صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه


انتصار عبد المنعم تكتب: قطار النيل.. وحكاية الإنسان

أخبار الأدب

السبت، 15 أبريل 2023 - 04:08 م

 يستقل الملايين حول العالم القطارات في رحلاتهم، لا يخطر على بالهم أن القطار نفسه خاض رحلة طويلة إلى أن أصبح القطار فائق السرعة الذى يستقلونه اليوم.. فمنذ اليوم الذى مثل فيه «ستيفنسون» أمام البرلمان الإنجليزي وأخفى حقيقة سرعة قطاره البالغة 20ميلا في الساعة، عملا بنصيحة محاميه، قائلا إن سرعته لا تتعدى 12 ميلا في الساعة، خوفا من اتهامه بالجنون، والقطار يشغل الجميع، تارة خوفا من المارد الحديدي، وإعجابا به تارة أخرى.

وبرغم أن أعضاء البرلمان وقتها شككوا فى صحة عقل ستيفنسون واقترعوا ضد اقتراحه بمنحه ترخيصا بمد سكة حديد، إلا إنه فى عام 1821 نجح فى قيادة قطاره فى مباراة للسرعة بسرعة 15 ميلا فى الساعة، ثم فصل القاطرة من القطار فبلغت سرعتها 35ميلا فى الساعة، وسط دهشة الجميع.

قصة القطار، يحكيها الكاتب الصحفى «محمود الدسوقى» فى كتابه « قطار النيل.. حكاية الإنسان والآلة 1856 1945م»، تناول فيه قصة القطار المصرى منذ نهايات القرن التاسع عشر.

اقرأ ايضاً| د.مكارم الغمري يكتب: الأدباء الروس والإسلام

وحتى منتصف أربعينيات القرن الماضي. فى 19 فصلا، يلفت «الدسوقى» انتباه القارئ ويجذبه لسماع حكايات القطار مع الإنسان تحت عناوين لافتة مثل: الجن يحرك الآلة، النبوءة والعم رشوان، ودانت الأقطار كأنها دار، لعنة الفراعنة والقطارات، الإضاءة تدخل الوابور، جاموسة تتسبب فى انقلاب قطار والمهندس إيفل فى ورطة، القطار السلحفاة 25ساعة للوصول إلى أسوان، شيال فى محطة ينقل الكوليرا، قطار حافظ إبراهيم وسيارة أحمد شوقى، صعيدى يستقل القطار لإنهاء الحرب العالمية الثانية وغيرها.. والكتاب لا يبحث عن تاريخ الوابور«القطار» فقط، لكنه يهتم بالإنسان وحكايته مع القطارات الخشب والفحم حتى قطارات الديزل، عن أرواح السابقين المجهولين، وعن نضال الشعب المصرى لجعل مرفق السكة الحديد مصريا خالصا، أى يهتم بالتاريخ الإنسانى للقطار وتأثره بأحوال الحكام والسلاطين..

يذكران «الدسوقى» قصة ظهور أول قاطرة بخارية فى العالم عام 1781فى إنجلترا والمسماة باسم صانعها«مردوك» مساعد العالم الكبير جيمس وات، وتطور صناعة العربات والقضبان وتحولها من مادة إلى أخرى ومن تصميم إلى غيره حتى ظهور قاطرات شركة «استفينسون وشركائه عام 1825».

والتى افتتحت بها أول خط حديدى فى العالم، وعندما رأى الإنجليز القطارات البخارية فى بادئ الأمر، ظنوا أن الجن يحركها.. وتوالى التطوير ومد شبكات السكك الحديد داخل إنجلترا، ثم فى أمريكا عام 1830. وفى عام 1852 أنشئ فى مصر أول خط سكة حديد فى إفريقيا والشرق الأوسط.

وتم إنشاء الجزء الأول من الخط بين الإسكندرية وكفر العيس على الشاطئ الغربى لفرع رشيد عام 1853، واكتمل خط القاهرة عام 1856، وتوالت الخطوط يواكبها حركة التحديث والتطوير للقضبان، وبقيام الحرب العالمية الثانية 1939 تدهورت سكة حديد مصر، واستمر الحال حتى عام 1952لتبدأ خطة التطوير.. وإذا كانت مصر استوردت القطارات من أوروبا، فقد صبغت مصريتها فى تعاملها مع الآلة.

يحكى الكاتب «محمود الدسوقى»  كيف أقنع البريطانيون الخديو عباس الأول، بمد خطوط السكك الحديدية، فى تحد للسلطان العثمانى الذى رفض المشروع من قبل، ليتدخل السفير البريطانى فى إسطنبول، وتنجح مساعيه فى الضغط على السلطان العثمانى ليصدر فرمانا بإنشاء سكة حديد مصر فى نوفمبر 1851، وبدأ العمل الفعلى به فى 1852، وعهد إلى المهندس «روبرت ستيفنسون» ابن أخى مخترع القاطرة البخارية بمد الخط.

وكان الإشراف المباشر على هذا الخط لمهندسين مصريين، تعلموا الهندسة فى مصر وأوروبا، إلى جانب الجنود والبحارة المصريين. يذكر «الدسوقى» تفاصيل مهمة عن عباس الأول، ورغبته فى الاستقلال عن السلطان العثمانى، وعن جهوده فى البدء بإنشاء أول خط سكة حديد فى مصر وفى إفريقيا والشرق الوسط، كذلك عن حكمه للبلاد ونهايته المأساوية نتيجة المكائد..

وإن تحدث «الدسوقى» عن قصة الآلة، فلم يغفل  أبدا قصة الإنسان. ففى عام 1806، أى بعد 46 عاما من إنشاء أول خط سكة حديد، ولد العم رشوان إبراهيم، فى أوائل تولى محمد على باشا حكم مصر، وعندما قارب عمره الخمسين.

والتحق بالعمل فراشا فى قطار الخديو عباس الأول، ليكون من أوائل المصريين الذى عملوا فى هذه المهنة، وعاش العم رشوان 117 عاما، وتوفى فى عام 1923..  عمل العم رشوان على القطار البخاري، وتعامل مع الأمراء والضيوف وقناصل الدول، وعاصر موت عباس الأول، وقطار سعيد باشا ذى العربة الواحدة، والخديو إسماعيل والقطارات الخديوية، وافتتاح قناة السويس، ودار الأوبرا، والخديو توفيق والثورة العرابية، وتوقف القطارات واستيلاء الأجانب على السكة الحديدية، وغيرها من أحداث كبيرة مثل الحرب العالمية الأولى. كل هذه الأحداث عاشها العم رشوان إبراهيم، يتغير الأمراء والسلاطين، وتبقى علاقته مع الآلة لا تتغير، وابور سعيد باشا الحزين وأول حادث قطار.

وفى ربط بين طبيعة الآلة وشخصية الإنسان، وفى قالب سردى تتوالى حكايات القطار المصري، وامتداده بين المدن. يذكر «الدسوقى» مجموعة من الأحداث ارتبطت باسم محمد سعيد باشا، الابن الرابع والمحبوب لمحمد على باشا من زوجته عين الحياة قادن، ويذكر صفاته الشخصية، وقدرته على اتخاذ القرارات، وسرعتها.

وتلك المزية فى شخصيته كانت سبب قراره فى أن يجلب قطارا فائق السرعة، رغم عدم وجود قضبان وطرق مهيأة لهذا النوع من القطارات، كذلك عدم مناسبة الطبيعة لتسييرها، فالعواصف الرملية والأتربة شكلت عائقا كبيرا، رغم أن مئات العمال كانوا يقفون على جانبى الطريق لإزالة الرمال.

وفى ربط ثان بين القطار والسعيد، يذكر أن مصير القطار كان تعيسا مثل سعيد الذى مات شابا عن عمر 42 متأثرا بالسرطان عام 1863.. ورغم عمره القصير، فقد تمكن من تنفيذ وإكمال خطوط السكك الحديدية عن طريق نظام السخرة ليعمل أكثر من 12 ألفاً من العمال المصريين لتحقيق حلم سعيد باشا فى افتتاح أول خط سكة حديد فى مصر، ثم فى تنفيذ حفر قناة السويس،وتم لأول مرة إنشاء كوبرى عند بنها عام 1856، لعبور القطار فوق النيل والاستغناء عن الاستعانة بالناقلات لنقل القطار من جانب إلى آخر، وتوالى بعدها إنشاء الكبارى ليصبح الطريق ممهدا بغير انقطاع لعبور القطارات دون الحاجة لتحميلها على عبارات أو ناقلات. ومن المعلوم أن حادثة قطار تسببت فى تغيير وراثة العرش فى مصر، بسقوط القطار الذى كان يقل وريث العرش «أحمد باشا رفعت» شقيق إسماعيل باشا.

والذى تولى حكم مصر بعد ذلك، فقد صادف وصول القطار إلى كوبرى كفر الزيات، أن الكوبرى كان مفتوحا لعبور السفن، ولم ينتبه سائق القطار لذلك، ليسقط القطار فى النيل ويغرق وريث العرش وكل من كان معه..

وتنتقل حكايات القطار من سعيد باشا، ليستكملها «الخديو إسماعيل» ويسهب «الدسوقى» فى سرد مشاريع إسماعيل النهضوية رغم ما اشتهر به من بذخ، ويذكر اهتمامه بالرحلات الاستكشافية ورسم الخرائط الجغرافية، وظهور الترام فى القاهرة عام 1865، وتمتد خطوط السكك الحديدية، وتظهر القطارات الخديوية، ويستكمل حفر قناة السويس ويتم افتتاحها فى عهده، وكيف استسلم لضغوط نوبار باشا الذى خدعه وجعله يقترض من بيوت المال الأوروبية مبلغ مليونيين من الجنيهات الاسترلينية بضمان السكة الحديدية وثلاثة ملايين بضمان ممتلكاته الخاصة، ويذكر توحش شروط نظام السخرة فى عهده، حيث كانت كل قرية ملزمة بتقديم 80% من سكانها كى يخدموا الحكومة بلا أجر ولا مقابل لمدة 4 أشهر فى السنة، ليعملوا فى شق الطرق وغيرها من مشاريع ترتبط بافتتاح قناة السويس وشق طريق إلى الأهرامات من أجل الأمبراطورة «أوجينى»...

يستكمل«محمود الدسوقى» سرده لتاريخ قطار النيل وعلاقته مع الإنسان فى حكايات متصلة، عن التنافس بين القطارات والسيارات، وشعراء وقعوا فى هوى القطار، وآخرون وقعوا فى هوى السيارة، عن الحكايات الشعبية للقطار، ومذكرات لمهندسين فى السكة الحديد المصرية، جميعها لا تخلو من الدهشة والإعجاب بالتاريخ الإنسانى لأول خط سكة حديد فى مصر والشرق الأوسط وإفريقيا، منذ أن عارض قيامه السلطان العثماني، إلى أن أصبح واقعا بأيدى المصريين الذين اعتبروا أن: القطار إحدى المعجزات، وكان حين يسير يقوم الأهالى بالتكبير والنساء بالزغاريد، ووزع المصريون التبغ ونحروا الذبائح، وأقاموا المآدب العامرة بالطعام له...

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة