أمل حجاج
أمل حجاج


الكاتبة أمل حجاج تكتب ..مارينا

صفوت ناصف

الجمعة، 05 مايو 2023 - 03:09 م

في الرواق الطويل تتردد كلمة مارينا .. تأتي السيدة مساعدة الطبيبة تضع للجالسين قطرة لتوسيع الحدقة_ قبل المرور على الطبيب ثم تذهب الي عملها .. 

بنبرة مرتفعة  لا تستطيع تحديد أهدافها غاضبة أم مُحذرة باقي اثنان ثم يأتي دور  "مارينا" .. حسبت في بادئ الأمر  أنه الساحل الشمالي.. بمناظره الخلابة ومياهه الصافية .. وراح خيالي لاستراحة قصيرة فوق الرمال البيضاء الناعمة بعيدا عن صخب المدينة .

دارت افلاكي مع المجرة السماوية ونجومها اللامعة بينما استلقي على اليابسة فوق الشاطئ ليلاً

تغمز لي نجمة وفجأة تروح تنطفئ .. ثم يظهر شهاب كأنه طائر نورس يميل لاختطافي فأخشى غضب الطبيعة للحظة ..ثم تعاودني السكينة ، ظلمة البحر لها ضجيج .. يتعارك الموج .. يهذي بما في داخلة من سكون أفاض بالغضب على حافة الشاطئ ، زحام لا يعلمه الذي يرى من هذا الجمال سوى بضع دقائق وحسب .. حتى اقترب الماء من الشاطئ دفعة واحدة فيعيدك برودته إلى الضيق .. استفاقة.. والعودة لصوت الممرضة  والمستشفى والأسماء  وقوائم الانتظار .. والبؤس  المتناثر في الرواق الممزق يمينا ويسارا..  وبالجانب  يفترشون الأرضية ينتظرون إشارة من الطبيب الآمر الناهي هو ومساعديه .. تجلس فوق سرير  تالف خرج من المنظومة تجلس علية نصف نائمة ، ترتدي ذات  نظارة سميكة موديل ليس قديم ولكن العدسات غليظة، تعطيها لوهلة عمر يفوق عمرها بعدة أعوام ،ولكن ما أن تنظر لوجهها الأسمر الطازج، وشفاهها البطلمية ،  وشعرها المجعد البني شديد الشبه بسنابل القمح المنمقة الممتلئة  بمواسم تنتظر الفَرح ، وتدرك بأن اعوامها لم تتخط الخمسة والعشرين ، تبادلنا الأسئلة تحاورنا قليلا علمت أنها من بلدة ريفية قريبة على أطراف القاهرة .. جذبتني فصاحتها في الحديث وسؤالها الكثير عن أطفالي وعن مدينتي والحي الذي أسكن فيه.. وما أن علمت بأنني من حي الهرم 

لمعت عيناها واقتربت مني كالنجمة التي فوق الشاطئ في الليالي الصيفية المظلمة وأحيانا المقمرة ..

دنت من أذني وهمست بصوت خافت 

"روحتي كبارية قبل كده " ضَحِكتُ بشدة  هل معني انني أسكن في الهرم بأنني اتردد على هذه الأماكن.. اعتذرت لي وخلعت النظارة عن عينها فبدت لامعة ، واسعة مستيقظة أجمل بكثير من هذا الحجاب الزجاجي المحكم..

 وضَعت يدها على عين ثم فتحت الأخري وقالت : انظري  لا أراك مطلقا بهذه العين  فقدت النظر بشكل كلي عطوالأخرى في طريق الظلام.. أنا هنا في "قصر العيني" من أجل ذلك  أعمل جاهدة على أن أشاهد كل شئ حرمت منه قبل ذهاب ما تبقى من النور.. شعرت وقتها بأن سكين أغلظ من عدساتها غرس في قلبي وبأمواح البحر ترتطم بعقلي وتشوش تفكيرى.. لا يبقي هادئا مسترسلا كما كان على الجانب الآخر ..

فكرت أن آخذها على الفور لأي محل قريب ونحظى ببعض المتعة ارضاءا لها 

ولكني بادرتها بالسؤال عن سبب شغفها للذهاب للهذا المكان بالأخص.. أجابت بأنني  أريد أن أرى متعة ملونة كما أراها في التلفاز .. انا لا أذهب لمكان سوى رحلات تنظمها الكنيسة للأديرة 

نعم نمرح، ونقضى أوقات ممتعة ،

لكنني سئمت من الحياة الرمادية، والملل الدائم...

  نعم أنا من مكان قروي لا يشعر

بالنصف الحيوي الصاخب من العالم.. تعددت أسئلتها عن ملابسهم ورقصاتهم حاولت استجماع صورا من الذاكرة عن مكان ذهبت إليه  مرتين بصحبة زوجي صدفة عندما تحول المكان بعد الساعة الثانية عشرة إلى مطربين وفقرات فنية. . كيف جذبني الضجيج وتذكرت ملابس الفتيات والنادلات وهن يتمايلن على أكتاف زوجي.. ومطرب همست في أذنه أن يغني مقطع من أغنية لأم كلثوم ففعل .. وهمت مع صوته الطربي وتمايلت ببطء .. وصعدت الفتيات على" البيست " يتراقصون على المسرح كُل له طريقة وعزف منفرد وجدت المطرب يوجه لي بعض النظرات والغمزات أثناء انسجامي الجسدي والخيالي مع أداءه فاعتدلت وكشرت عن أنيابي إلى هنا انتهت المتعة ..

ذهبنا سويا بالحديث عن ذهابها مرة لخان الخليلي وتمنت أن تجلس وتشرب الشيشة وتضع ساق على الآخرى مثل الفتيات هناك ولكن أخو زوجها المتزمت اعترض على رؤية النساء بهذا الشكل البذئ من وجهة نظره، وادعى سبب موت شخص مفاجئ من القرية وأعادهم للمنزل، وسط خيبة أمل، كنت أضحك بحزن 

وهي تبكي بسخرية، وطريقة سرد لا تخلو منها القفشات والنكات كعادة المصريين في كل الظروف وتحويل الأمر لمزحة قدرية أو غلاف يحاط بالألم الداخلي، وفي كل تفصيلة تردد لازمة مشهورة لنجيب الريحاني في النصف الأول من فيلم

" غزل البنات"

ثم يأتي فاصل من الضحك ..لفتنا انتباه جميع الجالسين .. استطعنا كسر جو الكآبة الذي يخيم على العيون المنكسرة، إلى ضوضاء قد يخترق إليها الضوء .. 

الساعة اقتربت من الرابعة عصرا .. اقترحت عليها أن تأتي معي لحي الهرم وبأن ندخل أحد تلك المطاعم "إياها" ونقتحم المكان وندعى بأننا نبحث عن عمل ونشاهد ولو قليل من المتعة  

بالفعل قررت الذهاب لمكان كنت أراه أثناء ذهابي وايابي من شارع الهرم.. سلكنا الشارع بعد انحدارنا خلال عدة تحويلات مرورية لأجد المطعم مغلق وأمامه كوبري اسمنتي رمادي حال دون فتح البوابة وبعض اعمال البناء والمعدات الضخمة، وصلة ضحك خالية من أي كلام وقفنا نتأمل صور لافتات النجوم والراقصات معلقة فوقه يملؤها الغبار، والضباب،

ثم همست 

أنا كده!

بختي كده ..

نحس طول عمري .

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة