حمود الشايجى يكتب : طفل يلعب بين نقاط التفتيش
حمود الشايجى يكتب : طفل يلعب بين نقاط التفتيش


حمود الشايجى يكتب: طفل يلعب بين نقاط التفتيش

أخبار الأدب

السبت، 29 أبريل 2023 - 01:56 م

كنا أطفالًا سعداء، لم يمنعنا الخوف عن فعل ما نريد، وفى الوقت الذى نريد. الساعة لا دور لها فى حياتنا اليومية خلال فترة الغزو ما دمنا مسلحين باللعب، مع احتفاظنا بكلمة سرية كحرز يعمى الجنود عنا: «الله يساعدك» بالعامية العراقية.

بعد أن تراوحت صور تلك الحقبة بين ذاكرتى وقلبي، مع مرور 29 عامًا على الاحتلال، لم تفلح تلك الكلمة السرية فى انتشالى من براثن المستشفى الذى دخلته لاعتلال ألَمَّ بقلبي.

وحقيقة، لا أدرى ما الخلل الذى أَلم بي، فدقات قلبى لم تستوعب قوة ذاكرتى عن أيام الغزو، التى كنت خلالها طفلًا فى التاسعة من عمره، يقضى أغلب وقته لاعبًا ب الكرة وبدراجته الهوائية.

سرعة توارد الصور جعل عدد نبضات قلبى تصل إلى ما يزيد على 160 نبضة فى الدقيقة مع عدم انتظامها، حتى إن الأطباء جهدوا لمعرفة السبب الذى كنت أنا على يقين منه: إنها صور الغزو.

اقرأ ايضاً| خالد النصرالله يكتب: يأتي من بعيد

وهل أكتب الحكاية؟ سألت نفسي، وسرعان ما توصلت إلى الجواب: إذا لم تفتك بى الصور فسأحكى شيئًا منها، وإلا فسأُدفن معها، هذا هو القرار، وهذا ما جعل الصور تهدأ وتدع مسافة بينى وبين الصاعق الكهربائى الذى قد يلجأون إليه لإعادة قلبى إلى انتظامه.

الخميس: الثانى من أغسطس 1990

كنا نتسابق أنا وأخى عبد الله على الاستيقاظ المبكر يوم الخميس، ففى الأغلب هناك صيد مما تبقى من عشاء الليلة السابقة، والصيد ليس وفيرًا، لذا نعتمد مبدأ «من سبق لبق»،وهذه المرة، كنت أنا الفائز فى هذا السباق كما اعتقدت، وفى العادة الفائز فينا يكون هو وصيده وحيدًا.

ولكننى فوجئت بوالدتى قد سبقتنى وحضَّرت الإفطار بهدوء تام. «اليوم الخميس؟»، تساءلتُ، فالعادة أكون أنا أو عبد الله من يسبق الجميع فى الاستيقاظ. لا يهم أى الأيام اليوم، لكن على أن آخذ صيدى وأجلس أمام التلفزيون لأرى رسومى المتحركة قبل الجميع.

والمفاجأة أن لا رسوم متحركة، بل صورة لا أعرف صاحبها، رجل يرتدى بدلة وله شارب كث ويبتسم، وبعض الألعاب النارية خلفه. انزعجت كثيرًا من أجل رسومى المتحركة، وانزعاجى ظهر علي. سألتُ عن الرسوم، فردت والدتى بكلمات لم أفهمها: «غزو»، «احتلال».

وبعد أسبوع واحد من الغزو، تراجع الغازى عن رغبته فى الانسحاب. عرفت معنى «الغزو والاحتلال»، شاهدته فى التلفزيون، رأيته فى وجوه الجنود أصحاب الأسلحة التى كانت تشبه أسلحة رامبو.

ولكن أن تكون فى وسط التجربة ليس كأن تكون خارجها. كان المعدن الأسود يسبب الرعب بحد ذاته، تهديدًا لم أشهده من قبل بشكل مباشر، تهديدًا من الممكن أن يأخذك من هذه الدنيا فى أى لحظة، أو يأخذ منك أى عزيز.

والحفلة الكبرى بدأت، فرحتى لم تسعني، انتقلنا من بيتنا فى منطقة القرين التى تفتقر إلى الخدمات وسبل الاتصالات لكونها فى ذلك الوقت منطقة جديدة، إلى بيت «بابا يعقوب»، جدى من ناحية والدتي.

وهذه الفرحة لم تكن طويلة المدى، فالبهجة لم تعد كما كانت فى بيت جدي، هناك وجوه تضحك وتغني، وهناك دموع مخفية، لا يُحكى لنا عنها. كل الأمور حيكت لتكون مبهجة، لكن دون بهجة، فصوت الرصاص تحول إلى أصوات ألعاب نارية، وصوت القنبلة صار انفجارًا لعلبة مشروب غازى أحرقت مع النفايات بطريق الخطأ.

الخميس: 27 سبتمبر 1990

«بابا جابر» على التلفزيون، الكل متسمر فى محله يشاهد بترقب، جدى لم يكن مع الجميع، عزل نفسه، وبحثت عنه، تسللت إلى غرفته، رأيته متسمرًا كما الآخرين أمام تلفزيونه الخاص، ينظر إلى الأرض وأذناه معلقتان بصوت يأتيه: «جئت إليكم حاملًا رسالة شعب أحب السلام..».

وبهذه الكلمات استطاع الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد أن يخطف قلوب العالم، وليس قلوب أهله وناسه فحسب. التصفيق الذى جاء بعد الكلمة، وبكاؤه خلال الكلمة، هزَّ جسد جدي، وجفَّف حلقي. 

مسح جدى براحة يديه دموعه أكثر من مرة، تحيرت، ماذا أفعل؟ هل أرتمى فى حضنه أم أنسحب وكأننى لم أرَ شيئًا؟

الوقت المعدوم والكلمة السرية

محمد وعبد الله، تعرفت إليهما فى المسجد، لم أكن أعرف أيًا منهما. محمد ليس ابن فريج (حي) بيت جدي، كان يسكن فى الفريج الذى خلفنا، أما عبد الله فبيته يبعد مسافة بيتين من بيت جدي.

الكرة جمعتنا فى البراحة، الساحة الرملية التى أمام بيت «بابا يعقوب»، منذ أن نصحو إلى أن تغيب الشمس، وبعدها نجتمع حتى الفجر فى بيت محمد، نلعب فى حوش (فناء) بيتهم بالدراجات الهوائية والأراجيح حتى يؤذن الفجر.

وهذا جدولنا اليومي، أنا وأخى عبد الله ومحمد وصديقنا عبد الله، حتى أخى فهد الذى لم يكن قد تجاوز السنتين، ولا يُخل بهذا الجدول إلا بعض الأمور التى كان علينا فعلها، مثل الوقوف لساعات أمام المخابز أو الجمعيات، لأخذ أكبر عدد ممكن من الخبز المحسوب لكل فرد، فلقد كنا نذهب كلنا لتكون الحصيلة كافية لأيام، لا أحد يدرى بأى يوم سيُقطع عنا الخبز.

ولم يكن هذا الجدول غير مبرر، فالمراد هو دب الحركة الدائمة بين البيوت طوال الليل، وهذا ما قد اتفق عليه رجال الفريج وأتمته النساء فيه. حتى تجمُّعنا فى بيت محمد صديقى لم يكن دون سبب، كان لحماية والده، الذى غيَّر اسمه من أنور إلى محمد لإخفاء شخصيته العسكرية، واتفقنا ألا نخبر محمد صديقنا بمعرفتنا بذلك.

وقد طُرق الباب علينا ونحن فى الحوش، فتحناه، رجل عراقى بلباس مدنى (بدلة سفارى بيضاء)، شاربه الأسود الكث كان يميزه، وخلفه جنديان. سأل عن أنور، وأجبناه مجتمعين بأننا لا نعرف أى أنور فى البيت، هز رأسه، إلى أن جاء والد محمد بنفسه، وسألوه عن هذا الشخص الذى يدعى أنور، لكنه نفى معرفته به. والد محمد كان واحدًا من أصحاب الرتب الرفيعة فى الجيش الكويتي، استطاع أن يتنكر بلحيته وزيادة وزنه المفتعلة.

وأما عن الكلمة السرية «الله يساعدك» فهى الحرز الذى كنا نتخذه أمام أى جندى عراقى نواجهه وأسلحته، خلال الانتقال اليومى من فريج بيت جدى إلى فريج بيت صديقنا محمد، ومع وجود مدرسة تستقر على سطحها مجموعة من الجنود، يراقبون حركة الأرض والسماء فى الوقت ذاته، برفقة مضاد الطائرات المثبت على سطح المدرسة.

ولم نمر يومًا دون أن نلقى على الجنود تحيتهم، حتى لو لم ينتبهوا إلى مرورنا، وعند انشغالهم عنا لأى أمر كنا نصرخ فيهم بنزق الأطفال: «الله يساعدك».

عسل سوق المسجد الأقصى

شارع المسجد الأقصى، الشارع الفاصل بين منطقتى سلوى والرميثية، على امتداد ضفتيه توزعت البسطات فيه بشكل منتظم، بسطات حمل أصحابها جنسيات عدة. هذه البسطات كوَّنت ما يشبه السوق الدائم الذى كنا نجد فيه ما نتوقعه وما لا نتوقع. 

لأن البيع والشراء كان بالدينار العراقى كما أُمر أهل السوق، فكثيرًا ما كان يشهد السوق عمليات ابتزاز ونصب من الجنود بالذات، والسبب يعود إلى أن الدينار الكويتى يعادل خمسة أو ستة دنانير عراقية، والجندى العراقى يدعى أن الدينارين متساويان، فكان يشترى بديناره ويبيع على البسطات الأخرى ما قد اشتراه، وأحيانًا يعيد بيعه على صاحب البضاعة الأصلى بفارق السعر بين العملتين، مستعينًا بسلاحه الأسود الذى يحسم الموقف لصالحه.

واجتمع الجميع فى هذا السوق: العدو والحبيب، الجنود الذين يفرضون نقاط السيطرة على الشارع الكبير نسبيًا رغم أنه شارع داخلى يفصل بين منطقتين، والأحبة من بعض الأهل والجيران الذين افترقنا عنهم وجمعتنا بهم الظروف عند إحدى بسطات السوق، لكن هذا السوق مثلما جمَّع سيفرق. 

وكنا أنا ووالدى وزوج خالتى نجول فى السوق بحثًا عن عسل استطعنا الحصول عليه، ولم أعلم سبب البحث عنه إلا عندما وصلنا إلى بيت جدي، فقد جلس جدى وخالتى ووالدتى فى المطبخ وعيونهم مصوبة ناحية زوج خالتى الذى راح يدهن وثيقة جنسيته وجواز سفره بالعسل، أراد أن يمحو شيئًا من المعلومات بها كونه ضابطًا فى سلاح الطيران، وقرر الرحيل بخالتى وأبنائه إلى السعودية، فوجوده خطر عليه وعلى الجميع كما كان يردد.

وتمت العملية، اختفت ملامح معلوماته التى فى الجواز والجنسية، كما تمت عملية خروجه من الكويت بنجاح، واختفت ملامحه وملامح خالتى وأبنائها معه.

ليلة الثالث من ديسمبر 1990

وثم تدهورت صحة جدي، قلقه الكبير على الجميع أضعف قلبه الضعيف فى الأصل، فإحدى خالاتى دخلت شهر ولادتها، وفى أى لحظة يمكن أن يأتيها المخاض. أين ستلد وكيف؟ لا أحد يدري.

وطُرح موضوع الخروج من الكويت، وحدث شد وجذب بين الجميع، بين من كان يؤيد الفكرة ومن يعارضها، فاتفقوا على تأجيل الفكرة وعدم الخوض فيها من جديد لما تسببه من خلاف كاد يسبب تشابكاً فى الأيدي، وهذا ما أصاب كل أطفال البيت بالذعر، فإن كنت لا تشعر بأمان خارج بيتك أمر، وألا تشعر به بداخل بيتك هذا أمر آخر. 

ولأول مرة شعرت أن الغزو دخل بيتنا، لأول مرة شعرته يكسر أمورًا مقدسة وهى علاقتنا ببعض، أنفاسى خُطفت، تمنيت أن يوضع حد لما يحدث، فكان التأجيل هو الحل الذى وضعه جدي، وكان هذا التأجيل مشروطًا بأن يحدث أمر يجبر الجميع على الخروج. 

ولم يعلم أحد أن هذا الإجبار سيأتى سريعًا. عندما خرجنا مع والدتى فى ظهيرة الثانى من ديسمبر، وقبل أن نعود إلى البيت قررتْ أن تزود سيارتها بالوقود، أوقفها الجنود عند مدخل المحطة، سألها أحدهم عن سبب عدم تغييرها لوحات سيارتها من الكويتية إلى العراقية، مؤكدًا لها أنه غير مسموح لحاملى اللوحات الكويتية بالحصول على الوقود. صاحت والدتى فى وجهه: «لن أغير لوحات سيارتى حتى لو اضطررت إلى استبدال الماء بالوقود».

وهذا التطور غير المتوقع هو الذى حسم الموضوع بالنسبة إلى جدي، فقرر عن الجميع: سنخرج من الكويت خشية القادم من التطورات، وكان أحد هذه التطورات قلقه الكبير على والدتى التى تفقد أعصابها عند كل نقاط التفتيش.

والقرار لم يناقَش، بدأنا التحضيرات. نساء البيت كان عليهن جمع ما يملكن من ذهب وتجهيز الملابس وبعض الأكل. الرجال مهمتهم غريبة بعض الشيء، وهى فك إطارات السيارات التى سنتركها فى الكويت، وإخفاؤها فى أماكن خفية داخل البيت.

وتم نقلُ الإطارات أخذ وقته وإرهاقه معه، والمهمة التالية للرجال كانت البحث عن أماكن فى السيارات لتهريب الذهب، فتفتق ذهنهم عن وضعها فى أبواب ومقاعد السيارة.

وقد نجح ما خُطط له، وبقيت ساعتان على صلاة الفجر، الجميع ذهب ليقضى ساعاته الأخيرة فى الكويت، انتهت الصلاة، الجميع فى سيارته إلا جدي، أغلق باب بيته وتوجه إلى السيارة، وضع دواء قلبه تحت لسانه، وسار يتبعه الجميع.

«غُريبة» الثالث من ديسمبر المنقذة

اعتدت هذا الطريق، فهو ذاته الذى كنا نسلكه إذا ما أردنا أن نذهب إلى الشاليه، وهو ذاته الذى سلكناه العام الفائت للذهاب إلى السعودية، ومن ثم إلى البحرين ودبي، هو الطريق ذاته لكن بمشاعر مختلفة، فيها الكثير من اللا أدرى التى واجهتنى مع كل سؤال. إلى أين نحن ذاهبون، ومتى سنعود، إلى أن جاءنى الجواب الحازم: «اسكت». توقفتْ أسئلتى الخارجية وصارت أسئلة داخلية.

وعندما جاء صوت والدتى بهذا الأمر كانت تريد أن تركز فى ما يحدث، فقد توقفت سيارة جدى التى تسبقنا، وتوقفنا خلفها. «سيطرة»، قال خالى عند ظهور نقطة توقيف عراقية، وهو الذى كان يقود سيارتنا دون أن يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، بسبب عدم السماح للمرأة بقيادة السيارة فى السعودية، ولأن والدى يعانى من ضعف حاد فى بصره، فلم يكن أمام الجميع إلا اختيار خالى الأصغر ليؤدى هذه المهمة.

ثلاث ساعات ولم تتحرك السيارات ولا من فيها، الحركة ممنوعة، ولا أحد يدرى ما الذى سيواجه لو عصى ما أُمر به. خالى وإخوتى عبد الله وفهد وأنا تتعلق أعيننا باتجاه الشاليه، أعتقد أن الصور التى دارت فى أذهاننا كانت واحدة: لعب الكرة، البحر، حفلات الشواء، الأغانى والرقص. ربما كلنا نتذكر آخر ليلة لنا فى الشاليه قبل أسبوع من الغزو، أعتقد أننا كلنا تذكرنا مفارقة رقصنا بشكل هستيرى على أغنية كاظم الساهر «عبرت الشط على مودك».

وجاء جندى بطرف سبابته يقرع نافذة السيارة، قطع استرسال الصور فى رأسي. من دون أن يتحدث أشار إلى إطار السيارة، نزل خالى ووالدي، وعندما نزل زوج خالتى زجره الجندي: «ارجع». أوضح أنه معنا ويريد مساعدتنا. نزلنا كلنا من السيارة وأنزلنا كل ما عليها، ولم يبقَ فيها غير الذهب المخبأ بعناية.

وقد أُصلح الإطار بسلام، ركب زوج خالتى سيارته مع جدي، كل من كان فى سيارتنا انتبه لما يحدث، الجندى أوقف سيارة جدى ليتحدث مع أحد الجالسين فى الخلف، القلق والريبة خنقانا، إشارات غير مفهومة، يد جدتى تمتد إليه بعلبة وضعتْ فيها الكثير من حلوى «الغُريبة»، يمتنع الجندي، حواره كان مع «ماما أصيلة»، جدتى الطيبة المسالمة.

واشتعل غضب والدتى وهى تردد: «شبْكة أماني»، كانت تقصد ذهب خالتى المخبأ تحت طبقتين من الحلوى. الحديث طال بين جدتى والجندي، تساءلت والدتى إن كانت جدتى تساوم الجندى بشبكة خالتي، العروس التى لم تتم شهر عسلها إلا وحل الغزو.

الجندى يشير إلينا، يهز رأسه مرات عدة، يضع مبلغًا ماليًا فى جيبه، يُخرج سيارة جدى من الصف الطويل ويشير إلى خالى الغائب فى خوفه. انطلقت السيارتان فى سرعة ثابتة إلى أن تجاوزنا نقطة التوقيف.

التوقف الثانى كان عند مركز إطفاء النويصيب. هنا فُتشت السيارات وأُخذت كل الأوراق الرسمية الكويتية منا، حتى لوحات السيارات أُزيلت، أرادوا أن نكون دون هوية ولا ملامح، لكنا كنا جاهزين بتصوير كل أوراقنا الرسمية وإخفائها مع الذهب. 

وتم كل ما أرادوه منا، صعد الجميع إلى السيارة، لم أفهم السكوت الذى حل، لم يبقَ أمامنا إلا مركز النويصيب الحدودى الذى سيُخرجنا من الكويت إلى السعودية. شعرت أن نبضات القلوب كلها صارت ثقيلة، وبرد ديسمبر صار حرًا بشكل غير مفهوم. 

جنديان آخران يتوسطان الطريق، يشيران إلينا بالتوقف. تقف سيارة جدى وتقف سيارتنا خلفها، يكلم أحد الجنود جدى وزوج خالتي، يعطيهما بعض التعليمات. يشير الجندى بيده وكأنه يطلب سجائر، فيردان على طلبه بالنفي. 

وتحركت السيارة، وبتصرف غير حكيم من خالى تبع سيارة جدى من دون أن يأذن له الجندي، صاح به، أوقفه، هدده. نزل جدى من سيارته، عينه علينا، الجندى يشير إليه بأن يرجع إلى السيارة فلا يستجيب، يصيح مرة ثانية وسلاحه موجه إلى خالي. النفس انقطع، لم يعد أحد لديه أى قوة لأى شهيق أو زفير، استجاب جدي. طلب الجندى من خالى السجائر، وفى الوقت الذى كان فيه الجميع ينتظر أن يجيب خالى بالنفى لأنه لا يدخن، أخرج خالى بعض السجائر للجندي، وفى تلك اللحظة فُضح أمر تدخينه للجميع. 

تهلل وجه الجندي، وكرر التعليمات بأن الطريق الذى سيأخذنا إلى المركز محفور بالخنادق، ولذلك علينا ألا نسرع، وإذا ما واجهنا أى خندق ننزل إلى الصحراء الممتدة على كتفى الطريق، كما شدد علينا ألا نتعمق فى الصحراء لأنها مزروعة بالألغام.

وظهر الخندق الأول، علينا أن ننزل إلى الصحراء. فور أن مست عجلات السيارة الرمل، صاح خالي: «انفجرنا.. انفجرنا». ضحكنا من الخوف، كعادتنا التى اكتسبناها من الغزو، الضحك على الخوف. لذلك بعدها كلما واجهنا خندقًا نزلنا إلى الصحراء صائحين: «انفجرنا.. انفجرنا»، ونضحك من القلب. 


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة