خالد النصرالله يكتب : يأتى من بعيد
خالد النصرالله يكتب : يأتى من بعيد


خالد النصرالله يكتب: يأتي من بعيد

أخبار الأدب

السبت، 29 أبريل 2023 - 01:28 م

حفاة ولا أتذكر كيف كنّا نفعل هذا.. وأحياناً فى ظهيرة شهر أبريل، يحاول أبى أن يمنعني. بعد الغداء يطوف البيت كلّه، يقفل الأبواب جميعاً. المطبخ. الباب الرئيس. الخلفي. الصالة الرئيسة. ويحاول أحياناً سحبى للنوم فى غرفته.

لديّ فروض دراسية، «حجة، هروب» ، وفى الطابق الثاني، لدى نافذة غرفة الخادمة، أعمدة سياجية – كما جميع النوافذ – تمنع الخروج أو الدخول منها. كان أحد الأعمدة يتحرك قليلاً لأحد الجانبَين، تتسنى المسافة لرأسى أن يمر. عند الخروج هناك سور معلّق – ديكور – يمتد طولاً مسافة قدم ونصف القدم.

المهمة هى السير جانباً وظهرى يلتصق بالحائط دون أن أنظر للأسفل. أحبس أنفاسي، حتى أصل إلى نهاية السور، عندها، يكون سطح مرآب البيت قريباً. أقفز عليه، ومنه إلى حديقة المنزل.

اقرأ أيضاً| استبرق أحمد يكتب: ما لم تَرْوِهِ الأدلِّةُ

الخروج من البيت بهذه الطريقة، لابد وأن تكون دون حذاء، «أحذيتى رهن غرفة أبي.. حتى غروب الشمس» ، حفاة، ليست هناك أيّ مشكلة. فى العادة، أنا وصحبتي، نلعب كرة القدم فى المواقف الخاصة بالمدرسة القريبة، دون أحذية، اعتادت أقدامنا العارية على ترويض الكرة. ترانا نستخدم الأحذية لتحديد المرميين.

الإسفلت قاس، الحرارة ملتهبة، هناك حصى متناثر يوخز الأقدام، أو بقايا زجاجة بيبسى مكسورة. نحاول قدر المستطاع، أن نتحاشى دعس تلك الأشياء.. قدر المستطاع.

وعلى الجانب الأيمن من مواقف السيارات – الملعب – هناك مسجد، وبعد الانتهاء من اللعب، يكون محطة استراحتنا. نشرب الماء، نغسل أرجلنا فى صنابير الوضوء، يدب حماس آخر خاص بنقاش مجريات المباراة.

ولو نظرت فى أخمص قدم كلّ منّا، لوجدتها جلفة، متشققة، سوداء، كريهة، مجرّحة، مواضع منها مشوهة، يحتقن الدم فى أجزاء منها. أظافرنا، منها صفراء، أخرى سوداء، حادة، ترى فى بعضها آثار كسر، لو ضغطته لانفصل جزء الظفر عن الأصبع.

وسوف أعود عند مغيب الشمس، الخادمة تخرج حتى تشعل أضواء المنزل الخارجية، تستغرب عودتي، فتنتصب سبابتى أمام شفتيّ، لا تخبرى والدي، حفاة. ولا أتذكر كيف كنّا نفعل هذا، شارع الملك فهد بن عبدالعزيز – الكويت – باتجاه الشاليهات، تتوارد الذكريات تباعاً، بينما أقود هرباً، إلى الصفاء، مصاحبة الحرية، قذف الهموم..الاكتئاب. حالة يبدأ صنعها فى الصغر، نتيجة فوضى، تظهر نتائجها عند الكبر.

القمع، الحبس، قفل الأبواب، فقدان الثقة، كل تلك الأشياء كانت بمثابة عقاب أتعرض له دونما ذنب. التمرد عليه، يودى بعقاب آخر ومن جنس مختلف، الضرب، الشتم، البصق، الصراخ.

والدي، لم يفلح يوماً فى ملاطفتي، حتى حينما يبدى ذلك، تكون حيلة غايتها المنع. كل ذلك ربما سأتمكن من تجاوزه.

«تجاوزه.. يقتضى تجنب أبي»

أما الهاجس المزعج. ذكريات الشجار المتكررة، الصراخ لا يكاد ينفد من المنزل. الجدران أصابها الصدع، المرافق أصيبت بالهلع. الأسباب تافهة. عيناى تكتفى بمراقبة المجزرة، إلى أين سيؤول المصير؟

وأحياناً، يمتد الشجار حتى الفجر. فى يوم ضاقت بى السبل، هربت من المنزل، من النافذة ذاتها – نظراً لانشغال الخادمة بشجارهما – المشى جانباً على السور، فالقفز فوق المرآب، ثم الحديقة. جريت ناحية المسجد - هذا ما خطر فى بالى - اختبأت فى زاوية إلى حين أذان الفجر، عندها دخلت، وجلست مقرفصاً خلف أحد الأعمدة. غلبنى النوم.. وصحوت حين أذان الظهر.

هلعاً، أدركت الوقت، فعدت إلى المنزل جرياً. دخلت من الباب الخلفي، استقبلتنى الخادمة.. شَهقت.. وأخذتنى من ذراعى إلى المطبخ، أراحت وجهى بكفيّها، ومسحت على صدري..

أين كنت!؟

مازالت الصدمة تملؤني..

فى المسجد..

أمسكت بذراعى وأخفتنى خلف ظهرها. دخلت إلى المنزل، وتوقفت عند باب الصالة حيث.. يجلس أبي..

لقد عاد.. كان خائفاً وذهب إلى المسجد..

نهض أبى واقترب..

أين هو؟

نبرته تكاد توقد ناراً..

أرجوك سيدي.. لا تؤذِهِ. سآخذه إلى غرفتي.

دفعها جانباً، فظهر جزء مني، كنت أمسك بثوب الخادمة وأحاول البقاء خلفها. بدت أمى تنزل من الطابق العلوي. شعرت بكف أبى تقبض على ذراعي، سحبنى ناحيته بقوة.. أخذت كفه الأخرى تهوى حيث أماكن عشوائية من جسدي.. واحدة على رأسي، وأخرى ظهري.. ثم بدأ بمحاولة صفعي، لكننى كنت أخفى وجهى بذراعى الأخرى..

تحاول الخادمة منعه دون جدوى.. والدتي.. لا أدرى أين هي؟

«الخادمة.. أكثر شفقة»

أَسمَع: أشغلتنا بالبحث عنك يا كلب..

النبرة مشحونة بالضغينة..

-لم نترك جيراناً.. ولا مركز شرطة.. فضحتنا..

هاجس مزعج. يتكرر كثيراً فى منامي، العقاب جرّاء الهرب من الألم - الآلام بأجناسها - منزلنا مركز تعذيب، لو أبلغت رجال الشرطة عنه..

تلك المشكلات مازالت تتكرر، رغم الذقن والشوارب التى نبتت، رغم خوضى المرحلة الأكاديمية.. ولن تنتهي.

يتبقى عشر دقائق حتى أصل إلى الشاليه..

وبرغم أن أقدامنا تنزف أحياناً، نتيجة دعس زجاجة، أو حصاة مدببة، إلا أن الألم لا يطغى على متعة اللعب.

بتغيّر الزمن، تغيّر الملعب، وتغيّرت طريقة اللعب.

انتقل الملعب إلى الساحة الترابية على أطراف المنطقة. مرميان حقيقيان، بقائمَين وعارضة، تحديد خطوط الملعب بزيت الديزل، أقدامنا لم تعد تركض عارية، صرنا نستعرض الأحذية الرياضية الجديدة.

أقدامنا بدت أكثر طراوة، منظرها أكثر صحة، ما عادت خشنة، جلفة، تتعرض للنزيف بين الحين والآخر، ما عادت الأظافر ذات المنظر البشع.

أثناء اللعب، أشار أحد الأصدقاء: أوه.. « لاكى».

كلب مجهول الهوية، بدا بتواجده الدائم فى المنطقة مألوفاً لدى الجميع. لا نعرف حتى الآن، من أطلق عليه هذا الاسم – لاكى – كل ما ندركه أن هذا الكلب صديق الكل، ورغم أننا ليس المأوى الحقيقى له، إلا أنه ليس مشرداً، بإدراكنا واعتيادنا مشاهدته، بصحته ومتانة عزمه، وكأنه الحارس العام للمنطقة،«هل «لاكى» كلب أم كلبة؟».

غالباً. يجلس بجانب فرع الجمعية. مسترخياً. تراه يفتح نصف عين، يضع ذراع فوق أخرى، ويريح عليهما أسفل فكه، إذا كان الجو لطيفاً، يتأرجح ذيله، وكأن أغنية ما تتردد فى ذهنه. أما فى الأيام الحارة، ترى كافة أعضائه مستسلمة، لا يقوى حتى على طرد ذبابة تحوم أعلى رأسه.

هذا فى حالة الشبع.. أما لو كان جائعاً..

تراه عند كل باب بيت مفتوح، ينظر إليه بعينيه السوداوين، وشعره البنى الكث المتسخ، يجلس رافعاً قامته، يخرج لسانه الغارق باللعاب، متخشباً كتحيّة جندي. لا يتحرك من مكانه قبل أن يحصل على شيء. أهالى المنطقة لا يبخلون عليه بتاتاً.

لاكى يأتى من بعيد، يخرج لسانه، يشم الحصى، يبحث عن شيء ما..

-ما الذى أتى به إلى هنا..

تساءل أحدهم.

ظل يقترب منّا، حتى أصبح داخل الملعب، مرر أحدهم الكرة إلى ناحيته، فوقف يرقبها، وحينما اقتربت، دفعها برأسه، وتحوّلت نحوي..

فضحكنا جميعاً..

>>>

غداً عطلة. الخميس.

مازالت الساعة الثامنة مساءً من يوم الأربعاء، بداية تعيسة لنهاية أسبوع.

فى الشاليه. ربما سأتمكن من محو الأفكار الكئيبة. مخلفات الشجار ومشكلات المنزل، لا تُلقى إلا فى سلّتي.

سلّتى لم تعد تسع أكثر من المهملات التى خلفها أبى فى الصغر. أصبحتُ أتقيّأ الهموم فى البحر، ملاذى السرّي. لا علم لأحد بملكيّتى لنسخ من مفاتيح أبواب الشاليه. فى السابق كان المسجد ملاذ خوف، اللجوء إليه جريمة، العودة منه عقاب.

الآن.. إدارة محرّك السيارة، أمر كفيل بعزلى عن العالم الأسود، الوصول إلى الشاليه علاج محكم، لإعادة تأهيل مقْعد أفاق من شلله.

الجلوس على رمال الشاطئ أمام البحر، أول ما يدفع به ذهني. الاستلقاء، مصير محكم فى ظل الوحدة. الأفكار. صوت الأمواج. الظلام. رأسى يتكئ على كفّي، مرفقى مغروس بالرمال.

هذه الرمال، تظل طفلة طيلة حياتها، تتشكل بحسب تعاملنا وإياها. ليتنى كنت رملاً.

تمتد ساقي، يتعرى جزء منها، ألمح بقعة لأثر لم يمحه الزمن. يقفز فى رأسى سؤال، ما سبب هذا الأثر؟ وهل يمحى من الذاكرة شيء، أبقاه الزمن؟

لربما، البقايا التى خُلفت فى جسدي، أنست ذاكرتى كل مدعاة ألم.

رِجل كرسى مكسور. العصا. سلاح مذنب تسبب فى رسم عالم من الكدمات، جسدى لوحة تجارب. بدأتُ أكشف أجزاء متنوعة من جسدي، بينما ذاكرتى تلوح بالمواقف المتسببة. باب حمّامي، يقابله نافذة كبيرة، غالباً ما تترك مفتوحة إلى المنتصف، أحياناً حين الخروج من الحمّام، تهب رياح قوية من النافذة، تدفع الباب ليغلق بقوة. ما إن يحدث هذا، أتوقّع بقيّة الحدث، والدى يكره الأصوات العالية.. كم مرة قلت لك أن تغلق الباب برفق.

التبريرات لا تجدى نفعاً، أهو يخاف أن يكسر الباب، أم يزعجه الصوت الناتج عنه؟

جسدى يتأهب للألم، وتتأهب الخادمة للدفاع، كل المؤشرات تودى بعقاب جديد، تفاصيل وجهه، صوته المشبع بالضغينة. عيناه المتسعتان. اقترابه مني. تأهب الخادمة. العصا فى يده.

لكنك حمار.. لا تتعلم بالكلام.. هذه ستعلّمك.

يبرز العصا.. ويبرز الألم.

«الغضب على تهشم باب.. بينما عظامي»

أمى تأتى متأخرة..

هواء البحر، نسيج علاج نفسى وبدني، تمر الساعات دون إدراك – نسبيّة الزمن – أدخل إلى الشاليه لأغفو، حتى أشعر بالأمان.. تلك حاجة مفقودة.

صحوت. لم تشرق الشمس بعد، أضأت الغرفة، الساعة تؤكد: الرابعة فجراً،لكنها تقترب من الخامسة.. عيناي. لم تستوعب كم الضوء الذى اقتحمها، أنتبه لموضع قدميّ، ألمح ذلك الأثر مجدداً أسفل ساقي.. صحيح.. ما الذى خلّف هذا الأثر.

رحت أتفقد الثلاجة، تفاحتان حمراوان ملقيتان بإهمال، قنينة ماء ربعها فارغ. تناولت تفاحة، لست مهتماً كفاية بصلاحيتها للأكل،غسلت وجهى مراراً. تناولت القنينة، جرعت كميات مياه.. حد فائض عن الاكتفاء.

أجلس على الأريكة. أنظر إلى النافذة المواجهة للبحر، المنظر مريح للغاية، الدقيقة تعادل ساعة فى هذا المكان.

أعود الآن؟

أخذت كفايتى من الهدوء.

نعم.. أعود الآن،وأجلس خلف المقود، أدير محركها، قدمى تضغط دواسة البنزين،والقدم فى الساق نفسها ذات الأثر، وفى طريق العودة. الهدوء. عقلى انسجم مع أجواء السيارة.. الهدوء..الاستيعاب.. الشعور بالتجديد..ساعتي: السابعة والنصف..بداية شهر أغسطس، الشمس عجولة فى مثل هذه الأيام. ترسل بأشعتها الحارقة باكراً.

أصادف آليات عسكرية عديدة فى الطريق – ليست بالعادة – لا أعتقد أن هناك مناسبة ما، وليس هناك طارئ ما؟ كلما اقتربت نحو مدينة الكويت!

هناك أمر ما.. كيف لى أن أعرف؟

فتحت الراديو، أعبث بالموجات قليلاً.. لحظة.

أهذه آليات عسكرية كويتية؟

عندما دفع الكلب الكرة برأسه ناحيتي. ضحكنا، نبح مرة.. ثم أتبعها باثنتين.. واندفع نحوي، ظننته يريد أن يلهو معي.. حتى اقترب، دون إدراك، أو فرصة للتصرف. انقض على ساقي.. وعضها، حذائي، عمل على حماية قدمي.. لكن ساقي.. ومازال الأثر.


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة