نجيب محفوظ
نجيب محفوظ


حاتم السروي يكتب: تراجيديا سيزيف بين السينما والرواية

أخبار الأدب

السبت، 01 أبريل 2023 - 06:10 م

«إن العمل السينمائى إذا كان محكم السيناريو والإخراج، جيدًا من حيث أداء الممثلين، يكون له الفضل – دون شك - على العمل الروائي» وفيلم «قلب الليل» المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب نجيب محفوظ قد يكون دليلًا على ذلك،

فهو العمل الذى قام ببطولته الفنان نور الشريف ومحسنة توفيق وهالة صدقي، وهو الفيلم الذى جعل من الرواية كائنًا حيًا فيه الكثير من الحركة والحيوية والروح الشاعرة والعين النفاذة إلى ما وراء السطور، يضاف إلى ذلك عنصر الديكور مع اللسمات الإخراجية والصورة السينمائية المتوائمة بوضوح مع الروح الكلاسيكية للعصر الذى تنتمى إليه أحداث الرواية، ولا شك أن للصورة خدمة جليلة قدمتها للعمل الأصلى وللمشاهد.

بطل الفيلم نور الشريف أو على الراوى مثال حى للإنسان المغترب أبدًا، الباحث عن دورٍ ما، المغامر، المتمرد، الطيب، الطائش، المغلوب على أمره، كثير التجارب والرؤى، الباحث بشوق عن ذاته المستلبة وحريته المفقودة.

والناقم على سيطرة جده، والذى لعب دوره باقتدار الفنان فريد شوقى حيث كان البطل يتيم الأبوين، وفى النهاية يتحول البطل إلى قاتل! ثم نهاية الفيلم – غير السعيدة بالمرة- بعد أن فقد البطل السيطرة على عقله ليتكلم باطنه فيذكرنا بتناقضات الإنسان، بشهواته ونبله، إنه الإنسان المخلوق من الطين، لكنه أيضًا الهابط من السماء.

ونور الشريف أو على الراوى يتزوج من «غجرية» أو «راعية غنم كما فى الفيلم» كنوع من التمرد على البيئة المحافظة التى نشأ فيها، فجده «العالِم» كان قد أدخله فى معهد أزهري، وأشرف بنفسه على خط سيره فى دراسة العلوم الدينية، ورباه على المثل العليا، لكنه يرغب فى الانطلاق.

وتأتى انطلاقته من النوع الصارخ الذى يتفلت من كل القيود ولو على حساب نفسه، فيقع فى حب المرأة الغجرية – أو يخيل إليه أنه يحبها- ويرفض فى المقابل أن يتزوج بنت

مفتى الديار المصرية! ويكون رد فعل جده التلقائى أن يطرده من القصر بعد عمله فى الغناء وزواجه من «خضراء الدِّمَن» ليعيش مع المرأة الغجرية فى «عشش الترجمان» كل معانى الغربة، فهى لا تفهم معنى الكتب والقراءة، ولا ترى أن «الرجل/ الذكر» يمكن له أن يعمل مغنيًا فى كُورَس وراء مطرب، إن الرجل فى نظرها هو اللص/ الهجام أو البلطجي، والزوجة الغجرية إلى كل ذلك منحرفة المزاج، كثيرة الهيجان، عصبية إلى حدٍ بعيد، ولا تعرف معانى «الذوق» أو «الإتيكيت» فهى متمردة دائمًا وأبدًا، وليست من النوع الذى يمكن تهديده بالطلاق؛ إذ لا يعنيها أن يكون لها بيت ورجل يرعاها، إنها غجرية.

ويعيش البطل فى هذا العالم القاسى المليء بالمجرمين، ويرى كل مظاهر القاع، مثلًا يرى البلطجية وهم يحيلون ليلة عرس مفرحة إلى رجع نُواح، ويرى ببصيرته مصير أبنائه بعد أن أرغمه «بلطجى المنطقة» على تطليق زوجته لاستحالة العشرة، فهؤلاء الأبناء حتمًا سيصبحون لصوصًا هجامين، أو نشالين، وربما قوادين.

ومن ثم تنتشله من القاع ومن غمرة ضياعه امرأة أرستقراطية، لعبت دورها الفنانة محسنة توفيق ويتحول «الراوي» من مطرب فى الظل إلى «كاتب»! ويشعر بالغربة مرة أخرى؛ حيث أن رواد الصالون الثقافى لزوجته تفوق ثقافتهم بمراحل كل ما اختزنته ذاكرته من علوم اللغة العربية والبلاغة التى تعلمها فى الأزهر.

ويعود البطل من جديد باحثًا عن ذاته، ويتمحور البحث عن الذات هنا حول مقعد فى ديوان الفلاسفة، وطموحه الفتاك لا ينتهى بل يجعله فى اشتعال مستمر وقلق لا ينتهى للبحث عن مكانة.. وفى إحدى المرات يتحول فى غمضة عين عند بعض العوام والحرافيش إلى بطل وطني، وكان المشهد كوميديًا بالفعل، لكنه يستبطن المأساة بكل تفاصيلها، مأساة رجل طموحه لا يساوى إمكانياته!

ومن ثم يركن «الراوي» إلى العزلة، ويختلى بنفسه، ليخرج كتابًا ضخمًا كتبه بخط اليد، ويعود ممتطيًا جواده مثل الفاتحين؛ فالكتاب الذى يطل به على رواد الصالون الثقافى الذى تعقده زوجته – ومنهم عميد الأدب العربي- طه حسين، سوف يحل – من وجهة نظره- كل مشاكل البشرية! وهو كتاب مليء بالعبارات الفخمة والمصطلحات الأكاديمية.

ولكنه فى الحقيقة لا يقول شيئًا. وهنا تتوهج المأساة، ويبدو على الراوى بطلًا تراجيديًا تتجسد فيه أسطورة سيزيف المحكوم عليه إلى الأبد بحمل الصخرة «أو الذات الباحثة عن القمة» صخرة عَتِيَّة يتعين عليه حملها إلى قمة جبل شاهق، ثم تتدحرج الصخرة فيعود إلى حملها ثانيةً، وهكذا إلى الأبد..

وبالطبع تفشل محاولات الراوى فى الانضمام إلى نادى الفلاسفة، ويتندر به صديق زوجته، ويخبره بالحقيقة العارية، إن ما يفعله ليس أكثر من «عبث» وهنا يتداعى على البطل كل ما يحمله من بغضاء لهذا الرجل ذى الصراحة اللعينة، وكل ما يحمله من غيرة رجل شرقى تجاه رجل نافسه على إعجاب زوجته.

ومع أن زوجته مخلصة وتحبه بالفعل، وقد قامت هذه الزوجة التى جسدتها فى الفيلم الفنانة محسنة توفيق بالدور الذى تقوم به كل زوجة مثالية، لكن الغيرة والبغضاء كان لهما شأن آخر.

ويظل البطل فى السجن، ثم يخرج منه بعد عشرين سنة «لحسن السير والسلوك» وقد استوى تمامًا، وارتقى مرضه النفسى إلى الجنون الكامل، كما استحال كتابه العبثى فى أعماق ذاته إلى نوعٍ من الهوس، فهو يعتقد أنه ليس مجرد كتاب، بل هو نظرية السعادة الخالصة للنوع الإنسانى المعذب.

وحين تأتيه نسخة الكتاب الورقية من خلال زوجته التى كانت تزوره باستمرار فى السجن وتحضر له الطعام، يشعر بنوع من السعادة، ويقول بلسان حاله «زيادة الخير خيران» فالكتاب صارت له نسختان، إحداهما على جدران الزنزانة، كتبها بالطباشير، والأخرى على الورق، وكان قد كتبها بالحبر.

ومن ثم يهيم «الراوي» على وجهه فى الطرقات بعد الإفراج عنه معلنًا نظريته، ويحاول صديقه القديم المطرب أو الفنان «محمود الجندي» الذى نجح فى الطرب والغناء أن يصطحبه معه فى سيارته الفارهة؛ لكنه يفضل أن يظل مشردًا بملابسه المهترئة وطربوشه البالى وعكازه القديم، ليعلن للعالم أن الخلاص سيكون على يديه..

والفيلم بالطبع مشبع بدلالات ورموز فلسفية ونفسية كثيرة، ويتجلى فيه حلم البشرية الأزلى فى الوصول إلى الأمان والسعادة، وحلم كل إنسان على ظهر الأرض أن يكون نفسه، أن يكون شيئًا ما..

ويمكن القول إن السيناريو لعب دورًا بارزًا فى إظهار المفارقات المدهشة فى حياة البطل، وفى إظهار قلقه وأرقه وتناقضاته، وروحه المتوقدة، وبحثه المضطرب كأمواج البحر فى يومٍ عاصف..

إنها تراجيديا نموذجية قد تبدو مضحكة فى بعض تفاصيلها، لكنه ضحك الباكى المحكوم عليه بالحيرة والحركة والتيه فى معمعان الحياة، إنه النبيل رغم خطئه، والشغيل رغم يأسه وعجزه، والمحافظ رغم تمرده.. إنه كتاب الكون.. إنه الإنسان.

بقى القول إن فيلم «قلب الليل» تم عرضه فى 2/ أكتوبر لعام 1989م، وهو من إخراج الرائع عاطف الطيب فيما كتب السيناريو والحوار محسن زايد وشارك فى الفيلم بدور صغير الفنان محمد هنيدي، وقد جاء اختيار اسم «الراوى» لبطل الرواية لأن الكاتب «نجيب محفوظ» جعل من البطل «راويًا» لقصة حياته لتأتى الرواية بتقنية «الفلاش باك» والرواية تنضم لسلسلة الروايات الأدبية ذات البعد الفلسفى للأديب نجيب محفوظ.

والذى عرف عنه نزعته الوجودية وتقديمه للأسئلة ليجعل من القارئ مفكرًا متسائًلا باحثًا معه عن حل أو مشاركًا بوجهة نظر، فروايات نجيب محفوظ كلها دون استثناء لا تضع إجابةً ما؛ وإنما فقط ترصد وتكشف وتحلل وتتسائل، فربما أصبح القارئ فيلسوفًا هو الآخر!

اقرأ أيضاً| فاطمة عبد الحميد تكتب القارئ السعودي لا يخيفني


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة