د. خالد سالم يكتب : المهزوم والحدود بين القصة الموريسكية والمسرح الإسبانى المعاصر
د. خالد سالم يكتب : المهزوم والحدود بين القصة الموريسكية والمسرح الإسبانى المعاصر


د. خالد سالم يكتب : المهزوم والحدود بين القصة الموريسكية والمسرح الإسبانى المعاصر

أخبار الأدب

السبت، 13 مايو 2023 - 03:45 م

الحديث عن «ابن السّرّاج» فى الأدب الإسبانى يحمل المتلقى دائمًا إلى العصر الذهبى فى الأدب الإسباني، وبالتالى إلى القصة الموريسكية (موريسكى morisco صفة تطلق على العربى الذى عاش فى إسبانيا المسيحية بعد خروج العرب من الأندلس، وبالتالى فهى تنسحب على ما يرتبط بعرب هذا السياق التاريخى). خاصة  أن هذا العمل الأدبي، «ابن السّرّاج والجميلة شريفة»، عمل رئيس فى أدب تلك الحقبة، التى عكست بشكل أو بآخر، سلبًا أو إيجابًا، الحضور العربى فى شبه جزيرة أيبريا، إسبانيا والبرتغال، طوال ما يقرب من عشرة قرون، إذا أخذنا فى الحسبان أن هذا الحضور لم ينته بتسليم غرناطة عام 1492، بل استمر إلى حضور ممثل فى الموريسكيين، أى العرب الذين تحملوا عناء العيش مضطهدين فى الأرض التى شهدت مولدهم، لأجيال طويلة، حتى طردهم نهائيًا فى بداية القرن السابع عشر.

شهد هذا العصر الذهبى، القرنين السادس عشر والسابع عشر، فى الأدب الإسبانى ظهور أعمال أدبية مُوَلَّدة، مرآة للتعايش بين الثقافتين العربية الإسلامية والمسيحية فى هذه البقعة من أوروبا، حملت الأدب الإسبانى الوليد إلى مصاف الآداب العالمية مبكرًا إلى يومنا هذا، من أبرزها دون كيخوتى،  ودون خوان مانويل، ولاثارييو دى تورميس، ومسرحيات لوبى دى بيغا، إلى جانب العمل الذى بين أيدينا، « قصة ابن السّرّاج والجميلة شريفة»، وأعمال أخرى.وهى أعمال تنقل صورة العربى الأندلسى فى المتخيل الإسبانى،  فى هذا الفضاء الخيالى الذى صنعته قرائح الكتاب الإسبان اعتمادًا على الخيال تارةً وعلى الوقائع التاريخية تارةً أخرى، لكن من منظور المنتصر، المتعالى على الآخر، فى أغلب الأحيان، وإن حاول المؤلف جعل المسلم مثاليًا حسب منظور القصة الموريسكية، إذ إنها ولدت فى هذا السياق.

 

إنه السياق الذى شرع فى منح المسلم المهزوم بعض حقه، وتعاظم هذا السياق ليصل إلى الرومانسية على المستوى الغربى التى تخللها تيار يستلهم أعمالاً تنتمى إلى هذا الحضور: «ابن أُمية»، لمارتينيث ديلا روسا، «قصيدة غرناطة» لخوسيه ثورّييا، فى إسبانيا، و«آخر بنى سراج»، للفرنسى شاوتوبريان، و«حكايات الحمراء» للأميركى واشنطن أرفينغ. لم يكن هناك عائق أمام نعت الفرسان العرب بالنبل فى مساواة مع نظرائهم الإسبان بموجب روح التيار الأدبى السائد فى عصر النهضة. وهو ما سيدركه القارئ لقصة «ابن السّرّاج والجميلة شريفة» التى تعود جذورها إلى ما يسمى بالقصائد الشعبية الحدودية وتعالج أحداثًا واقعية، حوادث وقعت على الحدود بين الثقافتين، مع منح الشخوص المسلمين درجة من المثالية، وهو ما يُشاهد فى شخص ابن الريس بطل هذه القصة، فى قسمها السردى وقصائدها الشعبية، إذ يتصف بالنبل والوفاء بكلمته للإسبانى المسيحى وإن عرضته هذه الخصال للحبس والحرمان من الزواج بشريفة، وهو المشروع الذى كلفه الوقوع فى الأسر بينما كان ذاهبًا للقائها والزواج بها. وهذه المثالية تشمل طرق حياة المسلمين وملابسهم وعاداتهم. واللافت للنظر أن هذا الجانب الإيجابى عن العرب لا يزال قائمًا فى مخيلة الإسبان إلى اليوم رغم التشويش الذى شابها جراء ظروف سياسية ودينية وأخرى تتعلق بدور الكنيسة التاريخى وجماعات التأثير الصهيونية والعمالة المهاجرة منذ تسعينات القرن العشرين.

القصة الموريسكية جنس فرعى داخل النثر السردى ذو طابع مثالى،  فى إطار النثر الخيالى للقرن السادس عشر، عمل دائمًا على تقديم أبطال مسلمين وفى الوقت نفسه جعل من العلاقة بين المسلمين والمسيحيين علاقة مثالية قائمة على التعايش وكرم التعامل بين الطرفين، وأدخل فى هذا العنصر السياسى،  إذ أن السلطات لم تكن لتريد حدوث مواجهات مع المسلمين، إذ كانت فترة يعلوها السلم، وكان سلمًا منشودًا فى بلد فتى ما شرع يسيطر على العالم الجديد، أميركا اللاتينية التى وصل إليها الإسبان سنة سقوط غرناطة، أى فى عام 1492.

يعكس هذا العمل خصائص القصة الموريسكية من مثالية جلية، فهناك تعاون وتفاهم بين المسلم والمسيحى،  مع وجود عنصر يقشب العقبات كلها، وهو الحب، حب ابن الريس لشريفة. وهو تيار يحاول إعادة خلق فضائل الفروسية فى العصور الوسطى، بدلاً من البعد عنها على غرار دون كيخوتى.وهى بصفة عامة قصص قصيرة مكثفة،مع استثناءات قليلة فى هذا السياق خرجت عن هذه القاعدة، من بينها«الحروب الأهلية فى غرناطة». والشخصية الموريسكية تنتشر فى أعمال ذلك العصر الذهبى الإسبانى والفترة اللاحقة، ولم تقتصر على السرد، بل امتدت إلى الشعر الشعبى والمسرح..

وبحثًا عن المناخ الثقافى لهذه القصة، المجهولة المؤلف، لجأ هذا الأخير إلى شخوص بأسماء وألقاب عربية أندلسية، إضافةً إلى كلمات عربية اقتبستها اللغة الإسبانية إبان الحضور العربى فى شبه جزيرة أيبريا، لا يدركها قارئ النص المترجم، بل الأصلى.وتسعى القصة إلى تعايش ممكن بين ثقافتين متنافرتين سنتئذ، فى زمان كان يحاول النظام الجديد توحيد ثقافة إسبانيا وافساح المجال أمام المسيحية كى تكون السيطرة لها وتصبح الدين الوحيد فى شبه الجزيرة، وهو ما أدى إلى طرد الموريسكيين بشكل نهائى فى مطلع القرن السابع عشر. إلا أن هذا التعايش المنشود فى «قصة ابن السّرّاج والجميلة شريفة» لم يكن سوى حلم، يوتوبى، صعب المنال. ومع هذا فقد تجلت فى القصة روح العرفان بفضائل المهزوم، على عكس مسار تاريخ البشرية، و ما كان يخالف الروح السائدة حينئذ، الأمر الذى وصفه البعض بأنه مغالاة فى تمنى التعايش بين ثقافتين متنافرتين بسبب ظرف الصراع التاريخى فى تلك الفترة الذى ترتب على ما يسمى بحرب الاسترداد، استرداد إسبانيا من أيدى العرب، وهو خطأ تاريخى إذ أخذنا فى الاعتبار آراءً أخرى ترى فيها حربًا أهليةً، فهؤلاء العرب والمسلمون توالدوا ثمانية قرون منذ عبور طارق بن زياد المضيق وبدئه غزو شبه الجزيرة.

ورغم هذه المثالية واليوتوبيا فإن واقعًا ملموسًا نجده فى هذه القصة، يتمثل فى خلفية حقيقية وتاريخية وأحداث شهدتها مملكة غرناطة، إلى جانب عائلتى بنى السَّرَّاج والثغريين، ما يثبت أن التاريخ لعب دوره فى مسرح «ابن السّرّاج ». لهذا فإنه تمثل مزجًا لعالم الفرسان العاطفى على حدود ثقافتين.

تشكل «ابن السراج والجميلة شريفة» إحدى زوايا مثلث الأعمال المهمة المجهولة المؤلف التى تنتمى إلى عصر النهضة إلى جانب «القوادة» و«لاثارييو دى تورميس». ولا تزال هناك علامات استفهام حول هوية هذه القصة، تتعلق بتاريخ تأليفها، إذ كانت هناك ثلاث طبعات لها، أبرزها النص الذى ضُمن فى القصة الرعوية المشهورة «ديانا» ونشرت فى مدينة بلد الوليد عام 1561 وزيد عليها قصة حب ابن الريس لشريفة. ويذهب البعض إلى أن الناشر ضَمّن هذه الطبعة من الرواية الرعوية القصة سالفة الذكر، حب ابن الريس وشريفة، لأسباب تجارية.

وعمد هذه القصة مجموعة من الأغانى الشعبية الإسبانية، وهى مجهولة المؤلف وتاريخ التأليف كغيرها من التراث الشفاهى فى أى ثقافة. وظلت هكذا إلى أن تناثرت ضمن صفحات مؤلفات أخرى حتى نشرت لأول مرة فى منتصف القرن السادس عشر. وقد تناقلتها الأجيال حتى القرن الماضى وتغنى بها أهل الريف الإسبانى فى سهراتهم قبل سيطرة المرناة –قبل وسائل التواصل الإجتماعي!- والتطور الذى طرأ على الحياة فى الريف، وهو ما حكاه لى بعض الأصدقاء الذين عاشوا وتغنوا فى الريف بهذه الأغانى الشعبية فى صغرهم، خاصة فى إقليمى قشتالة.

والقصة فى موضوعها تبدو للوهلة الأولى بسيطة، فهى تعرض لحكاية ابن الريس، أحد أشراف الأندلس، فبينما كان فى طريقه من قَرطمة ، للقاء محبوبته شريفة الجميلة التى تعيش فى قصرها فى كوين، وكان عليه أن يعبر منطقة حدودية معادية، ألورة، بينما كان يطلق عليه الإسبان حرب الاسترداد لا تزال قائمة والطوائف العربية الإسلامية تتنازع على السلطة، اعترضه فرسان مسيحيون يعملون فى خدمة عمدة ألورة رودريغيث دى نربايث. وقع صراع غير متكافئ الطرفين، ومع هذا تغلب العربى على الفرسان المسيحيين، إلا أنهم استنجدوا «بالبطل» المسيحى،  العمدة، الذى تمكن من ابن السّرّاج فى الجولة الثانية. وقع ابن الريس فى الأسر، وبينما كان الحزن يملؤه نظرًا لأن الواقع الجديد سيحول دون وصوله إلى خطيبته والزواج بها. حكى مأساته للنبيل المسيحى الذى تفهم قضيته وأطلق سراحه لأيام يعود بعدها إلى الأسر. وعملاً بنبله وفى الفارس العربى المسلم بكلمته، فبعد لقائه بمحبوبته وزواجهما عاد إلى العمدة المسيحى الذى أطلق سراحه نهائيًا، بلا فدية، فما كان منه إلا أن أرسل هو وزوجته، شريفة، للمسيحى هدية ثمينة تتناسب مع كرم العمدة الإسبانى.

تركت «ابن السراج والجميلة شريفة» أثرًا مستمرًا فى الأدبين الإسبانى والأوروبى.هذا بالإضافة إلى أن هذا الكتاب كان نقطة إنطلاق لبدء مجموعة نوعية من الأعمال التى عُرفت بالأعمال الموريسكية لتقف على رأسها كلها فى مجال السرد. وحظيت بانتشار أدبى طال شخوصها الثلاثة: دون رودريغو وابن الريس وشريفة، ونالوا شعبية واسعة فى قصائد الخيال الشعبى فى El Romancero . وهو العمل الذى ترك أثره فى أعمال إسبانية وأوروبية أخرى، أبرزها دون كيخوته، خاصة الجزء الأول من الفصل الخامس، وهذا ليس مستهجنًا فى بطل هذا الرواية الذى أصيب بالجنون بسبب قراءة الكثير من الكتب. وقد أجرى بعض الموازاة بين دولثينيا فى دون كيخوتى،  وشريفة فى هذه القصة الموريسكية. ومن ناحية أخرى اقتبس لوبى دى بيغا حبكة هذه القصة الموريسكية، وهو ما أكده دون مواربة. ثم تخطى تأثير «ابن السراج والجميلة شريفة» حدود إسبانيا لتصل إلى إيطاليا وفرنسا. واهتم الكتاب ذوو الميول الرومانسية بالقرن الأخير من حرب الإسترداد فى شبه جزيرة أيبريا، وما تضمنه من صراعات وحروب بين العرب والمسيحيين، بالإضافة إلى الوضع المتقلص للحضور العربى فى الأندلس، وما تضمن ذلك من مشاهد وحكايات خيانة وكرم، عنف ونبل، فكانت مادة ثرية لأولئك الكتاب. وهو ما حدث فى حالة شاتوبريان فى عمله الأكثر تمثيلاً، استلهامًا لهذا التيار والحقبة الأندلسية Les Aventures du dernierAbencérrageالذى كتبه سنة 1826.

وهناك آراء كثيرة حول قصة «ابن السراج والجميلة شريفة». ولعل من أبرزها كان لبارتولوميه خوسيه غياردو، المعروف بزهده للمديح، إذ قال عنها: هذا العمل يبدو وكأنه كُتب بريشة من جناح ملاك» . ومن جانبه رأى مينينديث بيلايو إن العمل، فى نسخته الخاصة ببيغاس، عبارة عن «نموذج لطبيعة حنون، لرق، لحسن ذوق، لمشاعر فياضة ونبيلة، بحيث أنه لا يوجد فى أدب لغتنا قصة قصيرة تتفوق عليها».

لقد خيمت الحدود بسحرها بين ثقافتين متصارعتين، لكن المنتصرة كانت تجنح إلى السلم لأهداف سياسية واجتماعية، لهذا تحلت العلاقة بالكرم بين الطرفين، كرم دون رودريغو دى ناربايث تجاه النبيل العربى المهزوم، ابن الريس. وكانت هذه العلاقة جديرة بأن تفسح المجال لصفة أدب الحدود. غير أن المناخ التاريخى للحدود يعيد طرح قضية الكرم، وهى نواة تتعلق بالحبكة بصفة عامة ما يؤدى إلى معالجة جديدة من النوع الأخلاقى والسياسى، فشخوص العمل يعيشون مواجهة ترجع لأسباب دينية حاسمة وتتعلق بالوطن الوليد، إسبانيا، مع سيطرة للموضوع الجوهرى فى هذا السياق، وهو الكرم.

حاول مؤلف العمل تخصيص مساحة لآثار المواجهة بين بطلى القصة عبر المضاهاة بينهما، وهنا لجأ إلى سن كل واحد منهما، ما يوحى بالتأثير على تصرفات كل واحد انطلاقًا من خصوصيتها، فالمسيحى يتسم بالخبرة انطلاقًا من سنه وظروفه، وفى المقابل نجد العربى شابًا يتسم بالجرأة، فيه بعض النزق، ما يجعله موضعًا للنصح. وعليه يطلق الشاب العنان لعشقه لشريفة فيجرفه هذا العشق ويحول دون التروى والتفكير فى العواقب. كلاهما يعمل من منطلق ظرفه الشخصى،  ويمارس الفضيلة بموجب وضعه، وكان اللقاء على أساس أن كل واحد فى حاجة إلى الآخر ليحقق الكمال الإنسانى.لهذا جاء نربايث متشحًا بالنضج والهدوء مقابل ابن الريس نجده فى حاجة إلى مساعدته، وهو ما حمله على أن يعرض عليه قصة عشقه ومأزق الوقوع فى الأسر يحول دون تحقيق مبتغاه: لقاء محبوبته والزواج بها.

هى إذًا حرب الحدود بما تتضمنه من معارك ومناوشات الهدنة. إنها نقطة انطلاق هذه القصة، وهناك تشغل المناوشات الفردية حيزًا من ساحة العمل الذى يتضمن صور الحرب وأحداثها المتواترة. إنها معركة بين مسلم ومسيحى أدت إلى سقوط أحدهما فى الأسر، رغم شجاعته وصرعه لرجال الثانى،  وهو حادث يومى فى حرب الحدود، استغله المسيحى ليظهر ما لديه من فضيلة الكرم. ويعتقد أن التقاليد كانت وراء الربط بين درسى الكرم. والكرم جلى فى إطلاق سراح الأسير واحترام امرأة المهزوم على غرار ما كان يحدث فى تلك الفترة.

إظهار الكرم فى هذا العمل موضوع أساسى،  ومحاولة من الكاتب إضفاء طابع تاريخى على هذه الحالة، فالسياق التاريخى كان يسمح بهذه الشيمة، على غرار كتب الفروسية، فهذه حالة فارس حدود، وهو دون رودريغو دى ناربايث الذى تمكن بسبب ظروف الحياة الحدودية بين مسيحيى قشتالة وعرب غرناطة فى حقبة المملكة النصرية، وبعد مناوشة حدودية ، من القبض عليه، بعد أن أظهر بسالته وقوته القتالية. من كل هذا، وعلى أرض هذا الموقع الحدودى،  نسج المؤلف حبكته، ودون هذه الحدود يصعب على المؤلف كتابة القصة.

وفى هذا السياق يقر الناقد وأستاذ الأدب المقارن كلاوديو غيين بأن هذه القصص والحكايات الحدودية لا تقدم المسلم على أنه مسلم، بعيدًا عن النظرة الشمولية للمسيحى.وهذا يحدث لقانون الإبداع الشعرى نفسه الذى ينتهى إليه العمل. ويقول إنه ليس تقريرًا تاريخيًا أو اجتماعيًا، بل عملية سرد وُضعت على أساس خبرة جماعية للشعب الإسبانى وتشمل المسيحيين والمسلمين، وعلى وجه الخصوص أولئك الذين كانوا يعيشون فى المناطق المتاخمة للحدود، بما فى ذلك سكان القصور، وكانت هناك علاقات حرب وسلم متبادلتين صبغت أسلوب حياتهم. لقد اختار مؤلف «ابن السراج والجميلة شريفة» الخيوط السردية للحمة فى هذا الوضع التاريخى الخاص بالحدود، ففى القرن الخامس عشر كان الحد فى إسبانيا الفضاء الوحيد فى أوروبا الذى كان فيه هذا النوع من الحياة.

بيد أن لوبيث إسترادا يصر على اقتراب «ابن السراج والجميلة شريفة» إلى الفن القصصى،  وأشار إلى الميزات الشكلية. وبهذا فهى مسألة متابعة السرد، أى الشكل الذى يُدرج فيه تطور المحتوى فى العمل بمتابعته ذاته. ويلاحظ أن مؤلف العمل يضع فى مسار الحكاية حالة حب تؤدى إلى اللقاء بين المحاربين بينما الحل الودى يسير عبر الطرح العاطفى،  وهو أمر خاص بالقصة من وجهة النظر العامة. هذه الحالة من الحب جعلت من ابن الريس مسلمًا شجاعاً وعاشقًا فارسًا، ولهذا ضمن القصة أسرار حبه لشريفة فى لحظة الذروة.ويقول إن العشاق المسلمين يلتزمون بالقيام بذلك على أكمل وجه، بشكل أكثر نبلاً منه فى المسيحية.

والشخصان لهما وجود حقيقى تاريخيًا، فعائلة بنى السراج عائلة غرناطية معروفة. يروى عنها أنها نالت منصبا مهما فى عهد بنى الأحمر، فى القرن الخامس عشر. وفى قصر الحمراء لهم قاعة تحمل اسمهم، القاعة التى قُتل فيها نبلاء العائلة. أما دون رودريغو دى ناربايث فقد شارك فى غزو أنتكيرة فعلاً، ورفاته موجودة فى قبر فى كنيسة سان سباستيان فى أنتكيرة. وهى شهادة حقيقية على واقع –حياة الحدود الأندلسية فى القرن الخامس عشر- بُنيت عليه القصة والقصائد الشعبية لحقبتها، وهى مادة ذات طبيعة أدبية. وكلاهما يعمل بموجب قانونه، قانون الجماعة التى ينتمى إليها كل منهما.

لا يوجد فى «ابن السَّرّاج» أى نية لتغيير قانون المسلم المهزوم ولا حتى فى حالة هزيمة السلاح ولا بعدها، ولا فى حالة حرية الزوجين العاشقين. وقعت الأحداث مع حفاظ كل طرف على قانونه. قد يُنتمى إلى قوانين مختلفة، ومع ذلك يتم الاجتهاد كى يتم الحفاظ على الظرف الإنسانى تحت لواء الفضيلة، على الأقل بين الأفضل والأكثر تصنيفًا فى كل مجموعة. وكذلك فى حالة ما إذا استدعت حتمية سياسية قيام المعركة، فإن الفضيلة يمكن أن تؤدى إلى إعادة الانسجام بين الرجال فى أقرب فرصة ممكنة. المعيار الإنسانى يفرض نفسه على الآخرين، وهو ما يعمل كمؤشر جودة له، وفى هذه الحالة فإنه هو أهم ما يعمل كأساس للقصة. وكذلك فى قيام السياسة بمواجهة الرجال والحرب تمثل إحدى وسائلها، فإن الإعتبارات الأخلاقية يجب أن توجه مسارهم كى يعودوا إلى الصداقة والوفاق.

و«ابن السراج» قصة تدور أحداثها على أراضٍ أندلسية-إسبانية، وأحداثها جزء من مجموع تاريخى وثقافى غاية فى التعقيد، رغم بساطتها أمام المتلقى العادى.إلا أن عناصر الاختلاف الظاهرية تحقق نموذجية مقعدة رغم سهولة العرض. وقد أراد المؤلف أن يعرض ما كان يحدث عندما كان الرجال يوضعون تحت الإختبار فى لقاء بدأ حربيًا وانتهى وديًا.وتحويل الحرب إلى وسيلة للتوصل إلى الصداقة، إحدى تظاهرات السلام، يبدو أمرًا يدور بين فرسان فى حيز من الروحانية المدنية: البطل المسيحى يبذل جهدًا من أجل التوصل إلى هذه القمم من الطيبة دون أن تتدخل بشكل واضح العوامل الدينية، وهو ما يحدث بموجب ومن أجل حالة ضمير. يكتفى البطل بذاته كى يتغلب على الصعاب ويواصل تصرفه الشخصى والاجتماعى ما يؤطر لانسجام يجمع بين القانونين، المسيحى والإسلامى،  دون ربط أيٍّ منهما بالآخر. وهذا المستحيل التاريخى يؤطر لتوتر خاص يدركه المؤلف ويفسح له فضاءً. وفى هذا الإطار يقول البريطانى بيتر نورمان دون  Peter Norman Dunn، أستاذ الأدب الإسبانى، إن العمل قد يبدو ساذجًا بسبب المعالجة الفنية المفرطة، إلا أن هذا يشكل جزءًا من معنى العمل الذى تكمله الخبرة الشعرية للغنائية والملحمية. ويلجأ الكاتب إلى هذا الأمر كى يحدث فى القارئ حالة من الرضاء الروحانى عند التأكيد على أن انتصار الفضيلة يسفر عن آثار من خلال اللحمة القصصية التى تُبرز نموذجية مثالية.

جلى أن قصة ابن السراج نالت، منذ انتشارها، أهمية تخطت الحدود المحتملة لعمل من نسج الخيال والتناقض بين عرض الحكاية القائم على الصداقة بين المسلمين، ممثلين فى أحد أبناء عائلة بنى السراج النبيلة وشريفة، والمسيحيين، ممثلين فى القائد الحدودى دون رودريغو دى ناربايث. وكان هناك الواقع السياسى والاجتماعى الذى كان يتفاقم فى العنف الواقع على الموريسكيين، وهو عنصر أبرزه الأستاذ فى جامعة مدريد أوتونوما أنطونيو راى آثاس وزميله فرانثيكسو سيبييا، إذ يشيران إلى أن الدرس النموذجى فى التسامح الدينى الذى يمكن استشعاره بين السطور فى هذا العمل لم يُستغل لتحسين العلاقات بين الأقليات والسلطات، إذ ساءت هذه العلاقات حتى تمت عملية طرد الموريسكيين. ومع ذلك فإن النجاح الأدبى كان كبيرًا فى السياق السردى وتخطى الواقع المؤلم للأحداث التاريخية، وفتح طريقًا مؤثرًا عبر الأشعار الشعبية، إلرومانثيرو Romancero،صوب القرن السابع عشر.

وفى هذا السياق يشير كلاوديو غيين إلى أن العمل لا يتضمن أى جهد لإعادة بناء حياة المسلمين، وأن الواقع الموريسكى فى تلك الحقبة لم يُسجل على صفحات هذا العمل، رغم أنه استُحسن استقباله على يد النبلاء الذين كانوا عمد سياسة الملك. إلا أنه يمكن أن يكون بمثابة تذكرة بوجود الموريسكى الذى كان فى ظرف صعب أمام المجتمع ورافضًا للاندماج، وكان قبل ذلك بنصف قرن المسلم المحارب الذى كان ينعم بفوائد الصداقة والتودد إليه.

لا شك فى أن الاكتفاء بقراءة واحدة للقصة قد يؤدى إلى رؤية جزئية للقضية، وإذا كانت محدودة فيمكن أن نعد قصة ابن السرّاج حلمًا شعريًا جميلاً، وكذلك فهمها على أنها عدوان أدبى خفى ضد سياسة ملك. وهنا يقر لوبيث إستراد باحتمال يصب فى أن مؤلف العمل قد ساقه حدسه إلى هذا التفسير المتعدد، وكان نجاحه يكمن فى التوصل إلى التشفير فى إطار الوحدة القصصية وأن يؤدى هذا إلى طريق الخلاص الأخلاقي: الشخصى فى مقابل السياسى،  أى ما يعنى انتصار الأفراد، نربايث/ابن الريس، فى مقابل الجماعة، حرب الحدود.

يكمن نجاح قصة ابن السرّاج فى جمع هذا الكم من الظروف، استعراض تنوع الحياة على الحدود فى الحقبة الأخيرة من العصور الوسطى عبر غطاء فكرى من عصر النهضة بالجمع بين التقليد والحداثة،التاريخ والخيال، حسب الذوق الإسبانى.وبهذه الطريقة نجح فى الأدب الصرعة نفسها المرتبطة بعالم البلاط بغطاء اسلامى من أجل التظاهر بالمناوشات نفسها مع المسلمين ثم تحولت بعد سقوط غرناطة إلى أمر معتاد.

إن هذه الروح، روح الحدود فى منظورها الإيجابى تجاه العربى المهزوم، أو الذى فى حاجة إليهم،ممتد إلى اليوم ممثلاً فى الكثير من أعمال المسرح الإسبانى المعاصر. إننى أعنى هنا مسرحيات إسبانية تعالج مسألة الهجرة، وهى الظاهرة الطارئة والدخيلة على الأدب الإسبانى،  وبالتالى على المجتمع الإسبانى كله. إنها ظاهرة الهجرة من دول المغرب العربى وإفريقيا إلى إسبانيا بحثًا عن سياق اقتصادى ومعيشى أفضل. وقد أدى هذا إلى ردة فعل متنوعة فى المجتمع الإسبانى،  وتلقفها الأدب الإسبانى،  وعلى وجه الخصوص المسرح، إذ نُشر فى العقدين الأخيرين عشرات الأعمال تعالج ظاهرة الهجرة، وكيف يتعامل المجتمع الإسبانى مع المهاجرين، بعضها استلهم عنوانه من العربية.

الأعمال المسرحية التى تعالج هذه المسألة تحاول جلُها توعية المجتمع تجاه هؤلاء الضيوف الجدد من منطلق أن إسبانيا كانت فى تاريخها المعاصر بلدًا طاردًا للكثير من سكانه الذين اضطروا يومًا ما إلى الهجرة إلى بلدان أوروبية أخرى وأمريكية لاتينية، فى منتصف القرن العشرين، إضافة إلى المناداة بالابتعاد عن العنصرية تجاه المهاجرين.وبالإضافة إلى الأعمال المسرحية التى تعالج هذه المسألة فهناك أعمال أخرى تدور حول التعايش فى الأندلس بين أبناء الثقافات الثلاث التى تعايشت فى ظل الحكم العربى لشبه جزيرة أيبريا طوال ثمانية قرون.

المشهد فى العقد الأخير من القرن العشرين شهد تحولاً كبيرًا ما أفسح المجال أمام ظاهرة جديدة، ظاهرة الهجرة إلى إسبانيا عبر مضيق جبل طارق وما صحبها من خطاب إجتماعى سياسى حول الدمج والإندماج، وخطاب الإقصاء وكراهية الأجانب وعدم التسامح، والتهميش، والخوف على الهوية الوطنية، إلخ. الخوف من الاختلاط بثقافات أخرى وضياع التقاليد تمثل غطاءً لتمويه العنصرية وكراهية الأجانب، دون أن يدرك مؤيدو هذا التوجه أن ضياع التقاليد فى المجتماعات الغربية مرتبط بظاهرة العولمة أكثر ارتباطه بظاهرة الهجرة.

وقد اهتم أكثر من مسرحى بمعالجة الظاهرة فى أعماله، وهى الظاهرة التى تشغل المجتمع الإسبانى ما يصب فى تظاهرات سلبية متزايدة تجاه المهاجر، نتيجة مخاوف جماعية تنبع أمام المجهول والغريب والتمازج بين الأجناس. بعض هذه الأعمال يشجب تصرفات ومواقف للمجتمع الإسبانى المعاصر تجاه المهاجرين.ومن بين المسرحيين الذين عالجوا هذه الظاهرة خيرونيمو لوبيث موثو الذى وضع عنوانًا عربيًا لمسرحيته له وهو أهلاً Ahlán، (1996)، ودابيد بلانيل David Planell فى مسرحية «بازار Bazar» (1997)، وخوان مايورغا فى «حيوانات ليلية Animal esnocturnos» (2003)، وسيرجى بيلبيل فى مسرحية «غرباء Forasteros »، (2004)، وخوسيه مورينو أريناس « الشاطئ Te vas a ver negro «الأعمال التى عالجت التعايش فى الأندلس كثيرة، ويعنينا هنا مسرحية رأس الشيطان La cabeza del diablo» للكاتب خيسوس كامبوس غارثيا، ومسرحية «زهراء: مفضلة الأندلس»Zahra : favorita de Al-Andalus للكاتبة أنطونيا بوينو، إضافة إلى أعمال أخرى كثيرة.

تجمع جل هذه الأعمال على رسالة رئيسة تصب فى أن على المجتمع الإسبانى أن يكون أكثر سخاءً بصفته مضيفًا، لكن هذا لا يعنى أن هذه الأعمال لا تنتقد جوانب أخرى، بما فى ذلك تصرفات المهاجر نفسه. كما أن رسالة هذه الأعمال واضحة: على المجتمع أن يتغير ليتواءم مع الوضع الجديد، أى وجود المهاجرين فى المشهد المحلى.

من اللافت للنظر أن الأعمال التى تشهد هذه الظاهرة الجديدة فى المشهد الأدبى والثقافى الإسبانى حملتنى على التفكير فى مولد أدب حدود جديد يعالج التماس بين الثقافتين العربية والإسبانية، على غرار القصة الموريسكية وأشعار الحدود Romances fronterizos التى انتشرت فى القرن السادس عشر، وعالجت صورة الموريسكى المهزوم لكنها رفعت من شأنه بابراز خصاله النبيلة وفضائله.هذا رغم أنا «الآخر» لدى المسرح ليس المسلم المهزوم، بل المسلم الذى لجأ إلى إسبانيا وعبر حدودها بشكل غير شرعى، فى أغلب الأحيان، عبر مراكب بدائية صورها بعض هذه الأعمال المسرحية. الظروف مختلفة لكن هناك عناصر مشتركة، يقف على رأسها الشخوص المسلمون، فى حالة ضعف وحاجة إلى كرم الإسبان فى استضافتهم وتوفير سبل حياة كريمة لهم بدءًا بالعمل.

وددت بهذا أن أنهى دراستى عن القصة الموريسكية لأشير إلى أن روحها تمتد إلى اليوم فى الأدب الإسبانى،  موقفه من «الآخر» العربى،  وهذا موضع دراسة أخرى أعددتها فى سياق آخر ونُشرت بالإسبانية فى العدد 49 من مجلة «أبواب الدراما»، على أمل أن نفسح مساحةً من بحوثنا لهذا الجانب من الأدب الإسبانى المعاصر الذى يصل الحاضر بالماضى.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة