هدى الشوا تكتب : عطور البرابرة
هدى الشوا تكتب : عطور البرابرة


هدى الشوا تكتب: عطور البرابرة

أخبار الأدب

السبت، 29 أبريل 2023 - 12:06 م

يقولون إن امرأة جاءت فى سفينة خشبية من نجد فى نهاية القرن التاسع عشر، تزوجها أحد رجال الجزيرة الموسورين، ولمّا لم تحمل شيّدت مقاماً على أنقاض معبد وثنى بالقرب من صخور الساحل ادّعت أنها رأت حلماً خاطبها فيه رجل حامل عصا، فأسمته مقام الخضر، وتسرّب النبأ بأن أرض المقام تضم رفات أحد الصالحين.

قالوا إنه فى نهاية ربيع ذلك العام، عندما ألقتْ بطن الأرض بحملها وتفجّر النوير الأصفر، استقبلت الجزيرة مركباً بأشرعة منتفخة بنسمات المساء، يجدفه رجل وامرأة مسربلة بعباءة سوداء تجلس إلى جانبه، يتكلمان الفارسية أو لغة بلوشستان، سارا بخط على طريق متعرج مفروش ب أعشاب البحر نحو مدخل المقام المتوج بقبّة، كأن رخّاً قديماً قد وضع بيضته فوق القاعدة الأسطوانية الحجرية. دخلت المرأة، بينما انتظرها الرجل فى الخارج، ثم ركبا حماراً طاف بهما بين بيوت الطين وأشجار البنك. 

اقرأ ايضا

 مارجريت أتوود أنا مفتونة بـ «الثورة الفرنسية» 

وفى العصر، تجمعت النسوة عند مدخل المقام، ثم جاء أحدهم بسلم خشبى أثبته بمحاذاة القبة البيضاوية، تعالت أذرع النساء وقد بسطن أكفّهن المخضبة بالحناء يمسدنها على الجدران البيضاء الملساء، يتمتمن بهمهمات وقد رفعن أيديهن فى ابتهالات. من داخل المقام تصاعدت أبخرة ثقيلة، عبقت برائحة العود والمر والكافور.

وعندما جن الليل، وارتفع قمرٌ بدا كجمجمة متآكلة تحرس السماء، أمسكت ثلاثٌ منهن بقرنى خروف يتمرغ زاحفاً على الدرب متقوقعاً مقاوماً أجله المحتوم، أخذن يدَى المرأة فغمسنهما بدماء الذبيحة الدافئة، ودمغن بيديها جدران المقام، فاح مزيد من أبخرة ثقيلة من المجامر الفخارية، وتعالت تمتمات وهمهمات وأدعية فى لحن مع جنادب الليل. رحلت النسوة، وبقيت الأصابع الحمراء تلوّح من بعيد، تمد يدها مصافحة كف سماء الليل. 

ولما عادت المرأة فى الربيع المقبل كانت تحمل طفلاً رضيعاً، وانتشر نبأ فأل المقام لمن تأخر حملهن، فأخذن يجئنه خلسة بقوارب خشبية من المدينة أو زمراً من أماكن بعيدة، ينحرن القرابين ويسفحن دم النذور، ويعلقن أكواماً من البوص، وحبالاً من القواقع والأصداف والمحار، وأشرطة حرز ملونة يدسسنها بين ثنايا الحجر وشقوق الصخر. 

مرت السنون.. والمقام أصبح مزاراً أنثوياً، وفي ذات يوم ربيعي، حط وفد أتى من اليابسة؛ رجال ببذلات عسكرية، وشيوخ ببشوت صوفية، وثلة من جمعيات دينية، يلبسون النُعُل. قال لابس البشت، وقد وقف على عتبة المقام:

 أفعال مشينة!

وقال صاحب اللحية والعمامة والعصا وهو يمصمص شفتيه:

 بدع وخرافات!

وقال لابس البذلة العسكرية، وقد خرج من عتمة المقام وفتحات منخاريه ترتعش باستياء:

 إنها عطور البرابرة!

واحتكموا إلى أمير الجزيرة، فأصدر عريضة.

وفى صباح يوم مشمس، والأرض قد اشتعلت زهراً برياً أحمر، كجروح صغيرة فوق طين الأرض، شقت المياهَ مراكبُ تحمل جرافات صفراء بدت ككائنات خرافية جامدة وهى تقترب من الجزيرة، والماء يفور ويغلى من حولها، عندما أنزلوها، استيقظت من سباتها العميق، ودّبت فيها الحياة، فتقدمت هادرة بثقلها، تدك الأرض مزمجرة.

ويلمع فولاذ أسنانها غضباً، أحنتْ الأعشاب الطرية رقابها تحت العجلات الهادرة، وأفسحتْ الزهور البرية لها الطريق لتنقضّ على المقام كتنين وحشى فاغرٍ فكيّه منشبٍ أنيابه ومخالبه المعدنية، ممزقٍ الجدران، مهشمٍ قبة بيضة الرخ. ظلّ الباب الخشبى عصياً لوهلة قبل أن يستسلم لسطوة التنين، ويقذف ألواحه العتيقة.

وتحت سماء غير مبالية بنزيف الحجر، وقف لابس البذلة العسكرية، حفيد المرأة التى شيّدت المقام، على ركام الأنقاض  تناثرتْ أشرطة الحرز الملونة بتوسّلات أصحابها، وتطايرت همسات الخرق الخضراء التى كانت معقودة على المقام المسكون كريش الطيور المهاجرة العابرة، تحملها الرياح العابثة فوق امتداد البحر.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة