ألبير كامى
ألبير كامى


ألبير كامى يكتب .. السقوط

أخبار الأدب

السبت، 21 يناير 2023 - 01:33 م

اتسمح لى يا سيدى أن أقدم لك عونى دون أن أبدو متطفلًا؟ فأنا أخشى أن ذلك الساقى المحترم شبيه الغوريلا الذى يسيطر على مقادير هذا المكان لن يفهم ما تطلب منه. ذلك أنه لا يتكلم إلا اللغة الهولندية، فإذا لم تسمح لى بمباشرة قضيتك، فإنه لن يفهم أبدًا أنك تريد كأسًا من «الجين». آها، إنى أجرؤ على القول بأنه فهمنى، فهزة رأسه تلك تعنى أنه يوافق على ما طلبته منه. وهو بالفعل يأخذ خطوات سريعة بتمهل واع ٍ. من حظك أنه لم يزمجر؛ فهو إذا رفض أن يخدم أحدًا تكفيه زمجرة واحدة لا يصر المرء بعدها على طلب شيء. إن ما تتميز به الحيوانات الضخمة هو قدرتها على التحكم فى مزاجها. ولكن، اسمح لى بالانسحاب يا سيدى فأنا سعيد لأنى أسديت لك معروفًا. آها، إنى أقبل دعوتك شاكرًا إذا كنتُ على ثقة بأنى لا أثقل عليك. إنك لطيف جدًا، سأجلس إلى جوارك إذن وأضع كأسى إلى جوار كأسك.

إنك على حق، فصمته ذاك يؤذى الآذان. إنه الصمت الذى يسود الغابات البدائية، مليئة بالتهديدات. أحيانًا أتعجب من عناده بعدم استخدام ألفاظ مهذبة، فعمله يعتمد على خدمة بحارة من كل الجنسيات فى هذه الحانة.

وهو ما دعاه إلى أن يسميها – لا أحد يدرى لماذا – «مكسيكو سيتى» رغم أنه فى أمستردام. ألا تعتقد أن جهله يثقل عليه وهو يؤدى عملًا كهذا؟ تخيل أن يسكن إنسان كرو-مانيون (ما قبل التاريخ) فى برج بابل! أقل ما يُقال عند ذاك إنه سيشعر أنه خارج نطاقه. كلا، هذا الرفيق لا يبدو وكأنه يشعر بأنه منفِى.

فهو يواصل عمله برغم ذلك. من الملاحظات القليلة التى سمعتها منه أنه يعلن أن الشخص يمكنه أن يقبل أو يرفض. ما هو الذى يقبله أو يرفضه؟ من المحتمل جدًّا أن يكون الأمر يتعلق برفيقنا هذا نفسه. يجب أن أعترف أن قلبى يرق لمثل هؤلاء القوم الذين يظهرون دائمًا بشخصيتهم الحقيقية.

ولو أنك فكرت بعمق فى بنى الإنسان، سواء لأن ذلك من مهام عملك أو مهنتك، فلسوف تشعر أحيانًا بالحنين الى أولئك القوم البدائيين. ذلك أنهم لا يخفون نوايا داخلية.


وفى الواقع، لا ينطبق ذلك على صاحبنا إياه تمام الانطباق، رغم أن أى حنق يحسه يدلف الى أعماقه. فقد أدى عدم فهمه ما يقال فى حضوره إلى خلق طبيعة الشك، وذلك يفسر الهيئة التى يبدو عليها من التجهم العصبى، كأنما هو على الأقل يشك أن الناس ليسوا على ما يرام تمامًا.

وهذا يجعل من الصعب الحديث معه عن أى شيء لا يتعلق بعمله. خذ هذا المستطيل الفارغ على الحائط الخلفى فوق رأسه الذى يبين أنه كانت ثمة لوحة معلقة هناك. نعم، كانت هناك لوحة يومًا ما، لوحة ذات أهمية خاصة، تحفة حقيقية. حسنًا.

ولقد كنتُ موجودًا هنا حين اقتناها صاحب الحانة وكذلك حين تخلى عنها. وفى كلتا الحالين، فَعَل ذلك بكل الشكوك ذاتها وبعد أسابيع من التفكير. وعلى المرء أن يعترف فى ذلك الأمر أن المجتمع قد لطخ على نحو ما البساطة النقية لشخصيته. 


عليك أن تعرف أننى لا أصدر حكمًا. أنا أعتبر شكوكه فى محلها ويمكننى بكل ود أن أشاركه فيها ما لم يكن ذلك، كما ترى، مناقضًا لطبيعتى الاجتماعية، فأنا للأسف ثرثار وأجذب الأصدقاء بسهولة. فبرغم إمكانى أن أحتفظ بمسافة محترمة بينى وبين الناس، فأنا أنتهز أى فرصة.

وحين كنت أعيش فى فرنسا، إن رأيت رجلًا عليه ملامح الذكاء، لم يكن بوسعى إلا أن أتعرف عليه. آه، أرى أنك تبتسم من عبارتى، ذلك أننى أعترف بضعفى أمام استخدام صيغة الاحتمال وباللغة على وجه العموم. صدقنى إن قلت أننى لست فخورًا بذلك؛ فأنا أعرف تماما أن الاهتمام بنظافة الملابس الداخلية لا يعنى بالضرورة أن قدميْ المرء قذرتان. هذا لا يمنع ذاك.

الأسلوب، مثله مثل قماش البوبلين، يخفى الأكزيما فى أغلب الأحيان. وعلى كل حال، فأنا أعزى نفسى، بفكرة أن من يتهتهون فى كلامهم ليسوا بمنأى من اللوم أيضًا. أجل، أجل، فلنطلب المزيد من «الجين».


وهل ستمكث كثيرا فى أمستردام؟ مدينة جميلة، ألا تعتقد ذلك؟ مبهرة؟ هذه صفة لم أسمعها منذ مدة طويلة. منذ غادرت باريس فى الواقع، أى منذ سنوات طويلة. ولكن القلب يتذكر، وأنا لم أنس شيئًا من عاصمتنا الجميلة وأرصفتها.

إن لباريس مظهرًا خادعًا بحق، مسرح فخيم يعمره أربعة ملايين شخص. ماذا؟ خمسة ملايين تقريبًا طبقًا لآخر إحصاء؟ حسنًا، حسنًا، طبيعى أنهم يتناسلون. هذا لا يدهشنى. اعتقدت دومًا أن إخوتنا المواطنين يهيمون بشيئين: الأفكار والمضاجعة.

وهكذا، كيفما اتفق. وعلى كل حال، لا يتعين علينا أن نسيء الحكم عليهم لذلك السبب. فهم ليسوا الوحيدين، فالأمر نفسه فى كل أوروبا. إنى أحاول أحيانًا أن أتخيل ما سيقوله مؤرخو المستقبل عنا. سيمكنهم أن يلخصوا الإنسان الحديث فى جملة واحدة: كان يضاجع ويقرأ الصحف. وبعد مثل هذا الوصف القوى، عليّ أن أخمن أنه لا شيء يقال بعده عن الموضوع.


الهولنديون؟ أوه، كلا، إنهم أقل حداثة بكثير. انظر إليهم، إن بوسعهم أخذ كل الوقت الذى يريدونه. ماذا يعملون؟ حسنًا: هؤلاء السادة يعيشون من عمل أولئك النسوة. فى الواقع، الذكور والإناث، هم أكثر الخلق برجوازية، جاؤوا هنا كما يفعلون دائمًا بدافع من بعض الهوس بالكذب أو بدافع الغباء.

وباختصار، بسبب الكثير من الخيال أو بقلتِه لديهم. ومن وقت لآخر، ينخرط السادة فى شيء من الرياضة باستخدام السكين أو المسدس، ولكن لا تظن أنهم يعنون ذلك حقًا، ذلك أن وضعهم يتطلب ذلك وحسب.

وهم يموتون من الخوف وهم يطلقون آخر رصاصاتهم. وبعد كل ما قلته عنهم، فأنا أجد أنهم أكثر أخلاقا من الآخرين الذين يحصرون قتلاهم فى أسرهم ويقومون بذلك برد الصاع صاعين. ألا تعتقد أن مجتمعنا مهيئٌ لمثل هذه التصفية. بالطبع أنك قد سمعت عن تلك السمكات الصغيرة الحجم فى أنهار البرازيل، التى تهاجم السباح المتهور بالآلاف وتلتهمه فى دقائق معدودات.

ولا تترك منه إلا الهيكل العظمى نظيفا تماما؟ هى قد خٌلقت لذلك. «هل تريد حياة نظيفة مثل كل فرد آخر؟» طبيعى أن تجيب بالإيجاب، فليس أمامك إلا ذلك. «حسنا إذن، لسوف نقوم بتنظيفك: هاك وظيفة، وهاك أسرة، وهاك بعض وقت فراغ منظم».

وتقوم الأسنان الصغيرة بالهجوم على لحم الجسد، حتى النخاع. بيد أننى لست بمنصف، فلم يكن عليّ أن أقول «هى قد خلقت لذلك»، لأن ذلك على كل حال هو طريقتنا أيضا، إن الأمر هو من ينظف من.


وعلى الأقل، ها هو شرابنا من الجين آتٍ. فى صحتك! أجل، لقد قال الغوريلا شيئا، لقد دعانى بالدكتور. فى هذا البلد، كل شخص إما دكتور أو بروفيسور. إنهم يحبون إظهار الاحترام، نابعا من طيبتهم أو تواضعهم.

وعلى الأقل فإن الحقد ليس مؤسسة قومية هنا. وفى الواقع أنا لست دكتورا، ولو كنت ترغب فى معرفة مهنتى، فأنا كنت محاميا قبل أن أجئ الى هنا. أما الآن فأنا قاضٍ – تائب.


ولكن، دعنى أقدم لك نفسي: جان-بابتست كلامانس، فى خدمتكم. سعيد بمقابلتكم. لا بد أنك رجل أعمال؟ تقريبا؟ إجابة رائعة. وحكيمة أيضا؛ فنحن فى كل شيء مجرد «تقريبا». والآن، دعنى ألعب دور المخبر. أنت فى مثل سنى تقريبا، ولك تلك النظرة المستسلمة لذى الأربعين سنة الذى جرب كل شى تقريبا.

وأنت حسن الهندام تقريبا كالناس فى بلدنا، ويداك رقيقتان. ولهذا فأنت من الطبقة الوسطى تقريبا، ولكن الطبقة الوسطى المرفهة. وابتسامتك عند استخدامى صيغة الشرط تبدى مدى ثقافتك، أولا لملاحظتك هذه الصيغة، وثانيا لأنها أصابتك بالضيق. وأخيرا، فأنت تجدنى سميرا جيدا.

وهذا يُظهر، إذا جاز لى قول ذلك، تفتح ذهنك. ولهذا فأنت تقريبا.. ولكن ما أهمية ذلك؟ فالمهن لا تهمنى أهمية الطوائف. دعنى أطرح عليك سؤالين، ولكن لا تجب عليهما إذا كنت تعتقد أننى فضولى. هل أنت ثري؟ الى حد ما؟ وهل تشارك الفقراء فى ثروتك؟ كلا.

فحسنا، وهذا يعنى أنك ما يمكن أن أسميه صدّوقى. فإذا لم تكن تعرف كتابك المقدس جيدا، أشك أنك ستفهم ما أعنيه. تفهم؟ إذن أنت تعرف كتابك المقدس جيدا؟ إنك حقا تثير اهتمامى.


أما بالنسبة لى.. حسنا، يمكنك الحكم بنفسك. فمع بنية جسدى، وكتفيّ، وهذا الوجه، الذى كثيرا ما قالوا لى إنه يدل على القسوة، أعتقد أننى أبدو مثل لاعب الرجبى، أليس كذلك؟ ولكن لو أنك حكمتَ عليّ بمحادثتى، فلا بد أن تعترف بأننى واسع الثقافة. قد يكون الجمل الذى وفّر وبره لصنع معطفى مجرد حيوان بائس.

فبينما أنا، فى المقابل، أعتنى بمظهرى. وعلاوة على ذلك، هأنذا برغم خبرتى بالحياة أمنحك ثقتى دون حدود لمجرد ملامح وجهك. وبرغم سلوكى الطيب وكلامى الجميل، فأنا أرتاد حانات البحارة فى منطقة «زيديك».

وفى هذا، عليك أن تستسلم. فعملى عمل مزدوج، هذا كل شىء، مثلما كل إنسان مزدوج. وكما قلت لك، أنا قاضٍ – تائب. هناك شىء واحد فحسب بسيط فى حالتى، وهو أننى لا أمتلك شيئا. أجل، كنت غنيا، ولا، لم أشارك الآخرين أى شىء. علام يبرهن ذلك؟ أننى كنت أيضا صدّوقيا ...أوه، هل بوسعك سماع الصفارات فى الميناء؟ سيكون هناك ضباب هذه الليلة فوق منطقة «زويدرزى».


هل ستغادر الآن؟ اعذرنى لو كنت قد عطلتك. لو تسمح لى سوف أدفع أنا الحساب. أنت ضيفى فى حانة مكسيكو سيتى وأنا سعيد جدا باستضافتك هنا. أجل، سأكون هنا غدا، ككل مساء، وسأقبل بكل شكر دعوتك لى. أى طريق؟ حسنا...هل توافق – وهو أسهل شىء – أن أصحبك حتى الميناء؟ فمن هناك.

ولو التففتَ حول الحى اليهودى، ستصل الى تلك الطرق الجميلة حيث عربات الترام محملة بالزهور والموسيقى تصطخب من حولها. إن فندقك فى أحد تلك الطرق، شارع «دامراك». أنت أولا من فضلك.

وإنى أقطن الحى اليهودى، أو ما كانوا يدعونه الحى اليهودى الى أن قام إخوتنا الهتلريون بتحويله الى فضاء. ويا له من تنظيف! خمسة آلاف يهودى رُحّلوا أو قتلوا: هذه هى ماكينة التنظيف. إنى أُعجب بمثل هذا الجهد، هذا الصبر المنهجى! لا بد أن تكون منهجيا إذا لم تكن لك شخصية.

وهنا، أنتج المنهج الأعاجيب، لا يمكن إنكار ذلك: إنا أقطن فى مكان أحد أكبر الجرائم فى التاريخ. ربما كان ذلك هو ما يساعدنى على فهم الغوريلا فى الحانة وفهم سبب شكوكه. وعندى القدرة نفسها على مقاومة المنحى الطبيعى الذى يحملنى دون مفر على محبة الناس. فحين أرى وجها جديدا، شىء ما يدق جرس إنذار بداخلى «تمهل! خطر!». فأبقى على حذر حتى لو كان الأمر مغريا للغاية.


 وهل تعلم أنه فى قريتى الصغيرة، فى مسار عمليات الانتقام، طلب ضابط ألمانى بكل أدب الى عجوز أن تختار واحدا من ابنيها كيما يُعدم بوصفه رهينة؟ هل بوسعك أن تتخيل اختيارا كهذا؟ هذا الابن؟ كلا، الابن الآخر.

وتراه يرحل. لا أريد أن أسترسل فى هذا الموضوع، ولكن صدقنى يا سيدى، كل شىء ممكن الحدوث مهما يكن مثيرا للدهشة. أعرف شخصا ذا قلب نقى لا يقبل الشكوك. كان من أنصار السلم، متحررا يحب الإنسانية جمعاء والحيوانات كلها كذلك. نعم، روح مثالى، لا شك فى ذلك.

حسنا، فى أثناء حروب الأديان الأخيرة فى أوروبا، انتقل للعيش فى الريف. وهناك، كتب على باب بيته «من أى جهة أتيت، ادخل مرحبا بك». ومن تظن لبّى دعوته؟ رجال الميليشيات الذين دخلوا واستقروا فى البيت وبقروا بطن مالكه.
 

اقرأ ايضاً | وائل عشري يكتب: عُشّاق وحمقى


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة