كينزابورو أُوى.
كينزابورو أُوى.


رحيل «كينزابورو أُوى».. صوت الألم اليابانى

أخبار الأدب

الأحد، 19 مارس 2023 - 01:59 م

بموتيفة الابن المصاب بإعاقات ذهنية والبحث عن المعنى فى يابان ما بعد التفجيرات النووية، شكَّلت هاتان الروايتان المبكرتان أصلًا للعديد من أعماله اللاحقة والتى جاوزت الأربعين رواية ومجموعة قصصية، بما فى ذلك «آجوى، وحش السماء»، «انهضوا يا شباب العهد الجديد»، و«حياة هادئة».

رحل الكاتب اليابانى كينزابورو أوى الثلاثاء، الرابع عشر من مارس، عن عمر يناهز ال 88 عامًا، بحسب ما صرحت به الناشرة كودانشا، دون تحديد لسبب الوفاة أو مكانه،و تحدت روايات كينزابورو المكثفة وآراؤه السياسية الجريئة الثقافة اليابانية الحديثة، إذ رآها فارغة أخلاقيًا وتميل بشكل خطير نحو نفس العقلية التى أدت إلى كارثة أثناء الحرب العالمية الثانية.

وقد حصل أُوى على جائزة نوبل فى الأدب لعام 1994، لإبداعه، بحسب أكاديمية نوبل: «عالم مُتخيل تتكثف فيه الحياة الواقعية والأسطورة لتشكيل الصورة المزعجة للوضع الحرِج الذى تمر به الإنسانية اليوم».

وبرغم تصريحاته المتكررة بأنه لا يفكر سوى فى الجمهور اليابانى فقط حين يكتب، إلا أن أُوى اجتذب قراءً عالميين خلال فترة الستينيات بثلاثة أعمال تحديدًا: «ملاحظات هيروشيما»، وهى مجموعة من المقالات حول العواقب طويلة المدى لهجمات القنبلة الذرية، وروايتَى «هموم شخصية« و«الصرخة الصامتة» اللتين ولدت أفكارهما من أزمة شخصية مر بها هو وزوجته، وهى ولادة ابن بجمجمة مشوهة.

وسياسيًا، مَثَّل أُوى صوتًا بارزًا لجيل من المتمردين الذين عارضوا تسليح قوات الدفاع اليابانية ودعوا إلى دفع تعويضات حرب لكل من الصين وكوريا وجيران آسيويين آخرين. هوجِم بسبب مواقفه تلك بالسب وتهديدات بالقتل من قِبل عناصر يَمينية، كما حدث عندما رفض الحصول على وسام الثقافة اليابانى فى عام 1994 الذى يمنحه الإمبراطور. مُصرِحًا: «أنا لا أعترف بأى سلطة، أو أى قيمة، أعلى من الديمقراطية».

كإثباتٍ لاعتراضاته على تبييض البلاد لتاريخها، تمت مقاضاته بتهمة الكذب والتدليس فى عام 2005 بسبب مقال كتبه عام 1970 يؤكد أن الضباط اليابانيين أجبروا المئات من سكان أوكيناوا على الانتحار قرب نهاية الحرب العالمية الثانية بإخبارهم أنهم سيتم اغتصابهم وتعذيبهم وقتلهم عند تقدم القوات الأمريكية. كان المُدَّعون فى القضية أحد قدامى المحاربين فى الحادية والتسعين من عمره وأقارب على قيد الحياة لمحارب قديم آخر، لكن استولى على الدعوى سياسيون يمينيون أرادوا حذف إشارات تورط الجيش من كتب المدرسة الثانوية.

بالكاد استطاع أُوى مواصلة الكتابة أثناء نظر الدعوى أمام المحكمة، بين عامَى 2006 و2008، لكن القاضى حكم لصالحه فى النهاية: «بتورط الجيش بشدة فى عمليات الانتحار الجماعية».

نشأ أُوى كطفل نابغ فى قرية وسط غابات نائية بجزيرة شيكوكو الغربية ثم صار أهم كاتب يابانى شاب فى عصره. فاز بجائزة أدبية كبرى للقصص القصيرة أثناء دراسته الجامعية فى جامعة طوكيو. فى عام 1958، نشر أولى رواياته، بعنوان «اقتُلوا الصغار، اقتلِعوا البراعم» التى تدور أحداثها حول مجموعة أولاد من نزلاء الإصلاحيات تم إجلاؤهم فى زمن الحرب إلى قرية ريفية حيث أُمروا بدفن جثث حيوانات متعفنة، قتلها الطاعون.

فى منتصف عشرينياته، صار فى حالة بائسة من الذعر، وفكر فى الانتحار، لأنه لم ير أى طريق لمواصلة كتابته.

فى عام 1963، وقعت عدة أحداث غيرت حياته. فى شهر يونيو من ذلك العام، ولد طفله الأول بكتلة كبيرة بارزة من شَقٍ فى جمجمته. أخبره الأطباء أن الصبى سيموت بدون جراحة. وبالجراحة، قد يعيش لكن بإعاقة ذهنية شديدة.

فى البداية، أراد أُوى الفرار فحسب، وفعل ذلك. بينما كان الطفل البالغ من العمر أسبوعًا يرقد فى المستشفى، وافق على مهمة صحفية لتغطية مؤتمر دولى لمكافحة الأسلحة النووية فى هيروشيما.

«كنت أهرب من طفلى»، حسب تصريحه فى مقابلة لصحيفة نيويوركر عام 1995. «تلك أيام أشعر بالخزى لتذكُرها. أردت الهروب إلى أفقٍ عقليٍّ آخر أنشغل به».

التقى أُوى بالناجين من الانفجار الذى وقع قبل ثمانية عشر عامًا، وبدأ يستمد منهم الشجاعة. لم يرغبوا فى الظهور ضمن «مجموعة بيانات للضحايا”، كما كتب فى مقدمة «ملاحظات هيروشيما”. أرادوا أن يعيشوا حياتهم كأفراد أحرار. التقى بنساء اخترن الإنجاب بغض النظر عن خطر إصابة الأطفال بسرطان الدم والموت، وواجه فى لقاءاته العديد من الأبطال الهادئين، كما كتب، «لم ينتحروا رُغم كل هذا».

تأثر أُوى بالدكتور فوميو شيجيتو، مدير مستشفى هيروشيما لمواجهة آثار القنبلة الذرية، والناجى منها هو نفسه، والذى أصبح من أوائل الذين فهموا أمراض الإشعاع. فى مقابلة مع نيويوركر، استذكر أُوى قصة أخبره بها د. شيجيتو عن طبيب شاب يَئِس من جدوى أى وسيلة فى مواجهة هذه الكارثة الهائلة. ذكر رد شيجيتو على الشاب بقوله: «لدينا جرحى، وهم يتألمون، يتوجب علينا مساعدتهم، ومحاولة علاجهم، حتى لو بدا أننا لا نملك وسيلة لفعل ذلك كما ينبغى».

عند سماع هذا، علَّق أُوى، «خجلتُ بشدة لأنى لم أفعل شيئًا من أجل ابنى؛ ابنى، الذى كان صامتًا وعاجزًا عن التعبير عن ألمه أو فعل أى شىء لنفسه».

عاد بعدها إلى طوكيو واختار إجراء الجراحة للطفل، الذى سُمى هيكارى – والتى تعنى باليابانية «نور”. عاش هيكارى، رغم احتياجه لرعاية دائمة وعدم نموه العقلى إلى ما بعد مستوى طفل فى الثالثة من عمره فى أحسن الظروف. لكنه حظى بموهبة موسيقية ازدهرت لحرص أبويه على تشغيل تسجيلات لأصوات الطيور، وموسيقى موتسارت وشوبان لتهدئته. بمرور الوقت، صار الابن قادرًا على التعبير عن أعمق مشاعره بالموسيقى وكبُر ليصبح مؤلفًا موسيقيًا معروفًا لمقطوعات الفلوت والبيانو.

خلال ذلك الوقت، كتب أُوى «هموم شخصية»، وهى أولى رواياته الكبرى. تدور أحداثها حول شاب ضيَّع فُرَصَه فى الحصول على وظيفة أكاديمية دائمة بإدمان الشراب، ورُزِق بطفل مصاب بفتق فى الدماغ. يهرب، لا إلى مؤتمر مناهض للطاقة النووية، بل إلى حبيبةٍ سابقة لينغمس معها فى مغامراتها الجنسية الجامحة. تُتَوَج أيامهما ولياليهما المغمورة بالحيوية بخطة لتسليم الرضيع إلى طبيب يتركه يموت، ثم السفر سويًا إلى إفريقيا. لكنه لا يستطيع تنفيذ ذلك. يعيد الرضيع إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية، ويُصلِح شئونه الزوجية، بل ويكسب احترام حماته.

تبع أُوى روايته الأولى برواية «الصرخة الصامتة»، وهى عمل أكثر طموحًا، تتداخل حِدة مواضيعه النفسية مع هموم كاتبه المتعلقة بتاريخ اليابان والتكامل الثقافى والنزعة الاستهلاكية الطائشة. هنا، الرضيع النامى هو المصدر الأساسى للتوتر فى زواج ميؤوس منه. الأب مترجم كُتب كئيب وأعور، له شقيق أصغر منه، مشاغِب، يجذبه إلى جزيرتهما الأصلية، شيكوكو، بمخطط عمل زائف. هناك، يجد الشقيقان نفسيهما فى قلب صراع يحمل أصداء أحداث وقعت قبل مائة عام، عندما مثّل جدهما المؤسسة فى مواجهة انتفاضة الفلاحين التى أشعلها شقيقه الأصغر. تظهر فى الرواية حوادث بشعة كسفاح القُربى وانتحار مُروع بواسطة بندقية، لكن فى النهاية تظهر أيضًا المُصالحة والأمل.

صرح أُوى ذات مرة قائلًا: «كل ما أكتبه يبدأُ بالشخصيّ».

بموتيفة الابن المصاب بإعاقات ذهنية والبحث عن المعنى فى يابان ما بعد التفجيرات النووية، شكَّلت هاتان الروايتان المبكرتان أصلًا للعديد من أعماله اللاحقة والتى جاوزت الأربعين رواية ومجموعة قصصية، بما فى ذلك «آجوى، وحش السماء»، «انهضوا يا شباب العهد الجديد»، و«حياة هادئة».

صرح أُوى لباريس ريفيو فى عام 2007 قائلًا: «أنا شخص ممل. قرأتُ الكثير من الأدب، وأفكر فى الكثير من الأمور، ولكن أساس كل ذلك هو هيكارى وهيروشيما».

وذكر أن أحد أساليبه هو «التكرار مع اختلاف ما - أبدأ عملاً جديدًا من خلال محاولة اتباع نهج جديد فى تناول عمل كتبتُه بالفعل. ثم أعمل على المسودة الناتجة وأواصل تشريحها. أثناء عملى تختفى ملامح العمل القديم».

مثَّلت ذكريات أُوى عن الحرب العالمية الثانية ذكريات تلميذ مذعور ومُحبَط. كان أساتذته يسألون الطلاب عما سيفعلون إذا أمرهم الإمبراطور بالانتحار، وتوجب عليهم أن يجيبوا، «سأموت، يا سيد». سأطعن بطنى وأموت».

فى الخامس عشر من أغسطس للعام ذاته، أعلن هيروهيتو الاستسلام غير المشروط للولايات المتحدة. كان كينزابورو البالغ من العمر عشر سنوات يتخيل الإمبراطور كطائر أبيض غامض. وذكر صدمته فى مقاله «صورة لجيل ما بعد الحرب»: «جلس الكبار حول أجهزة الراديو وبكوا. تجمع الأطفال فى الخارج على الطريق الترابى وتهامسوا بالحيرة. شعرنا بالدهشة وخيبة الأمل لتحدُث الإمبراطور بصوت بشرى».

فى جامعة طوكيو، تخصص أُوى فى الأدب الفرنسى الحديث، لكن اتسع نطاق قراءته طوال حياته بين الكُتاب الأوروبيين والأمريكيين، مع تقديس خاص لويليام بيتلر ييتس. ورُغم أن قائمة ما تأثر به من الأدب تضمنت كل شىء تقريبًا من «مغامرات هكلبيرى فين» إلى نظرية الناقد الروسى ميخائيل باختين عن الواقع البشع، إلا أن سعة اطلاعه تلك نادرًا ما فرضت نفسها على أدبِه. كما أنه لم يسمح للوعظ أن يعوق قصة جيدة. لذلك، لجأ لكتابة العديد من المقالات والمحاضرات التى عارض فيها بشدة الطاقة النووية والجهود المبذولة لمراجعة دستور اليابان السلمى.

عاش أُوى أيضًا فى صراع مع المجتمع اليابان»، لقناعته بأنه بعد 25 عامًا من الديمقراطية والاضطراب الفكرى فى أعقاب الحرب، سقطت البلاد فى حفرة التصالح مع الواقع. كما ذكر أنها فترة تميزت بحكم الحزب الواحد والمواقف «الحادة والمنعزلة» التى حالت دون إقامة علاقات بناءة مع دول آسيوية أخرى، ناهيك عن القيام بأى دور مؤثر فى الشئون العالمية.

نجا زواج أُوى وعاش مع زوجته، يوكارى وابنه هيكارى وابن آخر، ناتسوميكو، وابنة، ساكوراو، اللذين كبرا وغادرا المنزل بينما ظل هيكارى يعيش مع والديه فى منتصف العمر، يؤلف موسيقاه فى نفس الغرفة التى ألَّفَ فيها والده الكتب وأعاد كتابتها.

ذكر أُوى فى مقابلته مع باريس ريفيو: «أمضيت حياتى فى المنزل، أتناول الطعام الذى تطبخه زوجتى، وأستمع إلى الموسيقى وأرافق هيكارى. أشعر أنى اخترت مهنة رائعة. كنت أستيقظ كل صباح وأنا أعلم أنى لن أعدَمَ كُتبًا لقراءتها. تلك هى حياتى».

اقرأ ايضاً | انطلاق «مهرجان الشارقة القرائي للطفل» مايو المقبل

نقلا عن مجلة الادب : 

2023-3-19

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة