إيمان مرسال
إيمان مرسال


لؤى حمزة عباس يكتب: زيارة

أخبار الأدب

الأحد، 26 مارس 2023 - 07:26 م

توجّهت صباحاً إلى البنجرجي، بعد أن أقلقنى ثقلٌ وارتجافٌ أحسسّتهما فى إطار السيارة الخلفى جهة اليسار، حدّثت نفسى عن نقص الهواء الذى يفعل الأفاعيل، بالسيارات وبنا.

 أوقفت السيارة، نزلت منها وخطوت، وقفت عند عتبة المحل الواسعة، بين الداخل الظليل والخارج المكشوف لضوء النهار.

 قلت للرجل:

 هواء، من فضلك.

 نعم، أقول من فضلك لبائع الخضار، ولعامل المخبز، وللكهربائي، والفيتر، والبنجرجي، والحدّاد، تلك عادة لا أعزوها لتأدّبي، إنما أظنُّها محاولةً لتجاوز وهن الجسور بينى وبين الآخرين أياً كانوا، وبينى وبين نفسي.

 قال، ما إن وضع فم أنبوب الهواء البنى الداكن فى حلمة الإطار:

 هذا مضروب برغى وما يفيده الهوا

 قلت له على الفور، كأننى أنفض الجملة عن كاهلي:

 افتحه.

 

كنت أسمعه بنصف وعيّى، ونصف وعيّى الآخر مع إيمان مرسال وكتابها، أشباح الكتاب تتخاطف من حولى ووسوسته تملأ رأسى، عن أنانية الأمومة، وعن الأمّهات المخفيّات، والمشى فى طريق الحداد، وأحزان الجدّات اللواتى يحدّثن حفيداتهن من وراء ستار الموت، وعن العالم العادى الذى نبدو على غير اتصال عميق به، كلانا.

فتح الإطار ودحرجه بيدين متربتين، بقّع الزيت جلد أصابعها المغضّن، وفى الظل، بعينيه المجرّدتين، بدأ يحسب البراغى والمسامير التى خرقت الإطار، قبل أن يضعه فى حوض الماء، متعمداً أن يُسمعنى:  أربعة بناجر.

قال مطمئنّاً.

 ثم أخذ بلايس من رفٍّ قريب نخره الصدأ، وبدأ يخلّص البراغى والمسامير واحداً إثر الآخر، ثم يكوّمها أمامه على حافّة الحوض، انشغلت عندها بالحديث مع نفسى، كما لو كنت أكتب:

التفكير بكتاب إيمان مرسال يشبه مناجاة روح أثّقلتها التجارب فهى ترتجف مع كلِّ حرف، وهى، مع ذلك، كتبت كتاباً فريداً.

 توقّفت، وسألت نفسى:

كم يصعب أن يكتب أحدنا سطراً يقال عنه سطر فريد!

لم أنتبه إلا والرجل يُشعل النار داخل الإطار،

ودّدت لو أسأله عن رأيه فى أن نُخلّص أرواحنا مما علق بها من براغٍ ومسامير، نضعها فى أكوام صغيرة، ونضع كلَّ كوم أمام صاحبه، ونُشعل النار بما يتبقّى، استسخفت الفكرة ولم أسأل، من الممكن أن أرسل السؤال إلى إيمان فى الواتس، أكتب الجملة وأضغط الأيقونة بلا تردّد، ستستغرب حتماً، حالما تقرؤها، وربما تضحك لفكرة الأرواح التى تخرقها البراغى والمسامير.

لم أكن على صلة مباشرة بإيمان، صلتى بها قرائية حسب، وحسب ما يصادف ويقع فى يدى، ولا أظنها تعرفنى بالمقابل. كتب لى أحمد شافعى، الشاعر والروائى والمترجم، وهو صديق مشترك بيننا، عن رغبتها بزيارة بغداد خلال أيام، من أجل مشروع بحثى، كانت إيمان قد زارت بغداد ضمن وفد نسوى خلال تسعينيات الحصار ذلك ما ستخبرنى به بعد أيام، فى أحد اتصالاتنا الهاتفية وكانت وقتها صبيّة ترتدى تنوّرة قصيرة، اقتيد الوفد، بطريقة ما، للقاء الرئيس صدام حسين، جلست فى الصف الأخير من القاعة تُخفى نفسها وتلمُّ ساقيها تحت تنورتها.

وثم ترفع رأسها لتراه وتتأكد أنه هو الذى يتكّلم، منذ ذلك الوقت، بقيت بغداد، بالنسبة لها، مدينةً بعيدةً يلفّها غبار الحكايات والأخبار المتضاربة وتكاد تبتلعها الأساطير، وربما رأتها فى حلم ثقيل وغير مفهوم من أحلامها، بأبواب عظيمة مغلقة يقف أمامها عساكر ببزّات مكوية ونياشين. فور قراءة رسالة أحمد فكّرت برغبة إيمان فى تجديد إحساسها بالمدينة والتشبّع بها،

قلت له بالحرف:

«أهلاً بإيمان، تشرّف، وضع بغداد مطمئن وليس ثمة ما يدعو إلى القلق.

أسكن البصرة، كما تعلم، وعملى فيها، لو كانت التزاماتى أقل لكنت فى بغداد لاستقبالها، أرجو تفضلك بكتابة بعض تفاصيل الزيارة لأكلّف صديقة أو صديقاً لمتابعة حضورها»

وحاولت الاتصال به، عبر الماسنجر، لكننى لم أوفق.

وفى آخر النهار وصلتنى منه الرسالة التالية: «أعرف أنك فى البصرة يا صديقى، وقلت لها ذلك.

ولكننى قلت إن حديثها معك يكون مفيداً فى كلِّ الحالات، دون أن تكبّد نفسك أيَّ عناء، وأعتذر عن رداءة الشبكة عندى فلم أتمكن من سماع اتصالك.»

وعلى الفور، اتصلت بدكتورة صديقة، أفضل من يمكن أن يقوم بواجب الضيافة وأكثر، وكان هاتفها مغلقاً، سألت تميم عنها، وهو صديق مقرّب لابنها، أخبرنى أنهما فى زيارة قصيرة لدُبى، ويسلّمان عليك. بعدها اتصلت بالصديق الدكتور أحمد الزبيدى، رجل المهمات الصعبة، ثانى أفضل من يمكن أن يقوم بواجب الضيافة وأكثر، فرحّب بالمهمة واقترح، من جهته، إضافات وتنويعات لا أحسبها مرّت فى ذهن إيمان.

وذلك بعد أيام قليلة أرسل لى، فى ساعة مبكّرة، صورةً على الماسنجر، إيمان خارجة من بوابة صالة الاستقبال فى مطار بغداد التى تلوح خلفها خالية ولا معنى للتعليمات الظاهرة على شاشاتها، شعرها مضطرب يتوّزع فى كتلتين على جانبى وجهها، أحكمت كمامة على فمها وأنفها، كأنها فى أول الوباء، وفوقها ثبتّت نظارة مستطيلة العدسات.

وعلى ما بقى من وجهها تبدّى تعبُ سفر آخر الليل، وتدلّت على وسطها حقيبة جلد صغيرة بحمالات طويلة، حملت أخرى على ظهرها، وسحبت وراءها أخريين متوسطتين، حمراء وسوداء. أعدت ارسال الصورة على الفور لأحمد شافعى مع جملة: «بحفظ الله ورعايته، إيمان تصل الديار العراقية»ومنذ ذلك النهار بدأت صفحة جديدة من علاقتى بها.

أتصل يوماً بيوم لأطمئن عليها، ثم بدأت أتصل لأُنصت لما تقول عن سعادتها ببغداد، وعن شعورها الذى لا مثيل له وهى تتنفس هواءها.

فى كلِّ مرّة، تقول:

 دى بغداد حلوة بجد، يا لؤي.

ولأنها كانت تعيش تفاصيل المدينة، بأزقّتها الضيّقة ذات الروائح المنزلية، وشوارعها المتقاطعة، ومطاعمها المرمية فى كلِّ مكان، وتتشبع بهوائها

وكان كلُّ ذلك يصلنى عبر حديث إيمان اليومى ونبرة صوتها، وبعدها، بدقائق، يزوّدنى الدكتور أحمد بالصور، وصولاً للحدث المفاجئ الأهم: زيارة قبر أبى المغيث الحسين بن منصور الحلّاج، فى جانب الكرخ.

ووقفت إيمان بجوار القبر المغطّى بقطعة قماش أخضر زيّنت حافتها بشريط ذهبى مشرشب، صُفّت فوقه أصصٌ بلاستيكية بورود دقيقة حمراء وصفراء، دموية الاحمرار وصفارها مخضر، كانت ترتدى أبسط ثيابها، وتلفُّ شعرها بمنديل أزرق بدوائر بيض، كبّرت الصورة على شاشة الجهاز، وتأملت تعابير وجهها وقد رمت كمامتها، مستشعراً المعانى التى تتنفس تحت جلدها وتنبض فى شرايينها.

لم يكن يعتمل فى ذهنها، لحظة التصوير، غير مشهد الحلاج مصلوباً فى مدينة خالية مترامية الأطراف، تعبث الريح بخصلات شعره الأشيب وثيابه المدمّاة، كان الحزن مرتسماً على ملامحها، والتسليم بادياً على يديها وقد احتوت كلٌّ منهما الأخرى، وكانت قدماها الحافيتان تضفيان على المشهد شعور عزاء راسخ، تراءى لى أننى أسمع ذلك كلَّه، فى الفضاء الأخضر المضئ وتقويساته السماوية.

فكّرت، وقتها، بأن المدينة اكتشاف عظيم، مثل كلِّ اكتشاف عظيم آخر، وكان البنجرجى يتحدّث، من داخل المحل، عن البراغى والمسامير، وكان يرفع يده، ثخينة الأصابع، ملوّحاً للسيارات العابرة التى يُطلق سواقها منبهاتهم، وهم يسلّمون عليه.

اقرأ ايضاً | الفائزون بمسابقة «تراثى» ‏للتصوير الفوتوغرافى

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة