إرث ريكاردو بيجليا
إرث ريكاردو بيجليا


إرث ريكاردو بيجليا يكتب: استعادة رائي الأدب الأرجنتيني

أخبار الأدب

السبت، 25 فبراير 2023 - 02:21 م

فيما يرى الآخرون تعارُضات، يمكن للكتاب العِظام أن يروا امكانية أن تتواشج وتتشابك طرقٌ متشعبة. شأنُ هؤلاء مع تاريخ الأدب شأن الأطفال أمامَ، إذ لهم القدرة على تحويل نظرتهم إليه بحيث يقرأونه قراءة مغايرة، وإذ يفعلون هذا فإنهم يتجاوزون فيما يكتبون الأفق المسدود للمُعتَمد الأدبى الموروث. أحد أولئك الرائين العِظام بلا أدنى شك هو ريكاردو بيجليا، الكاتب الأرجنتينى البارز والذى تزامن رحيله مع ازدياد الاعتراف به وتقدير أعماله فى العالَم المتحدث باللغة الإنجليزية.

لسنوات عديدة خلال عقدى الستينيات والسبعينيات، بدا أنَّ أدب أمريكا اللاتينية محصور بالحدود التى ترسمها أعمال خورخى لويس بورخيس، كانت قصص الكاتب الأرجنتينى عن المكتبات والموسوعات والمرايا بشيرًا بالسرد الخيالى ما بعد الحداثى الذى دمغَ عددًا مِن الكُتاب والفلاسفة مِن فوكو إلى فوستر والاس.

ومن بينشون إلى إتالو كالفينو . رسمَ بورخيس بعَمله، صاحب القصص الزاخرة بالمتاهات المفاهيمية، متاهةً نموذجية كأنها ورطة أمام كتّاب أمريكا اللاتينية بحيث شعروا أنَّ عليهم إمَّا أن يكتبوا معه وإمَّا أن يكتبوا ضدّه.

فإمَّا كتابة ذهنية متبحّرة ثقافيًا مثل كتاب المُعلَّم «بورخيس»، وإمَّا نسخة تجارية من الواقعية السحرية لا تتجاوز ذُرّية عديمة الطَعْم لرواية جارثيا ماركيز مئة عام من العزلة.

وفى سبعينيات أمريكا اللاتينية وأجوائها العامة المشبّعة بالاضطرابات ، كانت علاقة أى كاتب ببورخيس لا تُعدّ فقط خيارًا بين أدبٍ رفيع المستوى أو متدنٍ، بل كانت تُعد كذلك قرارًا سياسيًا. فبورخيس، المُعلّم المُسن كفيف البصر الذى فشلَ فى إدانة الفظائع الوحشية المرتَكبة على أيدى الدكتاتورية الأرجنتينية.

وكان من المحتَّم أن تنظر إليه الأجيال الشابة التقدّمية كأمين مكتبة مكسو بالغبار وحَامٍ للتقاليد الرجعية. بدا كأنَّ بورخيس سجين ضريح مقدّس حرصَ على بنائه حول نفسه، وكانت مَهمَّة تخليصه منه بحاجة إلى قارئ وكاتب ليس أقل قدرة من بورخيس.

واقتضى الأمر وجود ريكاردو بيجليا لكى يثبت أنَّ ثمة أقاليم تَخييل غير مُستكشفة بَعد، تكمن فى ما وراء التعارضات الزائفة بين بورخيس واليسار، وبين بورخيس والشَعب.

اليوم وعندما يتردد اسمٌ مثل روبرتو بولانيو يشعر المرء بتهديد الإخضاع والترويض لمُنجزه عبر الاعتراف به وتطويبه واعتماده أدبيًا، ويبدو لزامًا عليَّ عندئذٍ أن أرجع إلى بيجليا، لأنَّ فى أعماله نجد المفاتيح الضرورية لتحرير أدب أمريكا اللاتينية مِن التنميط السَهل المهدِّد دائمًا بسَجْن إمكانياته الراديكالية.

وفى مقال فرضيات حول القصة القصيرة، المنشور سنة 1998، يقترح بيجليا أنَّ كل قصة قصيرة تحكى قصتين اثنتين: واحدة مَرئية وأخرى خَفية. كل قصة هى قصة مزدوجة، بقراءة خفية سِرية.

وقبل أن يكتب ذلك المقال بثمانية عشر عاماً، كان قد داهم المشهد الأدبى الأرجنتينى كالعاصفة بروايته الأولى فى برهانٍ عَملى لهذا المبدأ نفسه. روايته تنفس صناعى (مطابع جامعة ديوك، 1994)، نشرت لأوَّل مرة فى الأرجنتين سنة 1980 إبَّان الدكتاتورية العسكرية، لتدشَّن الامكانية المفاجِئة وهى أن تكتب فى نفس الحين مع بورخيس وما بعد بورخيس. اجترحَ بيجليا.

وهو قارئ نهم لكلٍ من روايات التحرى الخشن للغرب الأمريكى وفرانز كافكا على السواء، اجترحَ روايةً تدينُ للمعلّم الكفيف بقدر ما تدين لأحداث وقصص الحياة الوضيعة التى تصوّرها أعمال كاتب أرجنتينى آخر هو روبرتو آرلت .

وبدت الرواية كأنها تقترح أنَّ كل مُعتَمد أدبى يوارى تحته سلالةً مضادة سرية تخونه وتقوضه: إنه خَط هروب يفتح المعتَمد نفسه على المستقبل.

وكان بيجليا مولعًا بمقولة فوكنر الشهيرة: «كتبتُ الصخب والعنف فتعلّمتُ كيف أكتب.»، وكان خلَّاقًا فى إعادة تصوّر التاريخ الأدبى فى روايةٍ ما؛ باستحضاره بورخيس ورَبطه بالواقع اليومى، ويكشف الكتاب عن البعد السياسى الكامن مستترًا فى أعماله. خلال السنوات التالية، فى روايات مثل المدينة الغائبة (مطابع جامعة ديوك، 2000)، الفضة المحروقة (جرانتا، 2004)، أبيض ليلى (ديب فيلوم، 2015).

وسوف يواصل بيجليا استكشاف الإمكانيات الكامنة فى صميم هذا التقليد الأدبيَّ المزدوج، وفى الوقت عينه سيواصل البزوغ كأحد أهم نقَّاد الأدب فى جيله. وقد ذكرَ أكثر من مرة فى كتبه وفصوله الدراسية أنَّ «النقد شكلٌ من السيرة الذاتية، فكل ناقد يكتب حياته عندما يصف قراءاته.»

وفى رواياته ومقالاته، يلعب القارئ دورَ تحرٍ خاص أو مفتش بوليسي، وهى تقف شاهدةً على حياة مكرّسة لتقصى الحدود السياسية لكتابة السرد الخيالي. على غرار كِبار التجريبيين فى أدب أمريكا اللاتينية، مثل سرخيو بيتول، وسيلفيا مولوي، وإنريكى بيلا- ماتاس، ومارجو جلانتز، وروبرتو بولانيو، فإنَّ كتاباته ترغم القارئ على إعادة تعريف الحدود الدقيقة المراوغة بين كتابة القصة والرواية وبين النقد والتاريخ الأدبي. بالنسبة لكاتبٍ طَليعى شديد الاهتمام بالاستبدالات، والثنائيات، وتحويل السياق لا عَجَبَ أنَّ أوَّل.

وربما أهم، تَحويل ميَّز مسيرته الأدبية حدث على مستوى اسمه نفسه، فقدَ وُلدَ باسم ريكاردو إيمِليو بيجليا رينزي، لكنه قرَّر، مُبكّرًا للغاية فى سنة 1967، أن يتخيلَ لنفسه ذاتًا أخرى بديلة، باسم إيمِليو رينزي، الرجل الذى سوف يمرّ عبرَ صفحات رواياته بطلًا لها.

ومع تتبُّع الرحلة الفكرية الطويلة لبديلِه رينزي، رسمت أعماله سيرةً ذاتية باطنية مطمورة أخذت تشتد جاذبيتها وتتصاعد بمرور السنين، لا سيما مع شائعة سَرَت فى الدوائر الأدبية الإسبانية واللاتين - أمريكية، تقول بأنَّ ما خفى كان أعظم ، وأنَّ تحت رواياته المتجاوزة ومقالاته النقدية النيّرة، ثمة عمل أدعى للإعجاب منها، عمل سرى أشد سموًا: يومياته.

وعندما دخلتُ فصله الدراسى متهيبًا خجولًا كطالب فى جامعة بيرنستُن، حيث كان يقدّم فصلًا دراسيًا خاصًا حول الرواية الطليعية، كان بيجليا منذ ذلك الحين أسطورة كلاسيكية حيَّة. وكان قد قرر أن يقضي، فى كل سنة، بضعة أشهر «أستاذًا جامعيًا» فى مدينة صغيرة فى نيو جيرسي، ربما فى محاولة للاختباء من الشهرة التى بدا أنها تلاحقه وتضايقه فى أمريكا اللاتينية.

وبدا فى برينستُن، بهذا التواضُع المميّز له ، شديدَ الحرص على أن يجعل من نفسه شخصًا مغمورًا. فلم يتحدث قَط عن نفسه كمؤلّف ، كما لم يشر قط إلى كتاباته . وعلى الرغم من ذلك، ما كان لنا – نحن طلّابه – إلَّا أن نشعرَ بأننا فى حضرة عَلَمٍ له وزنه وشأنه. كنا نعلم «سرّه».

وكان بوسعنا أن نلمحه فى كل إيماءة من إيماءاته. وحين التقيتُ ببيجليا شخصيًا كان مِن قبل هو بيجليا [الشهير]، الأيقونة الأدبية الذى كتبَ بعض أهم الكتب فى أدب أمريكا اللاتينية. الرجل الذى غيرَ الطريقة التى تقرأ بها قارةٌ كاملة والوريث الأوضح لبورخيس.

وهكذا، فعندما كنا نسمعه يتحدث عن بورخيس أو جيمس جويس أو كافكا – مصاحبًا حديثه بإشارات اليدين المميزة والتى لا تخصّ أحدًا سواه بلا شك – ما كان لنا أن نتجنّب فكرة أنَّ تاريخ الأدب يحدث أمام أعيننا.

واعتادَ أن يقول إنَّ الأدب رسمَ مجتمعًا موازيًا: مجتمعًا سريًا يرسم الخطط ضد الثقافة الرسمية. وقد أحسسنا جميعًا فى داخلنا أننا جزءٌ من خطة بيجليا لاجتياح المؤسسة الأدبية الرسمية.

وخلال تلك السنوات السابقة على تقاعده سمعناه يرسم بكلماته مئات الكتب، بادئًا حديثه بلازِمته المعتادة: «كم سيكون مشوقًا أن يكتب المرء ذات يومٍ عن...»، كما لو كان يُسْلمنا مَهمَّة كتابتها بأنفسنا. أدركَ، بطريقة أو بأخرى، أنَّ الوقت قد حان لأن يضطلع بالعمل الوحيد الذى سيرفعه رسميًا إلى مصاف الكلاسيكيات وقد كان واحدًا منها مسبقًا.

وأنَّ الوقت قد حانَ لأن يراجع عددَ 327 دفترَ كتابة هو إجمالى يومياته، والتى شرعَ يكتبها قبلَ أكثر من نصف قرن، تحديدًا فى 1956. لدى ذلك الحين كانت اليوميات قد بلغت مكانة الخرافات والأساطير القديمة: جميعنا نعرف بأمرها، وجميعنا نطلق التخمينات بشأنها، لكنَّ أحدًا منَّا لم يقرأها، باستثناء الشذرة الموجزة التى نشرها قبل سنوات فى كتاب مقالات له، فى جَسَارة صيَّاد سَمك يترك السمكة الصغيرة تلعب فى الصنَّارة ليصيد بها واحدة أكبر.

ووضعَ بيجليا عمله المرئى على المسرح كستارٍ يخفى العمل الوحيد الذى ظلَّ كامنًا تحت كل شيء، العمل الوحيد الذى سمحَ أخيرًا لإيمِليو رينزى وريكاردو بيجليا أن يلتقيا فى شخصٍ واحد. على طريقة كلٍ من بافيزى وكافكا وغومبروڤيتش، كانت اليوميات ذروةَ عُمْرٍ مكرّسٍ للتفكير فى الأدب كأسلوب حياة.

وفى تلك الأيام التالية لرحيله، ظللتُ أراجعَ دفاتر ملاحظاتى التى دوّنتها خلال عامين حظيتُ خلالهما به أستاذًا لى فى برينستُن قبل تقاعده. عثرتُ فيها على صفحة بعنوان تحته خط، عنوان فى محله اليوم بدرجة أليمة: «آخر فَصل دراسى مع بيجليا».

ومِن تحت هذا عبارة من عباراته المميزة بلا أدنى شك: «مكمنُ الخطر فى النهايات ضرورة إنتاج معنىً ما» وحين قرأتُها فهمتُ، على نحوٍ ما، أنَّ بيجليا قد قرأ سردية حياته وحرَّر صياغتها كما لو كانت رواية. دائمُ الانتباه للشَكل، ودائمُ الوَعى بأنَّ الأدب شكلٌ للحياة، هكذا بقى بيجليا مواكِبًا لعصره حتَّى لحظة النهاية.

وحيثُ استسلمَ كتّابٌ آخرون للشيخوخة والأداء الباهت عديم المذاق والذى يرافق أحيانًا تحقيق بعض الشُهرة، ظلَّ هو حقيقيًا وسَديدًا وفى الصميم، لذلك وجدَت فيه الأجيال الأصغر أهمّ المؤثرين المباشرين. بما أنه كان واعيًا بأنَّ النهايات تكثّف المعنى.

ولا يسعنى إلَّا أن أعتقد بأنه حرصَ على أن ينتظر حتَّى قرب نهاية حياته لكى ينشر تلك اليوميات؛ فَهى تُجملُ، على نحوٍ ما، حياةً مرصودةً للتفكير فى مشروع مركزى للغاية عند الطليعيين: مشروع تحويل الحياة إلى فن.

وفى الدفتر نفسه، مُدخلٌ آخَر عن مُفضَّله ماسيدونيو فرنانديث - الكاتب الأرجنتينى الذى عَدّه المعلم الحقيقى لبورخيس وسَلَفه الطليعى – عثرتُ على مقولة مميزة أخرى بتوقيع بيجليا: «المقروئية الحقيقية تَثبُت دائمًا بعد وفاة الكاتب، والقراءة مَرهونةٌ دائمًا بمَن يَخْلفون الكاتب» فى سنة 2015.

وكان بيجليا مريضًا مِن قبل، حينما بدأ نشر يومياته تحت عنوان يوميات إيمِليو رينزى (عن دار Restless Books)، كان يضع بنفسه شروط إعادة قراءة أعماله بعد وفاته. على الحافة دائمًا بين السيرة الذاتية والخيال الأدبي.

ومن غير أن يسجن نفسه قط فى الزقاق المسدود للتخييل الذاتى، ترك خلفه المفاتيح السيرية الضرورية لِفَهم حياةٍ وُهبَت لقراءة تاريخ الأدب بخلاف كل قراءة سابقة، حياةٍ وُهبَت لقراءة الأدب بخلاف السائد والشائع.

و«كلّ عصرٍ يحلم بالذى يليه»، لَكم أحبَّ بيجليا أن يستشهد بهذه المقولة، فى إحالةٍ إلى عمل واحدٍ من فلاسفته المفضَّلين، فالتر بنيامين. اليوم، وفى غيابه، أشعر بأنَّ الوقت قد حان أخيرًا لكى نقرأه ونعيد قراءته باعتناء وشمول.

ولأنَّ كتابته أطَّلت دائمًا نحو المستقبل وليس الماضي. يبدو مجمَل أعماله كأنّه مقدّر له أن يدفع بشدة أبواب المؤسسة الأدبية على مصراعيها، ليساعدنا على الاستيقاظ من كابوس التاريخ الذى تصوّره جيمس جويس ذات مرَّة والمهدِّد بأن يتحوّل إلى واقع.

اقرأ ايضاً | على خيون يكتب: ما الذي حدث في ميرامار؟

نقلا عن مجلة الأدب: 

2023-2-25

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة