د.مكارم الغمري يكتب : الأدباء الروس والإسلام
د.مكارم الغمري يكتب : الأدباء الروس والإسلام


د.مكارم الغمري يكتب: الأدباء الروس والإسلام

أخبار الأدب

السبت، 15 أبريل 2023 - 03:56 م

لاشك أن تأثير التراث الإسلامى على الثقافة الروسية له مكانته الكبيرة، وقد وجد هذا التأثير إنعكاسا له فى الأدب والموسيقى والفكر الروسى،وقد ساهم فى التمهيد لهذا التأثير أسباب وقنوات عدة؛ منها موقع روسيا الجغرافى، فروسيا جارة الشرق والغرب، يتوسط موقعها الشرق والغرب، وقد كان لهذا الموقع المميز تأثيره فى هذا المزيج المتفرد لثقافتى الشرق والغرب، فقد تقاطعت فى روسيا ثقافات الشرق والغرب، واستوعبت روسيا بداخلها الكثير من الموروث الثقافى للشرق والغرب.

وقد كان الثقافة الإسلامية مكانتها فى هذا المزيج، وتأثيرها الملموس،وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك قنوات عدة أسهمت فى التعريف بالثقافة الإسلامية: حركة التجارة القديمة، كتابات الحجاج والرحالة، الغزو المغولى التتارى لروسيا، جهود المستشرقين المستعربين، ترجمات القرآن الكريم، وغيرها.

حركة التجارة القديمة

لم يكن المسلمون بعيدين عن روسيا، وكذلك لم تكن روسيا بعيدة عنهم، فقد وصل التجار العرب المسلمون إلى قلب روسيا وأقاموا علاقات تجارية واسعة فى القرن التاسع الميلادى، وكانت مواد التجارة آنذاك هى الفراء والعسل والحرير.

اقرأ ايضاً| إيهاب حسن يكتب: فصل من آخر ترجمات السيد إمام | برولوج براءة جذرية

والذى كان يباع للشرق العربى مقابل عملات فضية عربية وجدت آثارها فى أنحاء متفرقة من روسيا. وقد كانت حركة التجارة القديمة بين روسيا والشرق العربى – حسب إشارة المستشرق الروسى الكبير كراتشكوفسكى - وهى أحد المنافذ التى عبرت من خلالها مفردات الثقافة العربية ومنها كلمات عربية إلى اللغة الروسية، والتى كان فى عدادها بعض مصطلحات الطب العربى.

وقد دخل الشرق بثقافته الإسلامية أيضا مع الغزو التتارى المغولى لروسيا «١٢٣٧- ١٤٨٠» ، وبعد أن انتاب الضعف الغزو التتارى المنغولى دخلت أراضى تابعة للغزو فى عداد روسيا، ومنها مناطق إسلامية، وكانت هذه المناطق أحد منافذ الثقافة الإسلامية إلى الحياة الروسية.

بالإضافة إلى ذلك فقد كان لمسلمى القوقاز الذى ضم  إلى روسيا فى القرن الثامن عشر دور كبير فى التعريف بالتراث الاسلامى، فقد ارتحل العديد من الأدباء الروسى والفنانين إلى القوقاز، وتعرفوا من خلاله على الثقافة الإسلامية.

المصادر المكتوبة المبكرة:

وثمة مخطوطة يرجع تاريخها إلى بداية القرن الثانى عشر الميلادى «حوالى ١١١٣» وتعد من أقدم الأدبيات الروسية المكتوبة، وهى «قصة السنوات العابرة»، وفيها نتعرف على قصة الأمير فلاديمير  الذى إعتلى الحكم فى روسيا عام ٩٨٠، واعتنق الإسلام ثم ارتد عنه إلى المسيحية، التى صارت فيما بعدد ديانة رسمية لروسيا.

واستقى الروس معلوماتهم المبكرة عن الشرق العربى من خلال بعض المصادر المكتوبة، وقد كان من أهمها كتب اللاهوت والمراجع التاريخية اليونانية، ويثير كراتشكوفسكى الشكوك حول مصداقية المعلومات التى وردت فى هذه المراجع والتى تناولت الإسلام بالشرح.

وبدأ تداولها فى روسيا فى القرن الحادى عشر، فهو يعتقد أن المعلومات التى جائت فى هذه المصادر تعطى صورة مشوهة عن الإسلام،بل ومجادلة له فهى ترسم الإسلام فى صورة خيالية لا تطابق الواقع الحقيقى إلا فى القليل «إ٠ كراتشكوفسكى، المؤلفات المختارة، ج ٥، موسكو – ليننجراد، ١٩٥٨، ص ١٨».

 وقد تمت فى نهاية القرن الحادى عشر الترجمة الروسية لمدونة جورج امارتول التى تعطى ملخصا للتاريخ العام، وكان للمادة العربية حظها فى هذه المدونة التى تناولت التعريف بالقبائل العربية قبل الإسلام،وأوردت معلومات عن بعض الأقطار العربية.

 وكذلك تم فى روسيا إنجاز ترجمة تتناول وصف مدينتى مكة والمدينة المنورة يتخلله مقتبسات من السيرة النبوية، وقد ازداد عدد هذه المؤلفات التى كانت تبحث فى الفكر الإسلام  فى القرون – الخامس عشر إلى السابع عشر – وكانت هذه المؤلفات تتضمن شرحا للإسلام ووصفا للأقطار الإسلامية وبخاصة الواقعة على حدود روسيا الشرقية والجنوبية «ف. دانسينج، الشرق الأوسط فى العلم الروسى والأدب، موسكو، ١٩٧٣، ص ٢٥»

الرحالة

وقد كان لكتابات الرحالة دور كبير فى التعريف بالثقافة العربية وبالإسلام، وقد لاقت كتاباتهم المستقاة من التجربة الحية والمعايشة على الطبيعة نجاحا كبيرا لدى القارئ الروسى، والذى كان يقدم على قراءة هذه الكتابات بوحى الشعور بمصداقية ما يرويه شاهد العيان.

 

وقد كانت الرحلة لزيارة الأماكن المقدسة من أهم الرحلات التى كان يقوم بها الرحالة، ومن بين هذه الرحلات يمكن الإشارة إلى الرحلة التى قام بها فاسيلى بارسكى« ١٧٠١-١٧٤٧» وقد زار القدس وسيناء بالإضافة إلى زيارته للاردن والقاهرة والسويس ودمياط وبيروت ودمشق، وقد سجل إنطباعاته عن رحلاته فى الشرق فى كتاب لاقى نجاحا كبيرا يشهد عليه إعادة طباعة الكتاب ست مرات متوالية.

وكذلك نالت مذكرات الأديب الرحالة فيودر إمين التى ظهرت فى الفترة «١٧٦٦- ١٧٧٦» شهرة كبيرة، وقد إهتم فى مذكراته بوصف الأماكن المقدسة فى القدس، وقد زار إمين معظم بلدان الشرق الأوسط، واهتم بشكل خاص بالتعرف على التراث الروحى والدينى للشرق العربى. وتعد رحلة الأديب الدبلوماسى أندرى مورافيوف «١٨٠٦- ١٨٧٤» من أشهر الرحلات التى تناولت – ضمن ماتناولت –وصف الأماكن المقدسة إلى جانب زيارة القاهرة والأسكندرية وممفيس وسيناء وفلسطين، وقد اجتذب كتاب مورافيوف اهتمام الأدباء الروس وبخاصة بوشكين وليرمونتوف وتشيرنيشفسكى، فقد قرأ الادباء الروس كتاب مورافيوف – حسب وصف بوشكين « فى تاثر وغبطة عفوية «أ. بوشكين، المؤلفات الكاملة، ج ٧، ص ٢٦٢»

 وكذلك قام الرحالة أ٠ نوروف «١٧٩٥ – ١٨٦٩» والذى كان يجيد الكثير من اللغات الأجنبية برحلات إلى الشرق زار خلالها فلسطين ومصر،. وسجل انطباعاته عن رحلته فى كتاب «رحلة إلى الأراضى المقدسة».

ولا يتسع المجال هنا للحديث عن كل الرحلات الهامة التى سجلها الأدب المكتوب وكانت مصدرا مهما عن الأماكن الدينية المقدسة وقد ساهم كذلك فى انتقال مفردات ثقافية ودينيه ومنها كلمات عربية إلى اللغة الروسية الحجاج الروس إلى بيت المقدس، وكان أول حاج روسى إلى فلسطين يدعى دانيل، وقد قام برحلته إلى فلسطين فى بداية القرن الثانى عشر، وقضى فى فلسطين ستة عشر شهرا

ترجمات القرآن

وتحتل ترجمات معانى القرآن الكريم مكان الصدارة بين الترجمات الروسية عن العربية، فقد ترجم القرآن الكريم إلى الروسية مرات كثيرة من قبل مترجمين مختلفين، وكانت الترجمات المبكرة للقرآن تتم من خلال لغات إوربية وسيطة، ثم أمكن بعد ذلك ترجمة القرآن إلى الروسية عن الأصل العربى بعد تكوين كوادر المترجمين المتخصصين وخاصة فى دوائر المستشرقين. وقد كان لترجمات معانى القرآن الكريم دورها البالغ الأهمية، فقد كانت مصدرا مهما للكتاب المتأثرين بالإسلام.

وظهرت أول ترجمة روسية كاملة للقرآن الكريم عام ١٧١٦ فى عهد القيصر بطرس الأكبر (بيتر العظيم) وقد أنجز هذه الترجمة المترجم بوسنيكوف نقلا عن الترجمة الفرنسية التى قام بها المستشرق الفرنسى ديورى عام ١٦٤٧، ويثير كراتشكوفسكى شكوكا حول درجة الصدق والدقة فى هذه الترجمة.

والتى ظهرت بعنوان « القرآن عن محمد، أو القانون التركى»، ففى ترجمة بوسنيكوف هذه – وحسب إشارة كراتشكوفسكى « أخطاء كثيرة جدا، ومع ذلك لا يجب التقليل من شأنها نظرا لأهمية الحدث نفسه « كراتشكوفسكى، المؤلفات المختارة، ج ٥، ص ٣٤».

ومع نهاية القرن الثامن عشر ظهر فى بطرسبرج «سانت بطرس برج» نص للقرآن الكريم بالعربية بتشجيع من القيصرة يكاترينا الثانية، التى كانت تود نشر القرآن الكريم بين السكان المسلمين فى روسيا، وكانت تأمل فى الاعتماد على القرآن فى أهدافها السياسية وحروبها مع تركيا.

 وقد أشرف على إصدار الطبعة العربية للقرآن « وعلق عليها الملا عثمان إبراهيم، وتم طبعها بحروف طباعة عربية أعدت خصيصا لهذا الغرض، بحيث تحاكى خط أحد اشهر الخطاطين المسلمين فى ذلك الوقت، وبالتالى فقد كان من أفضل الخطوط العربية المتوفرة آنذاك فى أوروبا، وقد أعيد إصدار هذه الطبعة من المصحف فى الأعوام ١٧٨٩،١٧٩٠، ١٧٩٦، ١٧٩٨ «ب٠ غرزينفيتش، القرآن فى روسيا، ١٩٨٦»، ص ٢٥٣.

ومع ازدياد الاهتمام بالشرق العربى فى نهاية القرن الثامن عشر، « وعملا بالأمر الصادر في٥ كانون الأول «ديسمبر» من العام ١٨٠٠ رفعت القيود التى كانت مفروضة فى روسيا على طبع الأدبيات الدينية الإسلامية، وفى العام ١٨٠٢ افتتحت فى قازان أول مطبعة إسلامية … تم بها إعداد ٨٢٣٠٠ نسخة من المصحف، وكل هذه الطبعات اعتمدت نص طبعة بطرسبرج لعام ١٧٨٧، وحظيت بانتشار واسع لا بين أوساط مسلمى روسيا فحسب، بل وفى الخارج أيضا « ب٠ غرزينفيتش، ص ٢٥٣».

 وإلى جانب ظهور نص القرآن الكريم بحروف عربية، ظهرت فى روسيا فى نهاية القرن الثامن عشر – أيضا –ترجمتان جديدتان للقرآن الكريم بالروسية، وهما الترجمتان اللتان حازتا تقدير كراتشكوفسكى الذى رأى فيهما « مستوى أعلى من الترجمة التى أنجزت فى عهد بطرس الأكبر «، وكان ظهورهما بمثابة «حدث تاريخى بالغ الأهمية فى الثقافة الروسية … إذ يكفى الإشارة إلى أن ترجمة فيريفكين هذه بالذات  «١٧٩٠» وهو المترجم البارز والاديب الكبير فى وقته، كانت فى متناول أيدى الشاعر بوشكين، وكانت مادة أساسية فى عمله فى مؤلفه « قبسات من القرآن «. كراتشكوفسكى، ص ١٤١»

 وقد أثارت ترجمات القرآن الكريم إلى الروسية اهتماما كبيرا كان له الفضل فى ظهور مؤلفات تتناول شرح القرآن الكريم، ومن أبرزها كتاب المترجم ب٠ بوجدانوفيتش الذى ظهر فى نهاية القرن الثامن عشر بعنوان « محمد والقرآن «، فى وقت مواكب لظهور الترجمات المشار إليها، وقد شهد هذا الكتاب نجاحا كبيرا كان السبب فى إعادة طباعته أكثر من مرة.

 ومع ازدهار حركة الاستشراق ونمو كوادر المستشرقين أمكن للقرآن الكريم أن يترجم عن الأصل العربى، فقد ظهر فى عام ١٨٧٨ ترجمة للقرآن الكريم عن العربية أنجزها المستشرق ج. سابلوكوف، وقد قام سابلوكوف إلى جانب تقديم ترجمة القرآن بإعداد ملحق للشروح والتفسيرات صدر فى كتاب بعنوان «معلومات عن القرآن « فى عام ١٨٤٨.

وقد تعاقب صدور ترجمات روسية للقرآن الكريم تمشيا مع الاقبال الشديد عليه، فصدر فى موسكو عام ١٨٦٤ ترجمة للقرآن أشرف على إنجازها المترجم نيكولاييف، وحظيت باهتمام كبير الطبعة المصورة «بطرسبرج ١٩٠٥» من مصحف سمرقند الشهير المدون بالخط الكوفى والمنسوخ فى مستهل الربع الأول من القرن الثامن «وهو المشهور بمصحف عثمان».

 وتعد فترة نهاية القرن التاسع عشر فى روسيا من أكثر الفترات ثراء بالأبحاث المخصصة للإسلام والقرآن، فكما يشير ب٠غرزينيفتش «اكتسبت المطبوعات الإسلامية خلال الفترة المذكورة أبعادا كبيرة، ففى ثمان مدن من روسيا كانت هناك مطابع تستعمل الحروف العربية».

المستشرقون المستعربون والتعريف بالإسلام والقرآن :

وقد أسهم المستشرقون المستعربون بدور كبير فى ترجمة معانى القرآن عن العربية، والتعريف بسيرة الرسول وبالاسلام، وقد كانت هذه الترجمات والكتابات من المصادر المهمة للأدباء المتأثرين بالإسلام، ومن بين هؤلاء المستعربين تجدر الإشارة إلىأوسيب سينكوفسكى «١٨٠٠- ١٨٥٨»، ف٠ جيرجس «١٨٣٥-١٨٨٧»، ف٠ روزين «١٨٤٩-١٩٠٨»، جوردى سابلكوف «١٨٠٣- ١٨٨٠»، س٠ أومانيتس «١٨٥٧-١٩١٧»، ف٠ بارتولد «١٨٦٩-١٩٣٠»، أ٠ كريمسكى «١٨٧١- ١٩٤٢»، إ٠ كراتشكوفسكى «١٨٨٣-١٩٥١» ، إ. فينيكوف «١٨٩٧– ١٩٧٣»، ج سابلكوف وغيرهم.

 ويعتبر المستشرق الكبير إ٠ كراتشكوفسكى من أهم المستعربين الذين اسهموا إسهاما كبيرا فى التعريف بالثقافة العربية والإسلام،و تنتمى كتابات ايجناتى كراتشكوفسكى « ١٨٨٣-١٩٥١» إلى مرحلتين زمنيتين من تاريخ روسيا هما:

روسيا القيصرية ما قبل الثورة، وروسيا السوفيتية بعد الثورة، ويعد كراتشكوفسكى بحق مؤسسا لمدرسة الاستشراق السوفيتية.

وبدأ كراتشكوفسكى تدريس العربية فى بطرسبرج فى كلية اللغات الشرقية فى عام ١٩٠٥،ثم أتيحت له فرصة السفر للدراسة فى كل من مصر ولبنان و سوريا، حيث قضى عامين احتك خلالهما بالأوساط الثقافية العربية وبالمكتبات العربية ودرس فى جامعة بيروت.

كرس كراتشكوفسكى ما يقرب من خمسة وأربعين عاما من حياته للدراسات العربية، تتلمذ على يديه أجيال من المستشرقين. قدم كراتشكوفسكى مئات الدراسات فى الأدب العربى القديم والحديث، وفى فقه اللغة، وفى المخطوطات العربية، وفى تاريخ الاستشراق، والدراسات المقارنة، والدراسات الإسلامية٠

كما قدم ترجمة حديثة لمعانى القرآن الكريم لم يتمكن من الانتهاء منها قبل وفاته، وقد صدرت ترجمة كراتشكوفسكى للقرآن فى عام ١٩٦٣، وقيمت على أنها ترجمة « ذات قيمة علمية ضخمة وتعد مصدرا مهما للباحثين «.

ويعد المستشرق الكبير أغافانغيل كريمسكى «١٨٧١-١٩٤٢» واحدا من اهم المستشرقين الذين عرفوا بالإسلام. ويعتبر أ٠ كريمسكى من أكثر المستشرقين إسهاما فى حقل الثقافة العربية، وفى إعداد أجيال من المستشرقين الروس، ممن كانت لهم بصمتهم المميزة فى مسيرة الاستشراق الروسى ومنهم المستشرق المعروف إ٠ كراتشكوفسكى الذى كان يعتبر أ٠ كريمسكى « معلمه الروحى »« الذى كان لأعماله المبكرة فضل إيقاظ الاهتمام بداخله تجاه العالم العربى »

وجائت بعض كتابات أ. كريمسكى عن الشرق العربى فى شكل دراسات تناولت الإسلام بالشرح والتقديم، ظهر بعضها فى المعجم الإنسكلوبيدى مثل مقالاته «القرآن»، «الرسول محمد». وظهر البعض الآخر فى كتب مثل كتابه «تاريخ الإسلام» فى ثلاثة مجلدات ظهرت خلال السنوات 1903 – 1904 – 1912، «مصادر عن تاريخ الرسول محمد» (1902) وغيرها.

وقد حاول أ. كريمسكى فى كتاباته عن الإسلام تحرى الموضوعية، واختلف مع آراء بعض المستشرقين الأوربيين الذين شاهدوا فى الإسلام عائقا أمام تقدم الشعوب الإسلامية. وقد كان لكتابات كريمسكى عن الإسلام دور مهم فى الثقافة الروسية ولاسيما كتابه «تاريخ الإسلام».

والذى ظهر فى عام 1903 والذى تعرف من خلاله أدباء كبار من أمثال ل. تولستوى وم. جوركى على الإسلام. وقد كان لكتاب كريمسكى وغيره من الكتابات التى تناولت الإسلام تأثيرها على الأديب الكبير ل. تولستوي(5).

والجدير بالذكر أن كتاب كريمسكى عن «تاريخ الإسلام» قد أصبح لسنوات كتابا مقررا على طلاب الكلية الشرقية فى جامعة بطرسبرج.

 

التأثير على الأدباء

 ربما يكون نص « مسيرة خلف ثلاث بحار « لمؤلفه التاجر الرحالة أفانسى نيكيتنا من أقدم النصوص التى أشارت إلى الإسلام( ١٤٦٦- ١٤٧٢ ) كتبه أفانسى نيكيتينا خلال زيارته إلى الهند، وايران، وتركيا و الخليج الفارسى« وإلى جانب وصفه للأسواق فى مختلف البلاد التى زارها والبضائع، وأسعارها، أشار إلى مصر، وبغداد وشبه الجزيرة العربية، وقد استخدم اسما مستعارا هو الحاج يوسف خراسانى، وتحدث عن بعض الشعائر الإسلامية، كذلك طعم النص بكلمات عربية مثل: ملك التجار، الكفار، عيد الفطر بعد الصيام، الله أكبر، وغيرها٠

 ومن الصعب هنا تناول العديد من الأدباء الروس الذين تأثروا بالإسلام، وقد سبق أن تناولنا هذا الموضوع فى كتابنا « مؤثرات عربية وإسلامية فى الأدب الروسى « الطبعة الأولى، عالم المعرفة، ١٩٩٩، الطبعة الثانية، الهيئة المصرية للكتاب، ٢٠١٦».

 لعب القرآن الكريم والسيرة النبوية دورا مهما فى الحياة الثقافية – خاصة - فى القرن التاسع عشر فى إطار الظروف التاريخية المحددة للقرن التاسع عشر، حين أصبح القرآن – على حد تعبير الناقد الناقد أ٠ براجينسكى « مصدرا للتعبير عن الأفكار البطولية، والشجاعة الصلبة والنضال المنكرللذات فى الفترة التى سبقت حركة الديسمبريين « (انتفاضة ثورية قام بها النبلاء فى شهر ديسمبر عام ١٨٢٥).

أما السيرة النبوية فقد صارت بالنسبة لصفوة المثقفين ورواد الحركة الوطنية نموذجا للقدوة الحسنة الصابرة على الرسالة والمكافحة فى سبيلها، ولا أدلى على ذلك من كلمات الأديب والثائر الديسمبرى ب٠تشادايف التى أكد فيها على «عظمة» الرسول محمد الذى حمل لواء الدعوة الجديدة التى كان لظهورها الفضل فى ذلك « الغليان الدينى فى الشرق « ب. تشادايف، مؤلفات وخطابات، ج٢، موسكو، ١٩١٤، ص١٦٦-١٦٧»

أولع بالإسلام العديد من الشعراء الروس: ألكسندر بوشكين،م. ليرمونتوف أ٠ فيازيمسكى، أ. شيشكوف، ف. بينداتكوف، ف٠ سولوفيوف، فيت، إيفان بونين، وغيرهم.

إلكسندر بوشكين:

ويعد شاعر روسيا الأكبر أ٠ بوشكين «١٧٩٩-١٨٣٧» من أكثر أدباء روسيا تأثرا بالقرآن وسيرة الرسول.

كان بوشكين فنانا شاملا فقد تطرق فى إنتاجه إلى فنون أدبية متنوعة، فقد كتب القصيدة العاطفية والحماسية، والقصة الشعرية الرومانسية، والمسرحية القصيرة والقصة والرواية الشعرية، كما جسد إنتاجه تطور التيار الأدبى فى روسيا فى ثلاثينيات القرن التاسع عشر.

وذلك حين تحول إنتاج بوشكين عن الرومانتيكية التى ترعرع بين أحضانها ليخطو خطى ثابتة على طريق « شعر الواقع «، وقد عبر هذا التحول فى إنتاج بوشكين عن حركة التيار الأدبى فى روسيا ككل فى الثلث الأول من القرن التاسع عشر.

وقرأ بوشكين القرآن الكريم فى الترجمة الروسية التى أنجزها الأديب فيريفكين وتعرف على الكتابات التى تناولت سيرة الرسول، ويأتى بوشكين فى مقدمة شعراء روسيا الذين استلهموا القرآن والسيرة النبوية، حيث تتبوأ قصائده»قبسات من القرآن»، و «الرسول» مكانة مهمة بين المؤلفات الأدبية الروسية المستوحاة من التراث الروحى الإسلامى والسيرة النبوية.

وفى قصيدة «الرسول» يتناول بوشكين وصف ظهور الملاك جبريل – لأول مرة للرسول محمد، كما تتناول وصفا للمحات من قصص معروفة ارتبطت بسيرة الرسول محمد عليه السلام وذلك مثل قصة شق صدر الرسول، وقصة المعراج، وقد برزت الصورة الفنية المعبرة عن هذه القصص متسقة مع الروايات الإسلامية عنها.

 

 

وقد أثارت قصيدة «الرسول» لبوشكين اهتماماً كبيرا لدى العديد من الشعراء والكتاب، واستمر تأثيرها لأجيال بعده، فقد روى عن حفل افتتاح النصب التذكارى لبوشكين فى عام ١٨٨٠ أن الكاتب الشهير ف. دستويفسكى اختار من بين مؤلفات بوشكين قصيدة «الرسول» وقرأها على الحاضرين «بانفعال وتوتر بدرجة بات من الصعب سماعه» ( ن. تشرنيايف، ص ٨ ).

وفى نفس خطاب ديتويفسكى الذى ألقاه فى ٨، يونيو، ١٨٨٠ فى احتفالية جمعية محبى البديع العربى وفى حضور جمهرة كبيرة ،تساءل دستويفسكى فى إطار اشارته إلى» قبسات من القرآن»: « أليس من يكتب هنا مسلم، أليس هذا روح القرآن وسيفه »

وتبرز مجموعة القصائد التسع التى يجمعها العنوان قبسات من القرآن ( ١٨٢٤ ) كأكبر شاهد على تأثر بوشكين بالتراث الروحى الإسلامي، وبرهان على قدرة القيم القرآنية على عبور آفاق الزمان والمكان.

 وتتبوأ «قبسات من القرآن» مكانة مميزة فى إبداعات بوشكين، فهى بشهادة شيخ النقاد الروس بيلينسكى « ماس يتألق فى إكليل أشعار بوشكين» ( ن.بيلينسكى، المؤلفات الكاملة،ج ٧، ص ٣٥٣ )

 وتعكس «قبسات من القرآن» المكانة المهمة التى أحدثها القرآن فى التطور الروحى لبوشكين، فقد «أعطى القرآن أول دفعة للنهضة الدينية عند بوشكين، ومن ثم فقد كان له أهمية ضخمة فى حياته الداخلية»

(عن ن. تشرنيياف، ص ٥١ )، فضلا عن ذلك فقد كان القرآن « أول كتاب دينى يدهش خيال الشاعر بوشكين ويقوده إلى الدين « ( تشرنيياف، ص ٥٠ )

أثار اهتمام بوشكين بالقرآن اهتمام النقاد واختلفت تفسيراتهم للأسباب التى كمنت وراء هذا الاهتمام، فقد فسر البعض اهتمام بوشكين بالقرآن بالظروف الواقعية المحيطة بالشاعر وإلى وجود تواز بين « الموتيفات المستلهمة عن القرآن وملامح الظروف التاريخية الروسية «، ورأى البعض الآخر « أن تأمل بوشكين فى القرآن كان فلسفيا « من أجل الوعى بدروس التاريخ «، وعلى الجانب الآخر شاهد البعض منهم فى ذلك أسبابا شخصية، فجده إبراهيم هانيبال كان من المسلمين.

ولهذا السبب كان من الضرورى «أن يستشعر بوشكين، تجاه القرآن اهتماما شخصيا خاصا «، فى هذا السياق سأستطرد قليلا لأشير إلى الجذور الشرقية الافريقية لبوشكين، فجده من جهة الأم إبراهيم هانيبال اختطف وهو فى حوالى الثامنة من عمره من الحبشة، وأرسل إلى مدينة القسطنطينية حيث اشتراه السفير الروسى الذى قام بإهدائه بعد ذلك إلى القيصر بطرس الأكبر الذى اصطفاه وجعله من أقرب المقربين، وكان يرافقه فى رحلاته للخارج.

وتركه فى رحلته إلى اوربا لدراسة العلوم العسكرية فى فرنسا، وبعد أن عاد من فرنسا تدرج فى الوظائف العسكرية حتى بلغ رتبة الجنرال وقائدا لسلاح الهندسة العسكرية.

وغير أنه من الممكن أن نستخلص أسباب اهتمام بوشكين بالقرآن من تصريح بوشكين نفسه عن القرآن حين أشار إلى» أن الكثير من القيم الأخلاقية موجزة فى القرآن فى قوة وشاعرية ».

وتجدر الإشارة إلى أن فترة كتابة « قبسات من القرآن « تعود إلى عام ١٨٢٤، ولهذا العام خصوصيته فى السيرة الذاتية لبوشكين وفى طريق تطوره الفني وأيضا فى الظروف الاجتماعية المحيطة به، فمن المعروف عن بوشكين إقامته في عام ١٨٢٤ فى المنفى فى ضيعة ميخائيلوفسكى « إقامة جبرية محددة» مطاردا من السلطة ومراقبا من أقرب الناس إليه.

وبالإضافة إلى ماسبق، فهذه الفترة « فترة لاكتناز الثقافة الشرقية فى وعى الشاعر، فقد تعرف بوشكين على بعض أعمال مؤرخى التاريخ البارزين بما فى ذلك أعمال الألمانى شليجل الذى كان يولى أهمية كبيرة لثقافة شعوب الشرق « ف. روزوف، بوشكين وجوته، ١٩٠٨، ص ٢٦ ».

 وعلاوة على ذلك فعام ١٨٢٤ كان العام السابق لنشوب أول ثورة فى تاريخ الحركة التحريرية فى روسيا فى القرن التاسع عشر: انتفاضة الديسمبريين، وكان بمثابة فترة تحضيرية فى تاريخ الفكر الديسمبرى الذى سبق الإنتفاضة ومهد لها.

تتآلف « قبسات من القرآن من تسع قصائد لا تحمل عناوين ومدرجة بتسلسل الأرقام:

 القصيدة الأولى:

ويسترعى الانتباه فى القصيدة الأولى اهتمام بوشكين باستلهام السور القرآنية التى تتناول جوانب من سيرة الرسول محمد، وهو فى القصيدة الأولى توقف عند لمحة من السيرة مكملة للموضوع الذى استلهمه في قصيدة الرسول، فبعد وهب النبوة للرسول تأتى مراحل الدعوة إلى الإسلام التى يعانى فيها الرسول من مقاطعة الكفار وملاحقتهم له، الأمر الذى لم يثن عزيمة الرسول عن المضى قدما فى الدعوة رغم الأذى.

وإن صورة الرسول المبشر بالعقيدة الجديدة والصابر على الأذى فى سبيلها تتوسط مركز اهتمام بوشكين فى القصيدة الأولى التى تستلهم معانى من سورة «الضحى «، وسورة  التوبة».

القصيدة الثانية:

وتعكس القصيدة الثانية تأثر بوشكين بالآيات التى تدعو إلى آداب الحجاب ونبذ التبرج، والتى تعلى من عفة زوجات الرسول ونزولهن عن الرغبة في التزين والحياة الدنيا مقابل البقاء مع الرسول وبخاصة الآيات الكريمة «٣٢-٣٣ من سورة الأحزاب»٠

 ويبدو استلهام بوشكين لمعانى هذه الآيات من سورة الأحزاب متسقا من نفوره الشخصى من بهرجة النساء فى طبقته الارستقراطية وخروجهن عن الاحتشام، وافتقاد البعض منهن لمعنى الوفاء والإخلاص.

القصيدة الثالثة:

وتعكس القصيدة الثالثة تأثر بوشكين بمعانى الآيات القرآنية التى تدعو إلى التواضع وإلى احترام كرامة الإنسان بصرف النظر عن مكانته الاجتماعية، وكذلك الآيات التى تحض على الدعوة بالموعظة الحسنة، وأيضا الآيات التى تحض على التفكير فيدلائل القدرة الإلهية وزوال متع الحياة الدنيا والتذكرة بأهوال يوم القيامة.

فيستلهم عن سورة عبس الآيات «١-٧» والتى تدعو إلى التواضع واحترام الانسان بصرف النظر عن مكانته الاجتماعية، والآيات التى تدعو إلى الإيمان ونبذ الشك، الذى كان يساور الشاعر بوشكين نفسه الذى سلك طريقا من من الشك إلى الإيمان.

وإن حديث الإيمان يمتد من القصيدة الثالثة إلى الرابعة، وذلك حين يحاول بوشكين تأكيد معنى الإيمان من خلال إستلهام القصص القرآنى.

القصيدة الرابعة :

يستلهم بوشكين من سورة البقرة الآيات (٢٥٧-٢٥٨)التى تحكى قصة النمرود الذى جادل إبراهيم ويؤسس عليها صورته الشعرية التالية، التى نقدم ترجمتنا لها:

معك فى القديم، ياقادر،

 يا عظيم توهم أن يتبارى،

 ممتلئا بالكبرياء المجنونة،

ولكن أنت يا إلهى، أفحمته.

 أنت ( تقول ): أنا أهب العالم الحياة،

 وأعاقب الأرض بالموت

 فيدى مبسوطة على كل شئ.

وأنا كذلك، ( أقول )، أهب الحياة،

 وأعاقب أيضا بالموت:

فأنا يارب، ند لك.

 لكن خيلاء الإثم خفتت

 من كلمتك الغاضبة:

 سأرفع الشمس من المشرق،

 فارفعها أنت من المغرب !

القصيدة الخامسة:

يستمر حديث الإيمان فى القصيدة الخامسة حيث يستلهم بوشكين آيات من سورة لقمان، وسورة النور تدعو إلى فكرة التأمل المادى فى الكون للتدليل بها على موضوع الألوهية، يستوقف اهتمام بوشكين الآية «١٠» من سورة لقمان، وكذلك الآية «٣٥» من سورة النور ويؤسس على معانيهما صورته الشعرية٠

وينطوى المقطع الأخير فى القصيدة على دعوة إلى الإيمان بروح « القرآن الساطع «، وإلى ضرورة الاهتداء « بنور القرآن»  :

إنه الرحيم: قد كشف

 لمحمد القرآن الساطع ،

 فلننساب نحن أيضا نحو النور،

 ولتسقط الغشاوة عن الأعين.

القصيدة السادسة:

وتعد القصيدة السادسة من أهم قصائد « قبسات من القرآن « فهذه القصيدة تعكس جانبا من مكنون خلجات بوشكين فى الفترة التى سبقت الانتفاضة الديسمبرية.

وترتبط القصيدة السادسة فى « قبسات من القرآن « شكليا بقصيدة «الرسول « وبالقصيدتين الأولى والثالثة من القبسات، فقصيدة « الرسول « تتناول وصف « وهب النبوة « للرسول، أما القصيدتان الأولى والثالثة فتتناولان وصف مرحلة الدعوة « بالموعظة الحسنة « فى سيرة الرسول، ثم تتناول القصيدة السادسة مرحلة الدعوة من خلال الجهاد، وهذا الترتيب يعكس فهما من جانب الشاعر بوشكين للمراحل الزمنية المتعاقبة فى الدعوة الإسلامية ممثلة فى سيرة الرسول.

ومامن شك فى إعجاب بوشكين بصورة الرسول المحارب، الذى نشأ في الصحراء البادية يتيما، ثم مضى يدعو إلى رسالته فى ثبات وحكمة،ثم اضطر للحرب حين صارت الحرب ضرورة، وتمكن من جمع شمل القبائل العربية المشتتة ليؤلف منها قوة كبرى امتدت فتوحاتها فى أرجاء المعمورة.

إن روح البطولة الإسلامية تعبر آفاق الزمان والمكان لتجد تربة خصبة لها فى الواقع الروسى فى الثلث الأول من القرن التاسع عشر وتصبح قريبة من « وعى الديسمبريين « وفكرهم.

لقد شاهد النقاد الروس فى استلهام بوشكين لنموذج البطولة الإسلامية تجسيدا ليأس الشاعر من « بطولة الشعوب الأوربية « كما وجدوا فى القصيدة السادسة تجسيدا للإحساس المرتقب من جانب الشاعر بوشكين « بقرب الأحداث الثورية فى روسيا «وقد كان، ففى العام التالى لظهور « قبسات من القرآن « حدثت انتفاضة الديسمبريين الذين ثارت ثائرتهم إرساء لروح العدل والحرية والمساواة بين طبقات الشعب الروسى.

يقتبس بوشكين عن القرآن الكريم معانى الآيات «٢٧ -١٨ - ١٩» من سورة الفتح، والآيات «١٠-١٢» من سورة الصف ليؤسس صورته الشعرية مستلهما معانى الجهاد والفداء بالنفس، وتبشير الشهداء بالجنة و « السخرية» من ضعاف النفس المتقاعسين عن الجهاد.

القصيدة السابعة :

يؤسس بوشكين صورته الشعرية فى القصيدة السابعة على معانى الآيات

(١-١٠) من سورة المزمل: الرسول فى قيامه الليل

القصيدة الثامنة:

وتعكس القصيدة الثامنة اهتمام بوشكين بالصدقة بوصفها ركنا مهما من أركان الإسلام، وتجسيدا لمعانى التكافل الاجتماعى، كما يستوقف اهتمام بوشكين دعوة الإسلام بالنهى عن اقتران الصدقة بالمن والاذى، وبوشكين يؤسس صورته الشعرية فى القصيدة الثامنة على معانى الآيات الكريمة ( ٢٦٢ – ٢٦٤ ) من سورة البقرة التى تدعو إلى الصدقة وتبشر بالجزاء لمن ينفقها، كما تنهى عن المن الذى قد يتبع الصدقة٠

 القصيدة التاسعة:

ويستمر حديث الإيمان فى القبسات فى القصيدة التاسعة، حيث يؤكد بوشكين الايمان من خلال البعث، ويؤسس صورته الشعرية مستلهما عن معانى الآية الكريمة ( ٢٥٩ ) من سورة البقرة، وأقدم هنا ترجمتى للقصيدة التاسعة نموذجا لقصائد « قبسات من القرآن «:

وتذمر إلى الله عابر السبيل المتعب:

فقد أضناه الظمأ والحنين إلى الظل،

وضل فى الصحراء ثلاثة أيام وثلاث ليال،

وأرهق القيظ والغبار مقلتيه

 وبحسرة يائسة استدار حوله،

فشاهد فجأة بئرا تحت النخلة.

فأسرع الخطى نحو نخلة الصحراء،

وبتيار بارد روى فى نهم

لسانه وقرت عيناه شديدتا الالتهاب،

ورقد وغفا قرب حماره الوفى

ومرت فوقه سنوات طويلة

بمشيئة رب السماء والأرض.

ثم أتت للعابر ساعة الاستيقاظ،

فنهض وسمع صوتا خفيا :

« أنمت عميقا فى الصحراء من زمن ؟ «

فيجيب: هاهى ذى الشمس عالية

كانت تسطع البارحة فى سماء الصباح

ونمت عميقا من الصباح حتى الصباح٠

لكن الصوت قال: « آه ياعابر لقد نمت أطول،

انظر: رقدت شابا ونهضت كهلا،

وقد فنيت النخلة، أما البئر الباردة

فقد نضبت وجفت فى الصحراء القاحلة،

وحملته من زمن رمال السهول،

وأبيضت عظام حمارك «

واحتوى العجوز حزن خاطف

وانتحب وهو ينكس رأسه المهتزة …

وآنذاك حدثت معجزة فى الصحراء:

فقد بعث الغابر فى حسن جديد،

ومن جديد تأرجحت النخلة برأسها الظليل،

ومن جديد سرت فى البئر برودة و « شبورة «،

وانتصبت عظام الحمار المتداعية،

واكتسى الجسد، وأصدر النهيق،

وأحس العابر بالقوة، والبهجة،

وتألق في دمائه الشباب المتفجر

وملأ صدره الإنشراح المقدس:

وانطلق مواصلا طريقه مع الله.

وبعد فهذه « القبسات القرآنية » التي أخذت بألباب أعظم شعراء روسيا هى خير شاهد على عالمية « القيم القرآنية « التى تسن السلوك القويم للإنسان، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتدعو إلى الإيمان ونبذ الغرور والشك، وإلى العفة والطهارة، ومؤازرة المحتاج والتكافل الاجتماعى، وإلى الجهاد فى سبيل الحق والفداء بالنفس من أجل الرسالة.

ولقد لجأ بوشكين إلى القرآن بحثا عن المثال الأخلاقى الخاص والقومى العام، ومن ثم فأسباب انجذابه نحو القرآن تكمن فى القرآن نفسه الذى بهره «بقيمه الأخلاقية» حسب تعبير بوشكين نفسه، والتى وجد فيها تجاوبا مع مثاله الشخصى ومرشدا للعلاقة الصحيحة بين الانسان والدين والآخرين، والإنسان والوطن، فاقتبس بوشكين عن « القيم الأخلاقية » قيما -بذاتها - داعيا إلى السعى نحو « نور « القرآن » « الساطع» « ونزع « الغشاوة عن الأعين »٠

 لكن « قبسات من القرآن هي– حقيقة – خليط بين الموضوعى والذاتى فهى ليست « محاكاة « بالمعنى المباشر للكلمة، « فالقيم القرآنية « التى تكتسب وجودا موضوعيا فى « قبسات من القرآن « تنعكس من خلال الجانب « الذاتي» للفنان : بصمته الفنية الخاصة، أسلوبه الشعرى المميز، منهجه الفنى ورؤاه، فبوشكين حين يقتبس « القيمة الأخلاقية « القرآنية يستخلصها من سياقها فى القرآن ليعيد تجسيدها من خلال « الأنا » الداخلية، وعبر مقوماته الفنية بحيث يمكن الإشارة إلى سمة هامة من سمات فن بوشكين وجدت تعبيرا لها فى « قبسات من القرآن « هى « التركيبة الغربية الشرقية فى إنتاج بوشكين »٠

وبوشكين لا يلتزم بتسلسل « المعانى الأخلاقية « كما وردت فى القرآن، بل قد يجمع فى القصيدة الواحدة بين معان من سور مختلفة، وهذه المعانى يجمع بينها فى الصورة الشعرية المعنى الذى يضمره الشاعر ويود الإيحاء به إلى القارئ، وأحيانا قد يدرج تفاصيل لم ترد فى الآية القرآنية التى يستلهمها كما حدث فى القصيدة التاسعة.

و لقد لعب القرآن الكريم دورا كبيرا فى التطور الروحى لشاعر روسيا الأكبر ألكسندر بوشكين، كما كان له تأثير كبير فى التكوين الروحى والفكرى لرواد الحركة الحركة الوطنية الروسية إبان الثلث الآول من القرن التاسع عشر «حركة الديسمبريين» ، كما كان « لقبسات من القرآن « فضل ظهور العديد من المؤلفات الأدبية التى تستلهم من القرآن معانى الفضيلة والإيمان وروح البطولة الملهمة.

ميخائيل ليرمونتوف:

ويعتبر الشاعر الكبير ميخائيل ليرمونتوف «١٨١٤ – ١٨٤١» من أشهر شعراء روسيا، وهو يحتل مكانة تالية للشاعر الكبير ألكسندر بوشكين.

قد لا يكون من قبيل الصدفة أن يأتى ثانى أكبر شعراء روسيا شبيها فى الكثير بسلفه الخالد بوشكين، فليرمونتوف الذى ذاع صيته بعد قصيدته الشهيرة « موت الشاعر ( ١٨٣٧) والتى جاءت كمرثية وكعلامة استفهام حول مصرع الشاعر الكبير بوشكين يعد فى الوقت نفسه الوريث الشرعى لتراث هذا الشاعر الكبير بوشكين فى نضاله من أجل الحرية، ونقده للواقع المعاصر المكبل بالقيود، ومثلما كانت الحرية السبب وراء الموت المفاجئ لبوشكين، فقد كانت هى نفس السبب الذى أودى بحياة ليرمونتوف فى إحدى المبارازات، ولم يكن قد بلغ السابعة والعشرين وهو فى ذروة مجده وشهرته وعطائه،وقدم ليرمونتوف إنتاجا غنيا ومتنوعا، حيث قدم القصيدة الغنائية والقصة الشعرية الرومانتيكية، والمسرحية والرواية.

ويكتسب ليرمونتوف مكانة خاصة فى تاريخ الأدب الروسى، فهو يبرز كآخر وأهم ممثل للاتجاه الرومانتيكى الثورى، ومن جهة أخرى ظهر إنتاج ليرمونتوف معبرا عن المرحلة التاريخية التى كان يمر بها الأدب الروسى فى القرن التاسع عشر وقت بروز المذهب الواقعى، إذ تحول ليرمونتوف الشاعر الرومانتيكى الكبير الذى ترعرع فى أحضان الرومانتيكية إلى التصوير الواقعى للحياة، وانعكس هذا التحول فى وضوح فى روايته الشهيرة « بطل العصر « التى تحتل مكانة مهمة فى تاريخ الرواية الروسية فى القرن التاسع عشر،ربما لم يحتل الموضوع الاسلامى فى إنتاج ليرمونتف نفس المكانة التى شغلها في إنتاج سلفه بوشكين

لكنه وجد انعكاسه فى بعض مؤلفاته، وقد أتيحت لليرمونتف فرصة التعرف على التراث الإسلامى من خلال مسلمى القوقاز الذين عايشهم ليرمونتوف عن كثب، حيث تعرف على الكثير من تعاليم الإسلام ونهجه، فقد ارتحل الشاعر عدة مرات إلى القوقاز الت يسافر إليها عدة مرات للعلاج فى مياهها المعدنية.

ومن خلال مسلمى القوقاز تعرف ليرمونتوف – كذلك – على الكثير من العادات الإسلامية والأعياد الدينية الإسلامية مثل عيد الأضحى ( عن مانويلوف، تاريخ الأدب، ١٩٥٥، ص ٢٦٦).

ويبدو أن تعرف ليرمونتوف على العقيدة الإسلامية كان له عميق الأثر فى نفسه، ففى قصيدة « فاليريك « (١٨٤٠) يشير ليرمونتوف إلى القرابة الروحية التى صارت تربطه بالإسلام فى وقت كانت تشعر نفسه بالوحدة والغربة:

فربما، سماء الشرق

 قد قربتنى بلا إرادة منى

من تعاليم نبيهم

 الحياة تجول دائما. وكذا

 الكد والهموم ليلا ونهارا،

كل شئ يعوق التأمل،

 ويؤدى إلى بدائية

النفس المريضة: القلب ينام،

 ولا يوجد براح للخيال

وقد يكمن وراء هذه القرابة الروحية شوق ليرمونتوف وعزمه على السفر إلى مكة، وهى الرغبة التى عبر عنها فى خطاب لصديقه كرايفسكى ( الخطاب منشور فى المؤلفات الكاملة لليرمونتوف، ج٤، ص٤٣٦)٠

وفى قصيدة الشركسى ( ١٨٢٨) نجد البطل الأمير التركى يعلن لشعبه عن عزمه على إنقاذ أخيه الذى تراءى له شبحه يطلب المساعدة، مؤكدا هذا العزم بالقسم بالرسول عليه الصلاة والسلام:

 إننى لمستعد للموت !

 والآن، أقسم بمحمد

 أقسم، أقسم بالعالم كله !

 فقد حلت الساعة التى لا مفر منها

كما يبدى ليرمونتوف تبجيله للقرآن فى قصيدته « هبات التركى « ( ١٨٣٩) فالهدية القيمة التى يقدمها التركى إلى الشيخ عليها:

آية مقدسة من القرآن

مخطوطة بالذهب

ويظهر بوضوح تأثر ليرمونتوف بالقرآن في قصيدته «ثلاث نخلات » (١٨٣٩) التى تتوازى مع القصيدة التاسعة من « قبسات من القرآن « لبوشكين، فهى تجسد فكرة الإيمان بالبعث بعد الموت.

ومن وحى السيرة النبوية يستلهم ليرمونتوف مضمون قصيدته « الرسول « ( ١٨٤١) التى سبق أن تناولها بوشكين فى قصائده « الرسول «، و « قبسات من القرآن «، وقد أشرنا آنفا إلى أن سيرة الرسول قد لفتت إليها أنظار الكثير من الأدباء بعد أن عرف بها المستشرق بولديريف.

كتب ليرمونتوف قصيدة «الرسول»فى فترة أحس فيها بنفسه شخصا مضطهدا تتعقبه السلطة وتطارده عقابا له على أشعاره الوطنية، ويبدو لهذا إعجاب ليرمونتوف بملمح سيرة الرسول حين قوبلت الدعوة بالنكران والجحود والتنكيل من جانب الكفار الذين كانوا يتصدون للرسول ويتربصون للكيد له والتنكيل به٠

 سأقدم هنا ترجمتى لقصيدة ليرمونتوف الرسول:

 منذ أن منحنى الإله الأزلى

 رؤيا الرسول،

 أقرا فى اعين الناس

 صفحات الحنق والرذيلة.

أخذت أنادى بالحب

 وحق التعاليم الطاهرة:

  فكان أن ألقى الأقربون منى

بالأحجار على فى سخط.

دثرت رأسى.

وهربت من المدن أنا الفقير،

وها أنا ذا أعيش فى الصحراء،

كالطيور يطعمها الله بلا مقابل،

وأنا حافظ على الوصية الخالدة

وتذعن لى خليقة الكون،

وتسمعنى النجوم،

وهى تلهو فرحة بأشعتها

وحين اخترقت طريقى فى عجلة

خلال المدينة الصاخبة،

كان الكبار يقولون للصغار

بضحكة عزيزة النفس:

« انظروا هذا عبرة لكم !

كان متكبرا ولم يتواءم معنا

كان يريد أن يقنعنا

بأن الله يشرع على لسانه

انظروا إليه يا أطفال:

كيف هو متجهم ونحيل وشاحب !

انظروا كيف هو بائس وفقير،

وكيف يحتقره الجميع ! «

فى قصيدة «الرسول» إلى جانب تركيز ليرمونتوف على وصف إيذاء المشركين لرسول الله نلاحظ الوصف «أعيش فى الصحراء كالطيور يطعمها الله بلا مقابل، ألا يذكرنا هذا بالحديث الشريف» لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير … « ( رواه الترمذى )

وقد ظهرت الموتيفات الإسلامية عند ليرمونتوف أيضا فى قصائده التي تستلهم عن القرآن صورة إبليس:

«ابليس»، « عزرائيل »، « ملاك الموت» وغيره.

وفى الفترة الأخيرة من حياته تتضح معرفته وتأثره بالقرآن، إذ يصير الإيمان بالقدر من سمات فكر الشاعر فى تلك المرحلة.

وقد أورد ليرمونتوف فى قصته « الجبرى « إيمانه بدور القدر فى حياة الانسان فى روح الإسلام، فعن الإيمان بالقدر والمكتوب يتحدث ليرمونتوف فى قصة «الجبرى «وهى إحدى خمس قصص تتكون منها روايته « بطل العصر». يقول الرواى فى هذه القصة –والذى أجمع معظم النقاد على التطابق بين شخصيته وشخصية ليرمونتوف –» ذات مرة، بعد ان مللنا اللعب وألقينا بالورق، أطلنا الجلوس عند الرائد س، وكان الحديث طويلا وعلى غير العادة، وكان الحديث مسليا، كنا نتناقش فى العقيدة الإسلامية، التى تقول بأن قدر الإنسان مكتوب فى السماء، فقد لاقى هذا الاعتقاد بيننا نحن المسيحيين الكثير من المعجبين … « ( م. ليرمونتوف، المؤلفات الكاملة، ج ٤، ص ١٣٣ ).

ل٠ تولستوى :

ويعتبر أديب روسيا المعروف ل٠ تولستوى من أهم أدباء روسيا الذين تأثروا بالإسلام. ول. تولستوى غنى عن التعريف، فهو يبرز كواحد من أعظم مشاهير الأدب العالمى الذين نالوا حب الملايين وتقديرهم،

وقد ترجمت أعماله إلى العربية، وكان له تأثيره على الأدباء العرب.ولا تنبع شهرة تولستوى من كونه فنانا عظيما فحسب، بل وبصفته مفكرا كبيرا تطرق فى فكره الى العديد من القضايا الإنسانية العامة والخاصة.

 يحتل الشرق مكانة مهمة فى دائرة اهتمامات تولستوى، واهتمام تولستوى بالشرق اهتماما قديما يعود إلى سنوات شبابه المبكر حين اختار تولستوى اللغتين العربية والتركية تخصصا للمستقبل، ودرسهما لمدة عامين على أيدى أساتذة متخصصين، ثم تقدم فى عام ١٨٤٤ إلى امتحان القبول في جامعة قازان وسجل طالبا للغة العربية والتركية.

أيقن تولستوى منذ بداية طريقه الأدبى الأهمية الفريدة التى يحتلها التراث الروحى للشرق، فأقبل فى نهم على دراسة فكره وفلسفاته. غير أن الاهتمام الرئيسى بالشرق يرتبط عند تولستوى بالأديان، فقد آمن تولستوى بأصالة الفكر الدينى النابع من الشرق، وهو الفكر الذى كان تولستوى يرى فيه حصيلة جامعة للقيم الأخلاقية التى اختبرت لقرون والتى يجب أن تظل الحقيقة الراسخة الوحيدة فى مسيرة الشعوب.

 تبوأ الإسلام مكانة مرموقة بين الأديان التى أقبل تولستوى على دراستها، وقد أشار بنفسه إلى ذلك: « كنت أدرس البوذية، ورسالة محمد من خلال الكتب والناس الأحياء المحيطين بى « ( ل٠ تولستوى، المؤلفات الكاملة، ج ١٦، ١٩٨٣، ص ١٤٥ )

وقد احتوت مكتبة تولستوى الشخصية على العديد من المراجع التى تتناول الإسلام بالشرح والتفسير، منها كتاب المستشرق المعروف كريمسكى.

استحوذت معانى القرآن الكريم على اهتمام تولستوى، كما استأثرت أحاديث الرسول بحبه وعنايته، سيما وأنه وجد فيها صدى للكثير من أفكاره التى كان يؤمن بها ويدعو إليها، ومن هنا جاءت محاولاته للتعريف بالإسلام.

ومن بين محاولات تولستوى للتعريف بالإسلام نشير إلى مقال له قدم به دراسة كتبتها بيرس شقيقة زوجته وتناولت فيها بالتعريف سيرة الرسول، وقد قمت بالاطلاع على مسودة التقديم الذى كتبه تولستوى لدراسة بيرس والموجودة فى أرشيف تولستوى فى المكتبة المركزية فى موسكو، كما اطلعت أيضا على مسودة دراسة بيرس فوجدت بها تصويبات بخط تولستوى الذى لم يكتف بالتقديم للدراسة، بل قام بمراجعتها وتصحيحها٠

وتعد مقدمة تولستوى التى كتبها لمقال بيرس بمثابة مدخل للتعريف بالديانة الإسلامية، وظروف نشأتها، والتعريف بالشعوب التى اعتنقت الإسلام، كذلك يتناول تولستوى بالشرح بعض الشعائر والأعياد الإسلامية٠

ويتصدر كتابات تولستوى عن الإسلام كتيب بعنوان « أحاديث مأثورة لمحمد « وهو كتيب يجمع بين دفتيه أحاديث للرسول انتقاها تولستوى بنفسه، وأشرف على ترجمتها إلى الروسية، ومراجعتها والتقديم لها٠

 وقد أشار تولستوى في صدر كتابه إلى المصدر الذى أخذ عنه أحاديث الرسول وهو كتاب وضعه بالإنجليزية عبد الله السهروردى ( كاتب هندى كان يتبادل الخطابات مع تولستوى  وقد تخير عن هذا الكتاب بعض الأحاديث التى وجد بها « حقائق تتسم بها مختلف التعاليم الدينية ».

يقع الكتاب فى ثلاثة وثلاثين صفحة، تتصدره مقدمة كتبها تولستوى بنفسه،وقد صدر الكتاب عام ١٩١٠ فى موسكو عن سلسلة « المفكرون الرائعون لكل الأزمنة والعصور «، عدد «١٦٢»، وقام بترجمة الأحاديث إلى الروسية المترجم س٠ نيكولاييف.

 وقد اجتذب الكتاب اهتمام واحد من الرعيل الأول للترجمة من الروسية الى العربية وهو المترجم سليم قبعين الذى درس فى مطلع القرن فى مدارس الارساليات الفلسطينية التى لعبت دورا رائدا فى اعداد أول مترجمين للغة الروسية، وقد قام بإنجاز أول ترجمة لكتاب تولستوى « أحاديث مأثورة لمحمد»،وقد صدر قبعين الترجمة بمقدمتين، مقدمة بقلمه، والأخرى مقدمة بقلم تولستوى.

 ودراسة مقدمة تولستوى تساعد كثيرا على فهم الأسباب التي اجتذبت اهتمام تولستوى نحو ترجمة أحاديث الرسول، كما انها توضح - كذلك –التعاليم الإسلامية التى استحوذت على إعجابه.

وأشار تولستوى فى مقدمته إلى عقيدة التوحيد في الإسلام وإلى الثواب والعقاب والدعوة إلى صلة الرحم، ثم انتقل بعد ذلك إلى توضيح بعض تعاليم الإسلام، فأشار إلى الدعوة إلى الزهد وعفة اللسان وتجنب الإغراق فى الملذات، وتمجيد العمل والاجتهاد، والنهى عن الخمر، ويستوقفه بشكل خاص سماحة الدين الإسلام يتجاه الديانات التى سبقته.

ويبرز تولستوى جهاد الرسول فى سبيل الدعوة والمعاناة التى لقيها، واضطهاد الكفار له، ثم ينتقل تولستوى بعد ذلك إلى توضيح فضل الرسول وصحابته وجهادهم فى سبيل الدعوة.

 والمقدمة التى كتبها تولستوى لكتاب « أحاديث مأثورة لمحمد « تؤكد أن معانى بذاتها استوقفت اهتمام تولستوى في الإسلام، وكانت السبب فى إقباله عليه والدعاية له، وهذه المعانى نفسها سوف يعود تولستوى إلى اقتباسها فى كتاباته الفلسفية الأخيرة، ليؤكد صحة أفكاره التى يدعو إليها.

 وقد قدم سليم قبعين ترجمة للأحاديث التى أوردها تولستوى فى كتابه، بعد ان اختصر عدد الأحاديث إلى النصف تقريبا. بالإضافة إلى ذلك ضمن المترجم ترجمته لكتاب تولستوى موضوعات لا وجود لها فى أصل الكتاب بالروسية وذلك مثل ( دعاء النبى، قصيدتان لشوقى وحافظ فى رثاء تولستوى بعد وفاته، رأى تولستوى فى الحجاب والزواج وما بينهما وغيرها»،ومع ذلك فترجمة سليم قبعين تعد – بحق – عملا رائدا فى تجربة الترجمات العربية عن الأصول الروسية٠

 وقد بلغ إعجاب تولستوى بسيرة الرسول حدا كبيرا جعله يفكر في إعداد طبعات شعبية لكتاب يتناول حياة الرسول. كذلك فكر فى « إعداد كتيب مختصر عن سيرة الرسول وأعماله للأطفال الروس.

فلاديمير سولوفيوف

ويعتبر الأديب والفيلسوف والمفكر الدينى فلاديمير سولوفيوف «١٨٥٣-١٩٠٠» من الأدباء الروس الذين تأثروا بالإسلام، وكتبوا عنه، وقد تناول في دراسته البيوجرافية التى صدرت عن سلسلة « حياة الناس الرائعين»، وحملت العنوان « محمد - حياته وتعاليمه الدينية « التعريف بسيرة الرسول والإسلام، كتب فى مقدمة الدراسة: « يعتبر محمد والرسالة التي أسسها على درجة كبيرة من الأهمية فى المصير العامة للإنسانية.

وبما أن الكاتب ينشغل بالفلسفة الدينية وفلسفة التاريخ ليس فى حاجة إلى تبرير خاص لكونه رغم أنه ليس بمستشرق يتناول شخص وقضية الرسول العربى. ولكى اسلم من الأخطاء الطبيعية المتكررة فى مثل هذه الحالة توجهت لطلب النصيحة والتوجيهات من أكثر مستعربينا المشهود له بسعة علم من الدرجة الأولى والمقترنة بالاهتمام الحى بالقضايا العامة. وارى أنه من دواعى الواجب أن أعبر عن عرفانى العميق تجاه الأكاديمى البارون روزين على مشاركته اللطيفة بعملى».

ويشير سولوفيوف إلى قراءته للقرآن والمصادر التى تناولت سيرة الرسول: « كان المصدر الرئيسى لهذا العمل هو القرآن الذى رجعت إليه فى ترجماته المختلفة القديمة والحديثة، كذلك رجعت إلى المصادر التى تناولت سيرة محمد والعرب فى زمنه.

 وقد تناولت الدراسة العديد من الموضوعات: الإطار التاريخى لظهور الرسول، نشأة الرسول وسيرته، دعوته الدينية،موقف الكفار المعارضين للدعوة، الإصرار على الدعوة، تأثير الدين الأسلامى فى فترة الخلفاء، جوهر الإسلام، علاقته بالديانات الأخرى، تعاليم الإسلام، الايمان والاعمال الطيبة، وغيرها٠

ايفان بونين

 ويعتبر الشاعر والكاتب الكبير إيفان بونين «١٨٧٠ –١٩٥٤» من أهم الأدباء الروس الذين تأثروا بالتراث الإسلامي، وهو أول أديب روسى يحصل على جائزة نوبل، وقد حصل عليها فى المهجر فى فرنسا، التى هاجر إليها بعد ثورة أكتوبر عام ١٩١٧، بعد أن رفض الثورة.

إنسابت مؤلفات بونين الأخيرة فى فترة المهجر فى فرنسا بعيدا عن مجرى الأدب السوفيتى، ومع ذلك فإنتاج الأديب بونين قبل المهجر «نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين» يشغل مكانة مميزة، وقد أشار الشاعر الكبير تفاردوفسكى إلى بونين بصفته « آخر الكلاسيكيين الروس».

وبونين هو – بحق – المتوج للفترة الكلاسيكية من تاريخ الأدب الروسى (عام ١٩١٧ بداية التاريخ الأدبى السوفيتى )، وقد جسد إنتاج بونين بجلاء سمات الفترة الانتقالية من تاريخ الأدب الروسى: فترة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقد عكس هذا التيار فى جلاء حركة التيار الأدبى المتذبذب بين الحفاظ على تقاليد الواقعية النقدية وبين الانجذاب نحو اتجاهات التحديث التى رفعت شعارها تيارات المودرنيزم.

 ويعد ايفان بونين من أكثر الأدباء الروس. اهتماما بالشرق العربى الإسلامي، فقد كان بونين على حد وصف الأديب الكبير مكسيم جوركى « يمتلك جاذبية موروثة تجاه الشرق « ( م جوركى، الوؤلفات الكاماة فى ثلاثين جزء،ج٣٠، ١٩٥٥، ص ١٤٦).  وبوحى من هذه الجاذبية زار بونين مصر، وفلسطين، والأردن، وسوريا ولبنان، والجزائر.

ومن الواضح أن اهتمام بونين بالإسلام كان كبيرا، فهو يستلهم الإسلام فى العديد من قصائده، وأيضا فى استطلاعاته الأدبية. وأعمال بونين التى يجد الأسلام بها صداه تدور حول المحاور التالية: سيرة الرسول محمد «ص»  وشعائر الحج والصلاة فى الإسلام، والمدن العربية التي اختصها القرآن بالتكريم وارتبطت فى الأذهان بمقدسات المسلمين وعلى رأسها مكة، وكذا المساجد الإسلامية الشهيرة.

وبداية، لم يستمد بونين معلوماته الإسلامية من زياراته إلى البلاد العربية فحسب، بل درس الإسلام والقرآن «عن ب. دانتسينج، الشرق الأوسط فى العلم الروسى، ص ٣٧٤ ».

ونستهل الحديث عن الإسلام  فى إنتاج بونين بقصيدته « محمد مطاردا « وهى القصيدة التى يتناول فيها مدى المعاناة التى تحملها الرسول فى سبيل الدعوة، وهى نفس اللمحة التى استهوت سلفه الشاعر ليرمونتوف فى السيرة الذاتية للرسول.

 وفى إطار الاهتمام بسير الأنبياء يستلهم بونين عن القرآن قصة إيمان سيدنا إبراهيم فى قصيدته  «إبراهيم « ( ١٩٠٣).

وتحظى أركان الإسلام بعناية بونين، وتجتذبه – على نحو خاص –فريضة الحج التى يتوقف عندها فى أكثر من قصيدة له، فمثلا نجده يصور فى قصيدة « علامات الطريق « ( ١٩٠٥ )، قوافل الحجاج المسلمين فى مسيرتهم عبر الصحراء، يرتحلون ليلا فيسخر الله لهم النجوم تضيئ لهم الطريق، وتحول قوافل الحجاج الصحراء المقفرة إلى أماكن مأهولة بالحياة والحركة.

وفى قصيدة « المقام « يرسم بونين صورة شعرية لحجاج مكة المكرمة السعداء برحلة الحج إلى مكة طمعا فى الدعاء المستجاب وسعيا إلى تصفية النفس فى رحلة الحج الروحية، كذلك تعكس القصيدة فهم بونين الصحيح للمكانة التى خص بها القرآن « مقام « إبراهيم.

ويستكمل بونين الحديث عن مكانة الحج ورغبة الحاج فى الجزاء فى قصيدته « الحاج « التى يرسم فيها صورة شعرية براقة لصلوات الحاج، وملابسه، ولحظات الانقطاع للعبادة.

وإلى جانب تصوير سعى الحاج نحو الجزاء ترسم الصورة الشعرية لقصيدة بونين « الحاج « أبعاد لحظة روحانية من الخشوع والابتهال الذى يسود كل شئ، بما فى ذلك النجوم فى السماء.

ويستهوى الحجر الأسود فى الكعبة المشرفة الخيال الإبداعى لبونين فيرسم له لوحة فنية فى قصيدة «حجر الكعبة الأسود «، التى تعكس فهمه لمكانة الحجر الأسود، وتصور تدفق الحجاج وتزاحمهم على حجر الكعبة، حيث تنساب قلوبهم المثقلة « بالشوق «، لكن الحجرالأسود « هبة الله « التى لا تقدر والصامدة كثلج جبلى فى أيام الشمس لا تتأثر إلا بدموع الناس الخاشعين المبتهلين.

وتعكس الصورة الشعرية « للحجر الأسود « فى قصيدة بونين فهمه الصحيح لمكانة الحجر الأسود عند المسلمين، وارتباطه باسم سيدنا إبراهيم.

 ويستخدم بونين فى قصيدته « الحجر الأسود « كلمة « جنات « بلفظها العربى.

 كذلك اجتذب وصف الجنة فى القرآن اهتمام بونين وأثار خياله الإبداعى، فكتب قصيدته « الكوثر « التى يصدرها بالآية الكريمة « إنا أعطيناك الكوثر «.

وسأقدم هنا ترجمتى لقصيدة بونين « الكوثر « ( ١٩٠٣)

«الكوثر »

« إنا أعطيناك الكوثر»

 « القرآن»

هنا مملكة الأحلام. عند آلاف الأميال غير مأهولة

 مالحة شطئانها العارية.

 لكن المياه بها: زمردية سماوية،

أما حرير الرمال فأنصع بياضا من الثلج.

وفى حرير الرمال شيح رمادى الزرقة

ينميه الله للقطعان الرحل.

لكن السماوات هنا زرقاء فوق العادة،

والشمس بها: كلهيب جهنم، سقر

وفى ساعة الوهج، وحين السراب البللورى

سيمزج العالم كله فى حلم واحد عظيم،

فى بهاء لا نهائى، وراء حد الأرض الحزينة،

إلى حدائق الجنة – يحمل هو الروح.

وهناك ينساب، هناك ينهمر خلف الضباب

نهر الأنهار كلها، الكوثر السماوى اللون،

والأرض كلها، والعشائر كلها، والبلدان

سيغمرها السكون. اصبر، صل – وآمن.

وتعكس قصيدة « الكوثر» معرفة بونين بالقرآن،فهو يصدر القصيدة بآية من القرأن، ويستخدم كلمتا «الجنة»، و«لكوثر» بلفظيهما العربيين، كذلك يأخذ عن القرآن وصف لهيب جهنم « بسقر» الذى يكتب بنطقه العربى.

ويتضح اهتمام بونين بيوم « القيامة»، « والبعث»  فى قصيدة «التراب المقدس»، كذلك يستوقف اهتمام بونين فريضة الصلاة في الإسلام، فيرسم لها صورة شعرية في قصيدة « تنغمس الشمس ».

وفى قصيدته « ليلة القدر» يرسم صورة شعرية لليلة القدر يصدرها بمقتطف من الآية الكريمة « تنزل الملائكة والروح فيها… »، وتعكس القصيدة فهمه للمكانة الكبيرة التى خص بها القرآن ليلة القدر. سأقدم هنا ترجمتى لقصيدة « ليلة القدر «

« ليلة القدر»

« تنزل الملائكة والروح فيها»

« القرآن»

ليلة القدر. تآلفت القمم وتمازجت

  ونصبت عمائمها أعلى نحو السماء

 أذن المؤذن، وماتزال قطع الجليد

تدخل فى الأرجوانى

 ويتنسم برد الظلام من المضايق، والوديان

ليلة القدر. بالمنحدرات الجبلية المظلمة

ماتزال تهبط السحب فى طبقات

أذن المؤذن، وأمام العرش العظيم

ينساب النهر الماسى، مدخنا

وجبريل – غير مسموع وغير مرئى

يطوف العالم النائم. ربى بارك

الطريق غير المرئى للحاج الطاهر

وامنح أرضك ليلة السلام والحب.

 والقصيدة السابقة التي يصدرها بونين بمقتطف من آيات سورة القدر توضح حرصا من جانب بونين على إبراز فضل هذه الليلة « ليلة السلام والحب « التى ينزل فيها جبريل إلى الأرض، وذلك فى إطار من الرؤية الذاتية للطبيعة المتأهبة لاستقبال هذه الليلة العظيمة: إنها ساعة الغروب التى يضفى فيها الغروب لونا ارجوانيا على كل شئ حتى على قطع الجليد الناصعة البياض، وتنحدر السحب فى طبقات، وفى هذه الليلة الروحانية الجليلة تتآلف قمم المساجد ترقبا لمشهد نزول الملائكة إلى الأرض، وأمام العرش السماوى ينساب النهر الماسى ( على ما يبدو يقصد نهر الكوثر) إنها ليلة رائعة من الصفاء والإنسياب فى حركة الطبيعة والملائكة فى عالم الأرض والسماء.

 وبشكل عام تعكس قصائد بونين المتأثرة بالإسلام اهتماما من جانبه بفريضتى الصلاة والحج في الإسلام، وتظهر إعجابه بالأماكن الإسلامية المقدسة، أما عن معانى القرآن الكريم، فقد استوقفه– بخاصة – أفكار البعث والحديث عن الحياة الأخرى والدعوة إلى الإيمان، واتسمت القصائد التى تستوحى الإسلام بالخصائص المميزة لمؤلفاته الشعرية، فالقصائد تعكس ولع بونين باستلهام المنظر الطبيعى. كذلك تكشف قصائد بونين التى تستوحى الإسلام عن محاولة تطعيم القصيدة بمفردات لغة البيئة العربية والتى تكتب فى نطقها العربى، كما تشهد القصائد على معرفة بونين العميقة بالقرآن والكتابات الإسلامية.        

والخلاصة أن تأثير الإسلام على إنتاج الأدباء الروس كان له مكانته الملموسة،  وقد سبق هذا التأثيراستيعاب نشط لعناصر الثقافة الإسلامية،مهدت لها عوامل جغرافية وتاريخية أشرنا إليها آنفا، فضلا عن نفاذ عناصر الثقافة الإسلامية عبر قنوات عدة: حركة التجارة القديمة، كتابات الحجاج والرحالة والمستشرقين المستعربين التى عرفت بالإسلام، وقدمت ترجمات للقرآن الكريم وسيرة الرسول عليه السلام. علاقة الجوار والتفاعل مع مسلمى القوقاز.

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة