نجوى العتيبى تكتب : الأفق الأعلى: من العلياء إلى اللعبة!
نجوى العتيبى تكتب : الأفق الأعلى: من العلياء إلى اللعبة!


نجوى العتيبي تكتب: الأفق الأعلى من العلياء إلى اللعبة

أخبار الأدب

السبت، 18 مارس 2023 - 03:21 م

لعلَّ أسئلةَ القراءة النواةُ الأساسية في اتخاذ وجهة محددة لفهم النص وقت مطالعته، ولعلها تلحُّ بقوة منذ الوهلة الأولى في قراءة (الأفق الأعلى) للكاتبة فاطمة عبدالحميد، الصادرة عن دار مسكيليانى عام ٢٠٢٢م،وتقدم الكاتبة في هذا العمل حيلتها السردية منذ الصفحة الأولى باتخاذ ملك الموت راويًا، لكنها تغيِّرُ طبيعته كثيرا حتى تستدرّ سؤال القارئ المشوَّش عما يعرفه عنه سلفا؛ بحثا عن ضوء يسير به على الطريق ذاته الذى اختارتْهُ.

ولعلى في هذه الإضاءة القصيرة أبتعد عن الأسئلة التقليدية في فهم العمل، وأُنحّى ما أُثير منها واصطدمَ بما يُعرَف عن ملك الموت، وأحاول التركيز على أسئلة أخرى ألصق بالعمل وأقرب لما طرحته الكاتبة وفقا لاستعارة بارزة فيه، ألا وهي: (الموت لعبة)، فسؤال القراءة ينبغى أن يقودنا لروح النص، ومحاولة فهمه وفقا لمنطقه الخاص وأفقه الممتدّ على ما نتوقع منه وما لا نتوقّع؛ فالقراءة التقليدية لا تفيده هنا لأنه يخالف أفق التوقّع في الثقافة العربية؛ إذ ترسَّختْ فيه كتابات وتجارب تراثية أدخلتنا إلى عالم الموت والموتى مسترشِدةً بالنصوص الدينية. أما هذا العمل فهو يختلف عما كُتب، ويقرّبنا للنظر الإبداعي الخاص الذى طال انتظار المتلقي العربي له منذ رسالة الغفران.

ويوجد في اللعب دائما خاسر ورابح، لكنّ الراوي يطالعنا منذ البداية بلعبة مختلفة يرفض من خلالها منطقنا في فهم اللعب والموت معا: «لكنّ الفطرة الأرضية هي التي رسّخت فيك الظن بأنَّ كل ربح لأحدهم، هو خسارة لآخر» (ص٧)، وما كان للمؤلفة إلا التلاعب براويها منذ البداية حتى نتشكك في ماهيته وما جاء لقوله، فليس هو الراوي عينه الذى نعرفه، بل هو راوٍ هجين بصفات متباينة تؤهله لممارسة اللعبة وفق منطق مختلف، وهو لم يأتِ لإثبات يقينياته التى نعرفها، بل تنزَّلَ من عليائه مازجا بين أدوار عدّة تؤهله للفوز، أدوار عرَّفَ بها نفسه منذ الصفحات الأولى، من خلال إعلانه الدخول إلى عالمنا بشكل مختلف، وعبر زمن ممتد من المراقبة التي تنتهى بانتصاره فى لحظة مختارَة، مصطحبا فيها شيئا من خصائص الألوهة عبر الرقابة واستبطان السريرة.

وشيئا من الصفات البشرية ونزعاتها الشيطانية أحيانا عبر الغواية والخطيئة، مستبقيا لنفسه المهمة الشائعة المعروفة عنه فى قبض الأرواح، مفارقا بعض صفاته الأساسية فى النقاء ربما ليفضح تلاعب شخصياته فى حيواتهم بمحض إرادتهم، وليدخلَ لعبة الحياة والموت معا. فهو ليس ملك الموت الذى نعرفه، إنما أشبه بالمعادل الموضوعى الذى يلائم فكرة الكاتبة وشخصياتها والأحداث.

النظرة الفاحصة للغلاف تشير إلى هذا الدور عبر الجسد الهجين، فالرأس ما زال محتفظا بالهوية الملائكية التى تنسبه إلى العالم العلوى بلا ملامح، والجسد المادى بشريّ لكنه ذو صفة شيطانية إذ يتّخذ من التلصص والتجسس دورا للبقاء على الأرض، عبر النافذة المطلة على بيوت كثيرة، يظهر فيها الجسد مستترا بالملابس لكنّ الصدر مكشوف الأسرار، وما كان لغلاف آخر أن يتفوق على هذا الغلاف ببراعته فى فهم الراوى والنص وفقا لهذه الاستعارة (الموت لعبة)، وتحديدا إذا انتبهنا إلى جانب الإخفاء والإظهار الذى تمارسه اللعبة والاستعارة والموت كلٌّ على حدة.

ولا تخفى الكاتبة رغبتها في عرض الحياة البشرية كلعبة قبل أن يكون الموت كذلك؛ فالحياة التي تعرضها للشخصية (سليمان) الطفل الذى لا يكترث سوى بألعابه؛ هي نفسها لعبة بيد أمه التي زوّجته طفلا، وانتزعته بالقوة من اللعب والأطفال.

ويعيش سليمان حياته كما خُطِّط لها من قبل أمه أولا، وزوجته ثانيا، حتى يتساقط اللاعبون الأساسيون في لعبته؛ فتتوفى الأم وتتبعها الزوجة ويبقى وحيدا. يدخل لعبته الأولى بعدهما في علاقة حب «أولى»، ويعيد استئناف حياته التي انتُزعت منه عبر إيقاف اللعب، فيرجع إلى اللعب من خلال بناء البيوت بأعواد الثقاب، وبشغفٍ تراقبه من الشُّرفة المرأةُ التي يحب، بينما يتذكر زوجته التي كانت تكره هذه اللعبة، وهذه مفارقة أخرى؛ الموت يروي، والحب يرقُبُ، وسليمان يلعب، والحياة تتوقَّف قليلا، إنه اختلاط الأدوار في لعبة خاصة.

وتختلف حياة سليمان مع الحب؛ فيبدو شخصا آخر يحاول اكتشاف نفسه فيصدم الآخرين به، حتى تبدأ لعبته بالانطفاء تدريجيا حين يفقد المرأة التي يحبها. يحاول مجددا مسايرة الحياة فيتبادر إلى ذهنه أن يعود إلى لعب الكُرَة؛ فتُعقد المباراة بينه وبين أبنائه وأصدقائهم، ونرى سليمان الذى لم تكتمل سعادته قط بلعبة وهو يموت مع اكتمال لعبة حقيقة يفوز بها، ولكل شيء إذا ما تمَّ نقصان! وهذه مفارقة أخرى.

ولعل الكاتبة تظهر وعيها بمعادلها الموضوعي في بعض المواضع، فنراها تقدّم استعارتها مثلا حول (الموت لعبة) في حوار داخلي للراوي الذى يحاول التفكير بصوتٍ عالٍ، ويرسم جدولا يوضّح فيها الفروقات بين ما يقوم به وما نطلق عليه (لعبة الموت) إذ تستثيره تسميات البشر حول الألعاب عندما يقرّبونها من طبيعة مهمته: «ألم أقل إنكم تعجزون عن فهم القدر، تسمونه صدفة. لكم ذلك، ولكنّ الصدفة، فى الحقيقة، إحدى ألعاب القدر…» (ص١٧٣)

وإنَّ الموت الذى ركزت عليه الكاتبة هو تتمة الحياة نفسها التي لا يمكن تخمين مفاجآتها، وهو نفسه من يعرف نفسه وحسب، وعلى إثر ذلك يتباهى بتفوّقه «مذ كنتُ وأنا على الرّكح» ص١٧٤ لأنه الوحيد الذى لم يسقط بعد في اللعبة باعتبار الحياة كلها لعبة، فهي محكومة بزمن محدد وأدوار ونتيجة، ولكننا نحن البشر في طرف الحياة الذى يستمر بالخسارة حتى يسقط كله، ثم يأتي الدور على الطرف الثاني (الموت) فيسقط بعد انتهاء الحياة، يسقط الطرف الثاني بعد سقوط الطرف الأول كما حدث مع سليمان وحينها تنتهى اللعبة! وهذه مفارقة أخرى، والحياة بوصفها لعبة لا تختلف عن الموت كثيرا، والكتابة عن هذا الموضوع عبر استلهام فكرة (اللعب) محاوَلة لإعادة التفكير من منظور مختلف بما يعنيه اللعب في سيكولوجيته من تفسيرات عديدة كالاستجمام وتجديد القوى أو صراع البقاء أو الاختيار.

ولاسيما حين ننتبه إلى سطحية الشخصيات وبساطتها التي تشبه الأطفال، واهتمام الكاتبة بعرضها شخصيات لا تفكر إلا باللعب بمصائرها وغرائزها طيلة الوقت قبل أن يتدخَّل الموت فى لعبتها تلك. وربما يكون هذا ما حاولت الكاتبة قوله في الراوية عبر استلهام اللعب والموت ومزجهما معا.      

اقرأ ايضاً | عبدالكريم هداد يكتب: الإبداع  في زمان الصمت لطلال مداح

نقلا عن مجلة الادب : 

2023-3-18

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة