يوهان هويزنجا
يوهان هويزنجا


يوهان هويزنجا يكتب: انحطاط الأسلوب والميل نحو اللاعقلانية

أخبار الأدب

السبت، 21 يناير 2023 - 04:09 م

سيستطيع جيلنا بحساسيته الجمالية من خلال الاطلاع على مسار تطور الآداب والفنون أن يتعرف بشكل أفضل على ظهور الاتجاهات التى أوصلت ثقافتنا إلى حالة من الأزمة. يسمح التطور الجمالى، إذا جاز التعبير، بالتفرّس فى ملامح العملية الثقافية ككل؛ إذ يكشف عن وحدتها ويُظهر مسار تطور الأزمة الحالية على مدى قرنين من عمر الثقافة الأوروبية.

من وجهة النظر الجمالية تلك؛ تظهر العملية بوصفها خسرانًا مستمرًا للأسلوب. إن التاريخ الغربى يقدم لنا نفسه مزهوًا بوصفه سلسلة متوالية من الأساليب، من الرومانية إلى القوطية إلى عصر النهضة إلى الباروكية. تشير هذه المسميات فى المقام الأول إلى أشكال من العمارة والنحت، إلا أنها قد طغت على حقول دلالية أوسع.

فتستخدم اليوم بكثرة للإشارة إلى حياتنا الفكرية بشكل عام، بل تصل إلى الدلالة على بنية كاملة لتصور الحياة فى عصر معين. وهكذا أصبح لكل حقبة علاماتها الجمالية الخاصة. ويبدو القرن الثامن عشر على أنه آخر هذه الفترات التى يعد فيها الأسلوب متجانسًا.

وهو أسلوب تسمى به كل مجالات الإبداع الفكرى والفنى، بالرغم من وفرتها وتنوعها، بل هو تعبير عن الحياة فى مجملها.


وأما القرن التاسع عشر، فإن ظهر لنا فى شكل مختلف تمامًا، فهذا ليس لأننا على مرمى حجر منه. إننا نعرف حق المعرفة أن القرن التاسع عشر لم يسده أسلوب، او على الأكثر لم يبق منه إلا شفق خافت. لقد كانت علاماته قلة الأسلوب واختلاط الأساليب وتقليد الأساليب القديمة.

وتعود بداية عملية الانحلال هذه إلى القرن الثامن عشر، الذى مثل تلاعبه بغريب الأساليب وقديمها بميل إلى التقليد الذى وجد بدوره تمثيلًا واضحًا فى أسلوبٍ لم يعد من الممكن لهذا السبب بالذات أن يُطلق عليه أسلوب حقيقى: «الإمبراطوري».


وإن تلاشى الأسلوب كعلامة على حقبة ما هو فى قلب المشكلة الثقافية. لأن التنكّب فى الفن والأدب ليس إلا جانبًا أكثر وضوحًا للتنكّب فى الثقافة ككل. ومع ذلك، سيكون من العبث عزو فقدان الأسلوب هذا إلى الانحطاط العام للثقافة. ففى نفس الوقت، ارتفعت الثقافة إلى أعلى مستوى لها وتطورت آفات التدهور المحتمل.


فى منتصف القرن الثامن عشر، بدأ رد الفعل العظيم الذى حول روح الإنسان بعيدًا عن العقلانية الباردة نحو أغوار الحياة الغامضة. تحول الاهتمام إلى كل ما هو مباشر وشخصى وأصلى وجوهرى وأصيل وعفوي؛ إلى كل ما هو غير واع وغريزى وحشى. واستوثقت المشاعر والخيال والنشوة والأحلام من مكانتها فى الحياة والتعبير.

ولهذا الإدراك المكثف للحياة، الذى يمكن أن نسميه بمصطلح الرومانسية؛ نحن مدينون لجوته وبيتهوفن، وكذلك صعود علو التاريخ والفيلولوجيا والإثنولوجيا وغيرها. لكن هذا التحول نفسه نحو الحياة قد حمل بذور الاتجاه الفكرى الذى تكلل فى يوم الأيام بالتخلى عن الفهم لصالح الحياة.


ولم يكن هذا إلا بعد ذلك بكثير. لأنه مع صعود الموقف الرومانسى، بالمعنى الوارد أعلاه، فإن روح البحث التحليلى الدقيق، والملاحظة والتجربة، لم تُطمس بأى حال من الأحوال أو يُطاح بها عن مسارها. على العكس من ذلك، اكتسبت بالاقتران مع الرومانسية الجديدة وجهات نظر وإمكانيات جديدة.

فطوال القرن التاسع عشر، استمرت مُثُل المعرفة، على أساس النقد الصارم والسلوك الموجه نحو الوحدة والوفاق التى أعلنها عصر العقل، فى الحكم دون عائق.


وبالنظر إلى تطور العملية الروحية منذ منتصف القرن الثامن عشر ككل، يبدو أنه خلال هذه العملية تغلغل الإدراك المبنى على الحس تدريجياً أكثر فأكثر فى مجال الفكر. غرس التقدير الجمالى والمبنى على الإحساس نفسيهما فى الفهم المنطقي.

وفى المقابل، تناقص دور عنصر العقل فى أشكال التعبير الخاصة بالأعمال الجمالية والشعورية. ووصلت هذه العملية المتكاملة ذروتها المطلقة مع إنكار أسبقية الفهم كوسيلة لتفسير العالم.


ويكمن خطر هذه اللاعقلانية، قبل كل شيء، فى أنها مصحوبة بأعلى تطور للقوى الفنية. من الواضح أن عبادة الحياة التى أدت إلى نشوء اللاعقلانية للثقافة، لا يمكن إلا أن تعزز عبادة الذات.

ومع ذلك، فإن عبادة الذات تعنى السخط من الرغبة فى متاع الدنيا. أما إذا وقع تحت تصرف هذا الشغف إمكانيات تقنية هائلة التطور، فإن الخطر على المجتمع المتأصل فى أى عبادة للذات يزداد بشكل كبير، لأن إشباع هذه الرغبة فى الرفاهية يجب أن يؤدى إلى تدمير رفاهية الآخرين.

ليس من المهم فى هذا الصدد ما إذا كان التنظيم الاجتماعى للرغبة فى الرفاهية المادية يتخذ شكلاً رأسماليًا أو بلشفيًا أو فاشيًا. لأن الظن السطحى أن النزعات الجماعية تُعادى الأنانية ليس أفضل حالًا.


ولذا يبدو أننا فى وسط أدهى مزيج من الأخطار يمكن أن يهدد الحضارة. أما العودة إلى العقل والعقلانية فلا تكفى لمساعدتنا على الخروج من هذه الدوامة، ولا يمكننا أن نجد موازنة ترجح هذا الخطر إلا فى أعلى القيم الميتافيزيقية والأخلاقية.


إذا كان هناك حاجة لاستعادة القيم الأخلاقية والميتافيزيقية، فلا يمكن القول إننا نسير على الطريق الصحيح فى الوقت الحاضر. إن الإحساس بالمسؤولية الإنسانية، الذى يبدو قد تعزز بإغراء النزعة البطولية قد اقتلع من تراب الضمير الفردى وحُشد لصالح أى جماعة ترغب فى فرض إرادتها فى خلق تحويل رؤيتها المحدودة إلى صالحٍ عامٍ مُكَرّس.

ومن ثم يتزايد خطر العمل الجماعى أكثر من أى وقت مضى. والحق أنه مع تزايد انعدام القيمة للكلمة المنطوقة أو المطبوعة نتيجة لتوزيعها المتزايد باستمرار، والذى جعله تقدم الحضارة ممكنًا، تزداد اللامبالاة مباشرة.

ومع انتشار الموقف اللاعقلانى، يتسع هامش سوء التفاهم فى كل مجال بشكل مطرد. تتطلب أفكار اليوم نتائج فورية، بينما تغلغل الأفكار العظيمة دائمًا ببطء شديد. مثل الدخان وأبخرة البترول فوق المدن، هناك ضباب من الكلمات الجوفاء يحوم حول العالم.

 

اقرأ ايضا

 سَكــرة الحيــــاة

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة