عزت القمحاوى
عزت القمحاوى


الطاهى يقتل.. الكاتب ينتحر!

أخبار الأدب

الأحد، 22 يناير 2023 - 04:21 م

«كبرت وكبرت أمى، ولم أزل أعتمد عليها فى كل شيء حتى فى التذكر!» ، هكذا يبدأ الروائى عزت القمحاوى كتابه الجديد «الطاهى يقتل ..الكاتب ينتحر» الذى صدر هذا الأسبوع عن الدار المصرية اللبنانية. نص جديد من نصوص القمحاوى غير القابلة للتصنيف، التى تتضمن لمحات من سيرته الذاتية فى الحياة وفى القراءة مع التأمل النقدى للكثير من الظواهر الاجتماعية والثقافية. 


 يتأمل فى الكتاب الجديد فى المهارة والشغف بالكتابة والطهو. يحكى كيف ومتى بدأ اهتمامه بالطبخ والكتابة فى لحظة واحدة من حياته. وبرأيه أن الطبخ والكتابة كانتا مهنتين أنثويتين استولى الرجل لنفسه فى البداية على المهنة الأسهل: الكتابة، ثم مؤخرًا جاء ليزاحم المرأة فى الطبخ من خلال نجوم الطبخ الرجال الذين يملأون ساعات من الإرسال التليفزيونى ببرامج الطبخ.


وبعيدًا عن هذا، فإن الكاتب الرجل بحاجة إلى أن يدخل المطبخ، كى يتعلم التواضع والصبر والحيلة التى تتميز بها المرأة الطاهية، وخصوصًا ربَّات البيوت الفقيرة. 


ويطرح الكتاب العديد من الأسئلة حول الخيارات الإبداعية فى كتابة الرواية، عن اللغة المناسبة للرواية، مهارات الاستباق والإرجاء، عن مطالع الروايات الجذابة. عن خيارات الكُتاب فى استخدام البهارات والمقادير التى تجعل الكتابة أصيلة أو زائفة. أحد فصول الكتاب نُشر فى صورته الأولى مقالًا فى جريدة الشرق الأوسط عن الكتش وأثار ضجة وصلت حد سب الكاتب بأقذع الشتائم.

وللأنه يبدد الهالة الكبيرة حول كتاب بالغى الشهرة مثل كارلوس زافون وهاروكى موراكامى ودان براون. ويطرح فى الكتاب سؤالًا: هل هناك من يقف وراء انتشار الروايات المغرقة فى الخيال والجريمة والتصوف التى توافق حقبة العولمة لأنها تقفز على الحدود الملامح القومية والحدود والمشكلات الاجتماعية؟ 
 يعتقد القمحاوى أن السؤال مشروع، فقد أثبتت وثائق المخابرات الأمريكية المفرج عنها أنها كانت تدعم أثناء الحرب الباردة روايات الاعتراف الذاتى المكتوبة بضمير الأنا لكى تحارب مفهوم الالتزام والنضال فى الأدب.


وفى مواجهة الأدب الفنتازى المنفصل عن الواقع يتوقف القمحاوى مرارًا أمام أشكال الخيال وحدوده فى «ألف ليلة وليلة» فهى ليست قصص تسلية جامحة الخيال، بل كان مبدعو هذا النص العبقرى يعرفون المقدار المناسب من الخيال الذى تجب بعده العودة إلى الواقع.

فبعد أن يخرج السندباد من مأزق بعد مأزق بوسائل خيالية كالجن وطائر الرخ والخيول العجيبة، ينجو ذات مرة متعلقًا بلوح من حطام السفينة، مثلما ينجو البعض عند غرق السفن الواقعية.


وليست الليالى ذلك النص الخيالى البعيد عن الواقع، لكنها زاخرة بالنقد السياسى والسخرية. وهنا يعتقد القمحاوى أن الليالى تتضمن درسًا فى التعامل مع التاريخ. وتجيب عن سؤال مثار بشكل دائم عند الحديث عن الرواية التاريخية وحول حدود الخيالى والواقعى فيها.

وإلى أى حد يجب الالتزام بالوقائع وإلى أى حد يمكن المزاح. كاشفًا عن المواطن التى تحولت فيها الوقائع التاريخية الحزينة مزاحًا خياليًا مثل تحويل الضرائب الباهظة التى جباها موسى بن نصير من المغرب وأرسل بها إلى الخليفة الأموى عبدالملك بن مروان، إلى كنوز تم العثور عليها فى مدينة النحاس الخيالية التى تحول سكانها إلى تماثيل وبقيت قصورهم وأسواقهم على حالها بتحفها وجواهرها.


ما يقال عن الكتابة ونجومها وحظوظهم من المهارة والولع والشهرة يقال عن نجوم الطبخ. يكتب القمحاوى عن مهارات العديد من الطهاة بينهم وبين الأدباء روابط قوية، فهناك ما يجمع إمريل لاجاسى بماركيز وما يجمع نادية حسين بماريو فارجاس يوسا، وهناك ما يجمع بوراك بكارلوس زافون.


 ويتوقف القمحاوى طويلًا أمام الاختلاط الخطير بين تأثر كاتب بكاتب وبين السرقة، وعلى هذا الأساس يضع القارئ أمام علاقات بعضها تبدو للمرة الأولى مثل علاقة أشهر مشهد فى «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ بمشهد آخر فى رواية «قلب ضعيف» لدوستويفسكى، وعلاقة «مئة عام من العزلة» لماركيز مع «امتداح الخالة» لماريو فارجاس يوسا.

وعلاقة هذه الأخيرة بـ «فردوس» لمحمد البساطي. ويتوقف مطولًا أمام «ذكريات غانياتى الحزينات لماركيز فى مقابل «الجميلات النائمات» لكاواباتا، وعلاقة كل منهما بالتوراة، ثم يعدد الاختلافات بين الروايتين ويؤكد أن اتهام ماركيز باستنساخ الجميلات النائمات لم يأت إلا بسبب إعلانه المتكرر عن إعجابه بالجميلات النائمات.


من مقدمة الكتاب:
بسبب كل التشابهات بين الحكاية والطبخ اعتقدت دائمًا بأن الكتابة عمل أنثوى، وأن الكاتب الرجل بحاجة إلى وقت يقضيه فى المطبخ لتأنيث روحه وتعويد حواسه على الرهافة، ومعرفة الاعتدال والقصد فى طبخته الأدبية: القدر المناسب من المكونات الأساسية، كمية البهارات، أنواعها، وأوقات إضافتها، كذلك يساعده الطبخ فى تربية حدسه على معرفة لحظة النضج؛ فلا يخرج عمله نيئًا أو شائطًا.


أتصور أن الوقت الذى ينفقه الكاتب فى المطبخ ضرورى لبناء مهاراته فى الكتابة، فهو وقت للتأمل وتفريغ التوتر والخوف من الكتابة ومن القارئ؛ فبالرغم من أن الكاتب يتوجه إلى محبيه بالأساس، إلا أنه لا يستطيع أن يتجاهل القارئ العدو، الذى سيسعى إلى الكتاب بحماسة تفوق حماسة القارئ المحب.


 الطاهى أفضل حظًا من الكاتب؛ فليس من الوارد أن يطبخ المرء لعدوه إلا أن يكون أسيرًا أو زوجة لرجل عديم الحب أو خادمًا فى بيت قليل الإنسانية. فى غير هذه الاستثناءات القليلة يظل الطبخ تعبيرًا أمثل عن حب بلا خوف، وتحقيقًا لرغبة فى التواصل لا يشوبها تردد. من هنا يصلح الطبخ وصفة طبية لراحة الكاتب والسيطرة على خوفه من الكتابة وجلب القارئ الحبيب.


عندما يقف الكاتب ليطبخ تتحرر روحه من التفكير فى العدو، ويتحرر جسده من تيبس وضعية الكتابة، وبالقدر نفسه يحتاج الطبَّاخ الجيد، إلى شغف وخيال الكاتب وحريته فى التعامل مع طبخته. 
 سأتذكر طويلًا بكل امتنان جلسة ذلك الضحى المشمس مع أمى.

والتى أعادت لى طفولتى، وأنضجت فى الوقت ذاته أفكارًا حول علاقة الكتابة بالطبخ يمكن أن أتقاسمها مع قارئ شغوف، بعد أن عاشت فى داخلى وقتًا طويلاً، مشوشة كما فى حلم، وحاضرة دومًا فى شكل زورق من الأحاسيس، يسبح فى نهر أيامى، يتناغى بداخله ذلك التوأم السعيد.


وإذ حانت اللحظة ليرسو زورق أحاسيسى فى كتاب، أشكر مقدمًا القارئ الحبيب، كما أشكر القارئ العدو؛  فالقارئ ـ حبيبًا كان أو عدوًا ـ هو الذى يؤسس لوجود الكتاب وحياته. وبالطبع أشكر كل من أكل يومًا ـ دون تذمُّر ـ  طبقًا أعددتُهُ بِنوايا طيبةٍ وفرح ساذج.

اقرأ ايضاً | عمر شهريار يكتب: لا شىء يبقى.. لا شىء يموت

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة