ كانت كل نجوم الكون اللامعة تحيطهما معًا، وقلباهما معًا يتلألآن.

وقد جرفتهما الموسيقى، بل مجرد حضورهما معًا، أحدهما بالقرب من الآخر. كانا روحين مرهفتين، كلاهما قابل للكسر، لكن كلًّا منهما يستمد القوة من الآخر: من هذا الانجذاب العارم إلى شخصية ذلك الآخر.


وكان مثلها قارئًا نهمًا منذ الطفولة. ذات مرة أغلقوا عليه مكتبة مدرسته الابتدائية فى صعيد مصر، وظل بها محبوسًا طوال الليل، لأن المشرفين لم يلاحظوا وجوده عند موعد الإغلاق، وظلت أمه تبحث عنه فى كل مكان. كما حكى لها.

وهما فى حلبة الرقص أيضًا، أن أباه اصطحبه يومًا - وكان يعمل أيامها وكيلًا للنيابة - إلى مشهد جريمة، وأن ذلك المشهد ظل منقوشًا فى ذاكرته منذ ذلك اليوم البعيد: لقد رأى، وهو يرتجف من الرعب، امرأة شابة غارقة فى بركة من الدم، بعد أن قتلها أحد أقاربها انتقامًا لشرف العائلة.

ويبدو أنها قد سلمت جسدها لرجل قبل الزواج منه وصارت حبلى. لقد أراد والده أن يعطيه درسًا فى الرجولة وقوة الاحتمال. وربما كان ذلك المشهد وراء تعاطفه الدائم مع النساء واستماعه باهتمام لمشكلاتهن.

وربما أيضًا ساعدته هذه الذكرى البعيدة فى كتابة نص سينمائى عن أميرة سعودية قُتلت بالسيف لتورطها فى حُب فتى من خارج أسرتها المالكة. كان لذلك المشهد المؤلم بالتأكيد أثر على أعصابه المرهفة، فقد تعرض له فى سن مبكرة. ومبكرًا أيضًا تعلم جدول الضرب.

وهو فى الثالثة من عمره، فقد كانت والدته تطمح منذ البداية إلى أن تجعل منه رجلًا لامعًا. وقد حافظ طوال عمره على شهيته للكتب والتهامها؛ خاصة كتب التاريخ التى تحكى عن مصر القديمة والحديثة. كلاهما أحب التاريخ، لكنها «هي» لم تكن تعرف الكثير عن تاريخ العرب.

وكان «هو» أيضًا قارئًا نهمًا للأدب، ومن الأعمال الأثيرة لديه كتاب «ألف ليلة وليلة». وكان يحب اقتناء النسخ القديمة من بعض الكتب، ويبحث عنها طوال الوقت، ويحرص على تجليدها لحفظها من التلف.

وكثيرًا ما كانا يجلسان على رمال شواطئ الإسكندرية، تحت شمسية، وفى أيديهما كتب ضخمة، ويقرأ أحدهما للآخر بصوت عالٍ، قصائد من الشعرين الإنجليزى والفرنسى، وهو مشهد كان يثير بالطبع فضول العابرين. كان يفهم اللغتين فهمًا جيدًا للغاية، على الرغم من أنه لم يدرسهما أكاديميًّا على المستوى الجامعي.

وأحيانًا كانا يتجادلان بحماس حول أحداث التاريخ فيظنهما الأصحاب يتشاجران كما يفعل العشاق. وقد باح كلاهما للآخر بأسرار حياتهما العاطفية الماضية بكل صراحة ولم يكتما شيئًا. وهو فى الصبا، أحب جارة له وصديقة للعائلة.

ولكنه كان فى ذلك العمر يرى الزواج فخًّا - وهو مفهوم للزواج قد صار شائعًا الآن - وأضاف أنه أحب تلك الصديقة بصدق منعه من أن يتقدم للزواج منها! وحين طلَّق زوجته فيما بعد، كان حزينًا ومضطربًا، لأن القانون لم يمنحها الحق نفسه لأن تفعل به ما فعله بها إن أرادت هى ذلك.

وقبيل وفاته، بعد ذلك الطلاق بسنين طويلة، أعاد إلى عصمته على الورق زوجته المطلقة، لكى يكون لها الحق فى التمتع ببعض معاشه والدخل الذى يترتب عن إذاعة أعماله الفنية. يا له من شيء نادر: أن ترى شاعرًا يعكس فى أحاسيسه وسلوكه نفس الرقة التى تشيع فى شعره! إنها تتذكر الآن آرتور رامبو، شاعرها الفرنسى الأثير.

وكيف كان تاريخه الشخصى صادمًا، وكذلك كان كثيرون ممن قرأت لهم، وآخرون جايلتهم وعاصرتهم من بين معارفها فى مصر؛ فمنهم الانتهازي، ومنهم منتفخ الذات، وتشهد على ذلك خصوماتهم فى تنافسهم على الشهرة والنجومية. كان هو مختلفًا؛ بريئًا كولد فى سن المدرسة، يفعل فى الحياة ما يحلو له: ما يحبه أكثر من أى شيء.

وكان يمزح حول هذه النقطة: أنه يفعل ما يحب، ويتلقى على ذلك أجرًا فوق ذلك! وقد صُدم أحد زملائه الأصغر سنًّا، واحد ممن قدمهم زوجها إلى القراء وصار من كبار الشعراء، صُدم إزاء الرقم الهزيل الذى اكتشف أن أستاذه يتقاضاه أجرًا عن أعماله الغنائية، وذلك حين اشترط التلميذ على بعض المتعاقدين معه أن ينال الأجر نفسه الذى يتقاضاه مكتشفه!


وعلى الرغم من موارده المحدودة، كان زوجها سخيًّا مع ضيوفه من زملائها فى معهد الفنون المسرحية، الذين نزحوا إلى القاهرة من قرى صعيد مصر ودلتاها ليدرسوا فن التمثيل وجيوبهم خاوية. فكان يدعوهم أحيانًا إلى ولائم كبيرة فى مطاعم صغيرة.

ويظل يثرثر معهم حتى مطلع الفجر، وهم يخشون أن تطلع جريدة الأهرام فى الصباح التالى ومربعه الكاريكاتورى الشهير عبارة عن مساحة بيضاء!

كان كلاهما يتشاركان فى النظرة إلى الحياة، لا ترى المال محركًا للكون. ولهذا كان من السهل عليهما أن ينسجا معًا شرنقتهما ويبنيا عشهما ومستقبلهما المشترك، بالسهولة نفسها التى تقاسما بها تكاليف مصروف البيت، للتأكد من أن دخله يغطى احتياجات أطفاله.

وقد رفض حتى أن يقتنى لنفسه جهاز تكييف ما دام أولاده لم يحصلوا على مثله. وحين كانا يبحثان عن شقة يؤسسان فيها بيتهما، عرضت «هى» شقة جميلة تطل على النيل، لكنه رفضها للسبب نفسه.


وكانا يجلسان على قمة العالم، يطلان على خريطة بيت المستقبل. ماذا لو صنعا بالمقص كراسى ومناضد وأسرَّة خيالية من ورق الكرتون. ماذا لو أنشآ وهيآ منصة، تشبه مسرحًا فى الهواء الطلق، فى الشرفة الواسعة التى سيمتلكانها فى الدور العلوى للمبنى.

كانا مركز العالمين، القديم والجديد. وكل الحالمين بالإمبراطوريات، قبل زمن الاكتشافات البترولية، قبل اختراع السيارات، كان عليهم أولًا أن يقهروا هذا الجزء من الكوكب، الذى يُدعى «الشرق الأوسط».

ولقد وافق - بناءً على اقتراح من أخته ذات التفكير العملي، ولما رأى زوجته تبدد مالها هنا وهناك - على أن يشتريا تلك الشقة ذات الموقع الجيد، القريبة من مبنى جريدة الأهرام ومن المسرح القومى الذى قدمت عليه مشروع تخرجها من معهد الفنون المسرحية.

وقد وافقت على الفكرة واشترت الشقة، القائمة فى منطقة عاشت فيها سنوات طفولتها. وكان اهتمامه «هو» بها مدهشًا. لم يفكر يومًا فى أن يدخر شيئًا لنفسه. كان المال بالنسبة إليه مجرد وسيلة لتلبية الحاجات اليومية لبيتين وعائلتين.

ولم يكن قَطُّ هدفًا فى حد ذاته، بينما معظم الناس من حولها كانوا على العكس من ذلك. حين رأته أول مرة، كانت أمها نفسها هى التى قدمتها إليه، فى مبنى «الأهرام» القديم، حيث شعرت البنت العائدة من إنجلترا بالألفة فى ذلك المكان الحميمي.

وكانت أمها قبل ذلك قد سألته النصيحة إن كان من الأفضل أن تظل ابنتها فى إنجلترا، فكان رأيه أن عودتها - وهى المهتمة بالمسرح - مناسبة فى جو الازدهار المسرحى الذى كانت القاهرة تتمتع به فى عقد الستينيات. قالها وهو يجهل تمامًا أنها ستصبح زوجته الثانية!


وكان مصريًّا، وتجرى فى عروقه بعض الدماء الألبانية؛ متسقًا مع ذاته، ويستطيع أن يعبر عنها بالعامية بفصاحة ندر أن يوجد لها مثيل فى الفصحى، على الرغم من أنه نشأ فى بيئة ثقافية ترى الفصحى اللغة الأسمى للتعبير الأدبي.

وقد ثار الجدل، فى ذلك الوقت، حول هذه القضية (جدارة الفصحى أم العامية)، وكان معظم كُتَّاب الفصحى يعدون أنفسهم أرقى أدبيًّا من كُتَّاب العامية. إلا أن لغة كل يوم كانت تصل إلى قلوب الناس أسرع وبسهولة أكبر، والأهم، فى هذا السياق، قلبها هى!


كانت القاهرة محل ميلاده، وبالتحديد حى شبرا، الذى كان فى ثلاثينيات القرن الماضى منطقة هادئة تسكنها الطبقة الوسطى. وهو الحى نفسه الذى سكنته فى الماضى المغنية الفرنسية-الإيطالية الشهيرة داليدا، التى كتب لها «هو» فيما بعد عديدًا من الأغانى الذائعة.

لكنه لم يمكث طويلًا فى ذلك الحى، لأن أسرته تنقلت كثيرًا فى سنوات صباه ما بين أقاليم مصر المختلفة، بحكم تنقلات والده الوظيفية ما بين نيابات المحافظات. أما شبرا الآن، فقد تحولت إلى حى شعبى مكتظ بالسكان، تغلب عليه العمارات العالية التى حلت محل الفيلَّات القديمة.


وحين طلبت الدولة شهادة ميلادها، ضمن أوراق أخرى، لإتمام إجراءات زواجهما، اكتشفت أنها لا تملك واحدة. لم تكن متأكدة من هويتها؛ إحساسها الشعرى كان بالفرنسية، ولغة تفلسُفِها الإنجليزية، أما العربية فكانت فاقدة الثقة حين تستخدمها.

كلمات طفولتها الأولى قالتها بالإيطالية، معبرة عن صداقتها مع الجارة ذات السنوات الخمس. أما مخاوفها فقد سجلتها بالفرنسية فى مفكرة دوَّنت فيها يوميات. وأما تعليمها الثانوى والعالى فكان بالإنجليزية.

كان هذا راجعًا للهيمنة الإنجليزية والفرنسية المزدوجة على منطقة الشرق الأوسط فى زمن الحربين العالميتين وما بينهما. فلكى تتلقى تعليمًا جيدًا، كان عليك أن تلتحق بمدارس أجنبية. ولأن الفلسطينيين فقدوا أرضهم، كان عليهم تعويض ذلك بالاستثمار فى التعليم الراقى الذى يمكِّن أولادهم من الحصول على وظائف جيدة فى المستقبل.


لكل هذا، تطلَّب الأمر وقتًا طويلًا ومشقة كبيرة حتى نجحت أخيرًا فى قراءة قصائده بالعامية المصرية واستيعابها والاستمتاع بها. فكل ما تعلمته من قبل من هذه اللغة، كان بعض العربية الفصحى، كمادة فرعية جانبية، فى جميع المدارس والبلاد التى مرت بها، حتى فى مصر.

ولكنها مع تعودها وألفتها التدريجية للغة العربية افتتنت بعمق وبساطة وروعة شِعره. والشيء الوحيد الذى كانت «هي» متيقنة منه: أنها تحب ذلك الرجل؛ أنها تحب، وبعمق، رجلًا لم يكن يشبه فى شىء نجوم السينما فى هوليوود، إلا أنه كان أروع إنسان عرفته واستطاعت أن تتواصل معه.

وهى الخجولة الصموت بطبعها؛ حتى إن مجموعة من السيدات، دفعهن الفضول للتعرف على الفتاة التى وقع شاعرهن فى غرامها، أصبن بخيبة أمل كبيرة حين قدمها إليهن. فلقد تحدث لهن عنها طويلًا طويلًا.

حتى توقعن أن تتجلى عليهن عند اللقاء «Diva»، لكنهن وجدن فى المقابل مخلوقة صامتة خائفة، ذات شعر معقوص على هيئة ذيل حصان، وأنف طويل، وبسمات خجول.


لقد حصلت على جائزة فى مادة التاريخ بمدرستها الثانوية الإنجليزية، لكنها كانت فاقدة الصلة بتاريخها العربي. وكان «هو» يتألق ويتجلى وهو يصف ويحكى لها عن الآثار الفاطمية التى يمران بها فى جولاتهما بأحياء القاهرة القديمة، فيتيح لها لمحات لعالم كانت تجهله، بل - ربما - تتجاهله.

وكانت لا تزال تحتفظ بالكتاب الذى ربحته كجائزة عن بحثها التاريخى: رواية «صورة شخصية للفنان فى صباه» لجيمس جويس، وكانت تقرأ له مقاطع منها، وهما جالسان فى مقهى أثرى قبل صعودهما معًا جبل المقطم لكى ينعما بإطلالة بانورامية على القاهرة القديمة.

وكان يجلس حولهما فى ذلك المقهى خلق عاديون يدخنون الشيشة، وربما كانوا يتخيلون ساعتها أن شاعرهم يصحب سائحة أجنبية. أينما ذهبا، كان الناس يحيونه. لم تكن تحسب أنه مشهور ومحبوب إلى هذه الدرجة. فقد ظنت فى البدء أنه مجرد رسَّام كاريكاتير يعمل بالصحيفة نفسها التى كانت أمها تعمل بها.

اقرأ ايضًا | من أوراق صلاح جاهين: ملخص السهرة الفيليمية مع السلامة.. يا وزة!


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة