فناء يمتد وغيمة عابرة
فناء يمتد وغيمة عابرة


جاسم الشمرى يكتب: فناء يمتد.. وغيمة عابرة

أخبار الأدب

السبت، 29 أبريل 2023 - 01:45 م

أتلمس الجدار بيدين عاريتين .. طلاؤه تهدل .. وعلى امتداده تظهر بعض الشقوق .. غير أنها شقوق سطحية لم تؤثر بعد على صلابة حجره ولم ينفذ منها الضوء إلى الداخل، وعلي بناء محكم هذا الجدار يمتد إلى ارتفاع شاهق .. وطوله ضوءان وحلكة .. هكذا كنت أقيس مرور الزمن إذ لا يمر علىَّ فى فناء هذه المساحة إلا ضوء ساطع أو ظلمة حالكة ... وعليه حينما أردت معرفة طول هذا الجدار رحت أمشى بمحاذاته ولم أصل إلى طرفه القصى إلا بعد ضوءان وحلكة . والحق أقول إن التعب أنهكنى وربما نمت ضوءا أو ضوءان دون أن أشعر .

وأصدقكم القول بأنى لم أكن أريد معرفة طول هذا الجدار اللعين .. ولا يهمنى ذلك أصلا ، وإنما كنت أبحث عن منفذ منه إلى الخارج .. عند الطرف القصى هناك لم أجد إلا جدارا آخر .. وعند طرف الجدار الثانى وجدت يدى العاريتين تصطدمان بجدار ثالث وهكذا حتى عدت إلى موقعى الأول .. أربعة جدران تحيطنا من كل صوب .. أما موقعى الأول فلم استدل عليه إلا من صوت جدتى العجوز حينما سألتنى عما كنت أفعله طيلة خمسين ضوءا وتسعا وأربعين حلكة مضين، وكنت أبحث عن منفذ للخروج يا جدتى، وضحكت العجوز طويلاً.. وأشارت إلى بقعة غير بعيدة عن هنا.

اقرأ أيضاً| فيصل الحبيني يكتب: أوحى الإنسان لنفسه

وهناك لفظ جدك أنفاسه وهو يحاول جاهداً فتح كوة فى هذا الجدار للخروج من هنا ذات حلكة .. وغير بعيد عنه استلقى والدك تعباً وأسلم روحه بعدما احتضن جذع شجرة يابسة .. وفى الضوء التالى كنت مرمياً إلى جواره وكان هو جذع شجرة يابسة ، وخرفت هذه العجوز .. قلت فى نفسى .. وأظننى سأفقد عقلى كذلك إن لم أخرج من هنا.

وعلى الجانب الآخر من الجدار أسمع جلبة .. أرخى أذنى فلا يصل إليهما إلا أصوات متداخلة .. طرق وصراخ .. وأحيانا ضحكات ما تلبث أن تتحول إلى بكاء ونحيب .. وهل هى لشخص واحد .. أطلق صرخة من أعماق حنجرتى فلربما وصلت إلى هذا الكائن على الجانب الآخر .. يرتد إلى الصدى مستهزئا ألا أحدا هناك .

أعود لتلمس الجدار لعلى أعثر على منفذ أو بقايا مخرج ، سألت جدتى ذات ضوء : كيف وجدنا هنا يا جدتى ؟

وكأنما أعدتها إلى زمن بعيد إذ أغمضت عينيها وأسندت رأسها على وسادة من طين وبعد انتظار ، فتحت عينيها فرأيت فيهما بريق صدق لا يخفى .. وقالت لى :

قال لى جدك ذات حلكة ، إن غيمة عابرة حملته من أرض لم يعد يذكر تفاصيلها وألقت به هنا.. فى أول الأمر استهواه الفناء.. بنى له ظلاً هناك وأشارت إلى كوخ قديم.. وفى مساحة قريبة زرع جانباً من الأرض ليسد جوعه، وبعد زمن لم يحسب ضوءه وحلكته، شعر بالوحدة، رفع نظره إلى الأعلى وإذ بغيمة عابرة تلقى إليه بفتاة صغيرة.

وكنت أنا هى.. أطعمنى وعشنا سويا ولما انحنى ظهره أنجبت له أباك.. كانا يذرعان هذا الجدار جيئة وذهابا وظل جدك يدور حول نفسه أضواء وحلكات يبحث عن مخرج إلى أن وسد رأسه جانب تلك البقعة بعدما ظن أنها مخرج تنفذ به إلى الجانب الآخر من الجدار .. وغفا.. طويلا يا بنى ولم يزل.

وماذا عنى يا جدتى ؟

أعادت إلى تفاصيل ما قالت من قبل .. ولم أصدقها هذه المرة ..

قالت لى :

ولدت من جذع شجرة .. بل من طين أرض سقاها والدك قبل أن يغفو.. وحينما استيقظنا صباحاً كان قد غفا هو.. جذع شجرة يابسة لا أكثر.. وأطلقت أنت صرختك الأولى،وكانت كفاى تطبقان على معول صنعت يده من جذع شجرة يابسة .. هويت به على نقطة فى هذا الجدار المتهدل .. رأيت بصيص ضوء .. كانت الحلكة قد أرخت بأسدالها هنا .. فرحت أن سيكون هذا هو المخرج .. قلت : سأغفو قليلا وأكمل ما بدأته الضوء اللاحق .. حينما أطل الضوء اللاحق وجدت إلى جوارى جذع شجرة يابسة .. وطفل أطلق صرخته الأولى ... ولم تكن العجوز فى أى مكان بهذا الفناء الممتد.

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة